“المبتدئ”..
فيلم رسم طموح ترامب شابا وأغضبه كهلا
أمير العمري
أثار فيلم “المبتدئ” ردة فعل عنيفة فور عرضه في مسابقة
مهرجان كان السينمائي الـ77، فسرعان ما تلقى منتجو الفيلم ومخرجه خطابا من
الفريق القانوني للرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، يحمل تهديدا
باللجوء إلى القضاء، لوقف عرض الفيلم في الولايات المتحدة.
فيلم “المبتدئ”
(The Apprentice)
أخرجه المخرج الإيراني الدنماركي علي عباسي، وكتب له السيناريو “غابرييل
شيرمان”، ويتناول السنوات الأولى في مسيرة صعود “دونالد ترامب” رجلَ أعمال
بمجال العقارات في السبعينيات والثمانينيات.
يكشف الفيلم بصياغته الروائية تخلي “ترامب” عن أكثر حلفائه
إخلاصا وتنكره له، وتفتح شهيته أكثر فأكثر نحو التوسع والسيطرة وشراء
العقارات، وذلك قبل سنوات كثيرة من تحقيق حلمه الأكبر، أي الوصول إلى مقعد
الرئاسة.
“ترامب”
الغاضب.. دعوة إلى مشاهدة ونقاش الفيلم
رفض مخرج الفيلم علي عباسي تهديد وقف عرض الفيلم، ونفى
تحامله على الرئيس “ترامب”، ودعاه إلى أن يشاهد الفيلم معه، وأن يتناقشا
فيما جاء فيه بعد المشاهدة، والمثير للدهشة أن رد فعل محامي “ترامب” جاء
قبل مشاهدة الفيلم، وفي ضوء ما كُتب عنه بعد عرضه في مهرجان كان.
وكان الملياردير “دان سنيدر” -وهو من ممولي الفيلم- قد شاهد
الفيلم في فبراير/ شباط 2024، أي قبل عرضه في مهرجان كان، وأبدى غضبه
الشديد، بعد أن وجد أن الفيلم لا يجامل “ترامب”.
كان فيلم “المبتدئ” من أكثر الأفلام الواقعية إمتاعا في
المهرجان، مع أن آراء النقاد منقسمة حوله، فقد رآه بعضهم عملا تقليديا
سطحيا، في حين رآه آخرون عملا من أعمال السينما الرفيعة. أما أنا فأراه
عملا جيدا جدا، مكتوبا ببراعة ودقة.
صحيح أنه يستخدم كثيرا مما نُشر وأصبح معروفا عن شخصية
“ترامب”، لكنه يحسن صياغة ذلك في سياق سينمائي مثير ممتع خالٍ من الثغرات،
فقد ابتكر مخرجه بعض المواقف، وطوّع مواقف أخرى، بحيث يكتمل ملامح
“البورتريه” الذي يقدمه للشخصية.
ففي أحد المشاهد مثلا، نرى “ترامب” في شبابه وهو يتردد على
سكان مجموعة من مساكنه التي يؤجرها للفقراء، لكي يجمع الإيجار، لكنهم
يواجهونه بالشتائم والسباب والطرد، وإلقاء الماء في وجهه، أو إطلاق الكلاب
عليه.
“المبتدئ”..
خيوط البداية التي تقود لفهم الشخصية
ينصبّ الاهتمام الأساسي للفيلم على محاولة فهم “ترامب” وما
هو عليه الآن من قسوة وأنانية ونرجسية وعدم مبالاة، ويتأمل رحلة صعوده
ليصبح واحدا من أغنى أغنياء أمريكا، ويبحث عن من ساعده في البداية، وعن
علاقته بعائلته، وما جعله يصبح مغرما بذاته مع ولعه الشديد بالاستعراض
والكذب، واتهام كل من ينتقده بالتآمر والتزوير، وكل هذا يلمسه الجميع اليوم.
ومن هذا المدخل، ينقب السيناريو في حياة “ترامب” مع أسرته
في شبابه، فيصور علاقة أبيه به، واستخفافه به وبرغبته في العمل في مجال
العقارات، وتشكيكه في قدرته على عقد الصفقات الكبرى في ذلك الوقت من منتصف
السبعينيات، ولم يكن يومئذ قد بلغ الثلاثين.
وكانت أمريكا في ذلك العهد تعاني من التدهور السياسي
والاقتصادي، قبل انتخاب الرئيس “رونالد ريغان”، الذي حقق قدرا من الرخاء
الاقتصادي على حساب الطبقات الفقيرة.
قصة صعود ترامب كما يصورها الفيلم قريبة من قصة “فاوست”
(Faust)،
أو “فرانكنشتاين”
(Frankenstein)،
فهو سيلتقي بالرجل الذي يصنعه ويلقنه مبادئ الصعود، أي المحامي اليميني
الشرس “روي كون”، وهو محامي السيناتور “جو مكارثي” في ذروة هستيريا العداء
للشيوعية في الخمسينيات.
عقدة الدناءة.. دافع النجاح في مجال العقارات العنصرية
يبدأ الفيلم في عام 1973، ويصل بالتدريج إلى الثمانينيات
فيتوقف، ولكن بعد أن نكون قد اقتربنا من شخصية “ترامب” الشاب، ومن المؤثرات
التي جعلته على ما يبدو اليوم.
يستخدم المخرج الكاميرا المتحركة، لتتابع عن كثب تحركات
“ترامب” وترصد ما يحيط به، وكأننا نتابع فيلما تسجيليا، لكنه يتوقف أيضا
أمام المشاهد الصاخبة في النوادي الليلية ومنتديات الصفوة، والبهرجة
والانتقال من الظلال إلى الأضواء المبهرة.
