“بارثينوبي”..
العودة إلى الجمال العظيم مع طبقة من الغموض
أمير العمري
“الجمال
يمكن أن يفتح الطرق.. كما يمكن أن يشعل الحروب”.
هذا ما يقوله الكاتب الأمريكي “جون شيفر” الذي يقوم بدوره
غاري أولدمان، لبطلة فيلم باولو سورينتينو الجديد المثير والغامض
“بارثينوبي”
Parthenope
وهي حكمة تحمل من الإطراء، بقدر ما تحمل من التحذير.
عرض فيلم “بارثينوبي” في مسابقة مهرجان كان السينمائي
الـ77، وانقسمت الآراء من حوله، رغم أنه عمل شديد الإخلاص لفكر وأسلوب
مخرجه المرموق، فهو يسعى من خلاله، إلى سبر أغوار فكرة “الجمال” المبهر
التي سبق أن عالجها، على صعيد مختلف، في فيلمه الشهير “الجمال العظيم”
The Great Beauty (2013).
“بارثينوبي”
هو الاسم الذي أطلقه اليونانيون على مدينة نابولي في بداية تأسيسها،
مستلهما من إحدى الحوريات السبع، حارسات أثينا القديمة. والمغزى المجازي
لإطلاق هذا الإسم على بطلة الفيلم، ذات الجمال المبهر، هو أن سورينتينو،
يستخدمه هنا كرمز لمدينته، التي ولد ونشأ فيها، نابولي، التي أخرج عنها
فيلمه السابق مباشرة “يد الله”.
ولكن بينما كان “يد الله” يعبر عن “النوستالجيا”، أو الحنين
إلى الطفولة وإلى عصر البراءة، وكان يصور كيف لعبت نابولي دورا كبيرا في
تشكيل وعي بطل فيلمه (الذي يعتبر المعادل السينمائي لشخص سورينتينو نفسه)
بالعالم من حوله، تجسد “بارثينوبي” بكل ما يحيط بها من غموض وتناقضات
وتعقيدات، فكرة المدينة التي تجمع بين الجمال المبهر، والبراءة الخارجية،
مع قدر من التدني والتدهور وغياب الروح.
بارثينوبي- الفتاة- تحاول التمرد على حقيقة جمالها، تتجه
نحو طريق الاهتمامات الجادة، لكي تخلص نفسها من فكرة “تفاهة” الجمال في حد
ذاته، تمتنع عن الجنس الذي لا يشبعها، لكنها لا تتورع عن الاستسلام عن وعي،
لكل ما يتناقض مع منطق الأمور، بغرض الإقدام بكل جرأة على التدنيس، أي أمام
تمثال القديس سان جينارو في الكنيسة، ومع القس المترهل المسن، الغليظ،
الشهواني.
هذه التناقضات تؤكد فكرة الرمز.. إلى المدينة التي تجمع بين
كل هذه التناقضات: الجمال، الجاذبية، الغموض، والتدهور. وهو نفس المعنى
الذي ستردده المغنية العجوز المشهورة “غريتا كول”، التي تنتمي للمدينة،
والتي غادرتها من عقود، ثم عادت إليها للترويج لها تحت إغراء المال، لكنها
بدلا من ذلك، تنفجر في حشد المعجبين الذين تجمعوا للاحتفال بها وبعودتها،
لتهجو المدينة المتعفنة، وصب لعناتها على أهلها الذين تقول إنهم “دائما ما
يلقون باللوم على الآخرين بسبب تدهور مدينتهم”.
لكن سيمضي وقت طويل قبل أن نصل إلى هذ المشهد في الفيلم
الذي يمتد إلى 136 دقيقة. وهو يبدأ من ولادة “بارثينوبي” في عام 1950،
تلدها أمها وسط مياه البحر التي يطل عليها قصر العائلة، ثم يمضي الفيلم بعد
ذلك في فصول محددة الأزمنة، وكأن سورينتينو يروي قصة خيالية، مستوحاة من
عالم الأحلام.. قصة أسطورية تتناغم مع مغزى الاسم الذي اختاره للمولودة ذلك
العجوز الذي يعتبر نفسه الراعي الذي يصبغ لطفه وكرمه على أسرتها، أي
“الكوماندوري”. وسوف يظل باستمرار يتأمل في جمالها ويغازلها ويتحسر على عدم
قدرته أن ينال حبها بسبب فارق العمر بينهما!
تنتمي الحورية الجميلة لعائلة ثرية، تقيم في قصر يشبه
القلعة، يشرف مباشرة على مياه البحر التي تسري من تحته، تعيش مع أمها
وأبيها وشقيقها “ريموندو”، الذي سينبهر بجمالها بعد أن تصبح في الثامنة
عشرة من عمرها مثل غيره من الرجال الذين تتركز نظراتهم جميعا عليها كما لو
كانوا، كلما مرت من أمامهم، وكأنهم أمام إلهة من آلهة الجمال عند الإغريق،
التي تسحرهم فيتجمدون كالتماثيل في أماكنهم.
هذا المعنى يصل إلينا كمشاهدين، من خلال أسلوب التصوير الذي
يستخدمه سورينتينو وتركيزه طويلا على وجود الرجال، الذين يبدون كالمنومين
تحت تأثير ابتسامتها الغامضة المثيرة، وجسدها الملفت، وعينيها الساحرتين.
هل هي حلم أم حقيقة، واقع أم خيال، خيال أم أسطورة؟ وما معنى الجمال وقيمته
عند صاحبته، هل تشعر هي بتأثيره؟ كلها تساؤلات يدور الفيلم حولها لكنه لا
يجيب ولا يقطع بل يبقي على الغموض والتساؤل.
في 1968 تلتحق بارثينوبي بالجامعة، يشرف على دراستها
البروفيسور المأزوم “دو فيتو” (يقوم بالدور سلفيو أورلاندو الذي سبق أن قام
ببراعة، بدور الأب أنجلو في مسلسلي سورينتينو الشهير “البابا الشاب، ثم
البابا الجديد) وهو يبدو هنا وكأنه ينتمي إلى عصر آخر. إنه الرجل الوحيد من
بين الرجال الذين نراهم في الفيلم، الذي لن يقف مبهورا أمام جمال بارثينوبي
الأسطوري، بل سيرى فيها ما لا يراه الآخرون، عقلها وتفوقها الدراسي
وذكائها، ثم ستقتنع هي بدراسة علم الأنثروبولوجي (دارسة السلالات البشرية)،
ويظل يقف معها ويدعمها إلى أن تصبح أيضا عضوا في هيئة التدريس في الجامعة،
ثم يرشحها لكي تأخذ مكانه في رئاسة القسم، عندما يقرر التقاعد.
لكن قبل ذلك ستكون مياه كثيرة قد سارت في الأنهار، فسوف
ننتقل أولا إلى عام 1973، حينما تذهب الفتاة مع شقيقها المكتئب ريموندو،
وعاشقها الصامت الأنطوائي “ساندرينو”، إلى جزيرة كابري حيث تلتقي هناك
بالكاتب الأمريكي “جون شيفر”، تقول له إنها قرأت كل قصصه القصيرة، وهو الذي
يحذرها من جمالها وما يمكن أن يصنعه بها، وعندما لا تبدي مانعا من أن تهب
نفسها له، يبتعد عنها قائلا إن الشباب أولى منه بالجمال. وسوف تنتهي رحلة
كابري بانتحار شقيقها لتدخل لفترة طويلة في نوبة من الاكتئاب.
تحاول الاستجابة لنصيحة وجهت إليها بالسعي لأن تكون ممثلة،
لكن الممثلة المخضرمة “فلورا مالفا”، التي تضع نقابا مليئا بالثقوب تستر به
وجهها الذي تشوه بفعل عمليات التجميل التي أجراها لها جراح برازيلي- حسبما
تقول- تخبرها أنها لا تصلح للتمثيل، لأنها تفتقر للإحساس الداخلي في
الأداء، فالتمثيل لا يصلح أن يكون من الخارج. ومن هنا تبدأ “بارثينوبي”
البحث الشاق عن حقيقة نفسها، عن الجوهر في داخلها، وتترك نفسها للتجربة
والمغامرة، والمرور بمغامرات مع بعض من لا يمكننا تخيل أن تقيم علاقات معهم
من الرجال، في شوارع وأحياء نابولي الموبوءة بالجريمة، لكن يظل اهتمام
الفيلم الأول منصبا على غموض معنى الجمال، وماذا يمكن أن يجلب لصاحبته. وما
هو الشباب، وهل الماضي يترك أثره علينا بعد أن نكبر ويتقدم بنا العمر. وهو
نوع من التساؤلات التي شغلت سورينتينو أيضا في فيلم سابق له هو فيلم
“الشباب”
Youth (2015).
سنصل إلى الزمن الحالي، بعد أن تكون بطلتنا قد كبرت وبدت
آثار الزمن على وجهها ولكنها مازالت تتمتع بالجاذبية والسحر الغامض، وقد
نشرت أخيرا مذكراتها في كتاب (تقوم بدورها هنا الممثلة الإيطالية المخضرمة،
ستيفانيا سندريللي).
يتميز الفيلم بالجمال الشديد في تصميم المناظر، والتصوير
المبهر، للأماكن المفتوحة، والطبيعة، مع إبراز التفاصيل الباروكية في
الداخل، مع التركيز على جمال المدينة، واحتفالات سكانها في رأس السنة،
وتصوير بعض التقاليد الغريبة المثيرة، والاهتمام بالتكوينات المدروسة
بعناية التي تجعل اللقطات وكأنها لوحات فنية مبهرة.
إلا أن المشكلة الأساسية في الفيلم هي أن البناء السينمائي،
أي سياق السرد، يفتقد للحبكة المتماسكة، التي يمكن أن تدفع السرد إلى
الأمام، وتصنع تطورا في بناء الشخصية والحدث. إنه أقرب إلى دراسة للشخصية،
لكنها أيضا دراسة تخفي أكثر مما تظهر، وتبقي على السحر الذي يشع من الغموض،
غموض الشخصية وغموض دوافعها، مع غموض الفيلم نفسه بدرجة أكبر، تجعل المشاهد
يشعر أحيانا بعدم الارتياح، أي بالحاجة إلى أن يعرف أكثر من مجرد تأمل
اللوحات الفنية والاستمتاع بالصورة.
من أكثر عناصر الفيلم جاذبية وربما ما جعله على نحو ما أصبح
عليه من كل هذا الجمال والسحر والغموض، أداء الممثلة الجديدة “سيلستي ديللا
بورتا”، التي تهيمن على جميع مشاهد الفيلم تقريبا، تتركز الكاميرا عليها
باستمرار، مع لقطات قريبة لوجوه الرجال الذي يتسمرون في أماكنهم أو يفقدون
قدرتهم على إخفاء مشاعرهم بما في ذلك رجل ثري يحلق من فوق مجلسها، في طائرة
مروحية، يخاطبها ويطلب ودها، لكنها تمتنع، وتقول له إنها لا تغويها فكرة
ممارسة الحب من دون حب، وإنها إن منحته نفسها فسيكون هذا من باب المجاملة
فقط، لكنها رغم ذلك، ستفعل تحديدا ما سبق أن رفضته، عندما تذهب، قرب نهاية
الفيلم، إلى الكنيسة، ترتدي ملابس أسطورية كنسية، وتستجيب بل وتعرض نفسها
للقس العجوز الشهواني المتهتك، ربما تعكس من خلال ذلك، الرغبة في انتهاك
المقدس، وربما هي رغبة سورينتينو أساسا!
رغم هذه الملاحظات، ورغم أن الفيلم كان يمكن أن يكون أكثر
إمتاعا، لو لم يتوقف بعد نصفه الأول، عن تطوير الفكرة والشخصية، إلا أنه
دون شك، يظل من أفضل ما شاهدناه من أفلام في مسابقة مهرجان كان 2024، فهو
متعة للعين وللسمع، بشريطه الصوتي البديع، وموسيقاه التي من دونها لم يكن
ليتمتع بكل هذه التأثير. |