نرى أيضا معاناة “ترامب” على نحو ما من عقدة الشعور بأنه
أدنى، وأقل موهبة من والده، فقد حاول بكل الطرق أن يثبت العكس، ومضى يشق
طريقه ويجرب في عالم العقارات في مدينة نيويورك التي يجيد علي عباسي تصوير
ملامحها، من خلال صور ضبابية شاحبة، يحاكي من خلالها المزاج اللوني السائد
في أفلام تلك الحقبة.
يجد “ترامب” الشاب نفسه واقعا في مأزق قانوني، بسبب اتهامه
بمخالفة قانون الإسكان الذي ينص على المساواة في تأجير المساكن بين جميع
الأشخاص، أما هو فكانت التهمة الموجهة إليه أنه يرفض تأجير مساكنه للسود
الأفارقة.
“روي
كون”.. ملازمة التلميذ المخلص لمحامي الشيطان
يلتقي “ترامب” ذات مرة في أحد النوادي الليلية بالمحامي
الشيطاني المغرور “روي كون”، فيتجه مباشرة إلى هدفه، فهو يريد أن يصبح
“كون” أباه البديل، أن يتبناه ويوفر له الحماية، وهو الذي يخشاه السياسيون
وذوو المناصب الرفيعة في البلاد.
يرفض “كون” في البداية التعامل معه، فـ”ترامب” لا يعدل
شيئا، مقارنة بالنخبة من كبار الأثرياء والسياسيين الذي يحيطون به في
مجلسه، ويخطبون وده لحاجتهم إليه، وبعض عتاة الضالعين في عالم الإجرام مثل
“توني ساليرنو” رجل المافيا الأمريكية الشهير.
كان “ترامب” يلح ويبدي استعداده لأن ينطوي تحت جناح “كون”،
ويكون تلميذا يتعلم منه، وبذلك لمس الوتر الحساس في شخصية “كون” الذي يريد
أن يستمتع بصنع مخلوق على شاكلته، فيوافق على تخليصه من المأزق القانوني
الذي وقع فيه مع الحكومة، ويرفع قضية يطالب فيها بتعويضه بمائة مليون دولار.
وفي مشهد طريف على العشاء في منزل أبيه، يستنكر الأب “فريد
ترامب” بكل جدية تهمة العنصرية، مرددا أنه “يوظف سائقا من السود”!
مبادئ النجاح الثلاثة.. دستور شرس يرسم معالم الطريق
كان المحامي “روي كون” يشعر بانصياع “ترامب” الشاب له،
فلقنه 3 مبادئ يتعين عليه الالتزام بها إن أراد النجاح، وهي: أن يهاجم
خصومه بكل قسوة، وأن لا يقر بهزيمته بل يصر دائما على الفائز والمنتصر، وأن
لا يعترف أبدا بأي شيء يمكن أن يؤخذ عليه.
أليست هذه الأسس هي التي يطبقها “ترامب” حرفيا حتى اليوم؟!
نرى بعد ذلك لقاء “ترامب” مع الفتاة الشقراء وسيدة المجتمع
“إيفانا”، وهي ترفض تودده إليها في البداية، لكنه لا يكف عن استمالتها
والتلويح وإرسال الهدايا لها، ثم يلوح لها بحبه إلى أن توافق على مصاحبته،
تحت إغراء الثراء والطموحات الكبيرة غالبا.
وكان “ترامب” يومئذ قد استحوذ على ناطحة السحاب الهائلة في
مانهاتن؛ عمارة الكومودور، ثم أضاف إليها عدة طوابق لإقامة فندق، لتصبح
واحدة من معالم نيويورك البارزة، وكانت شهيته الفطرية تجاه العقارات قد
تفتحت وامتدت واستبدت.
ومع أن والده كان معارضا لملك العقارات، وقد أصبح الآن في
وضع مالي صعب، ويرفض فكرة ابنه بشراء ناطحة السحاب، ويرى فكرة إقامة فندق
في الطوابق العليا في تلك المنطقة نوعا من الجنون، فإنه سيثبت له فيما بعد
أن ابنه كان بعيد النظر، وأنه نجح في الاستحواذ والتخلص من الضرائب الباهظة
بفضل “روي كون”، وأصبح عمدة المدينة يرى أنه مدين له في إنقاذ نيويورك
واستعادة مجدها القديم.
“إيفانا”..
زواج مختل البدايات مؤذي النهايات
عندما يقرر “ترامب” الزواج من “إيفانا”، يخبر المحامي “روي
كون”، فيحذره من أن الزوجة قد تصبح شريكة في كل ممتلكاته، وأن عليه أن يضمن
عدم حدوث هذا في عقد الزواج، فيضع فيه شروطا ترفضها “إيفانا” رفضا قاطعا.
لكنه يجد حلا وسطا، ويقدم لها شيكا بمئة ألف دولار، ويمنحها
وعودا وضمانات أخرى، وقد لعبت هي دورا مهما في تصميم القاعة الرئيسية في
مدخل “برج ترامب” بحاستها الفنية المتميزة.
ومن الجوانب التي أثارت ثائرة “ترامب” ومستشاريه القانونيين
في الفيلم، تلك المشاهد الساخرة التي تظهره وهو يجري عملية شفط دهون، ثم
يصبح مهوسا بمقاومة بدايات الصلع في رأسه بزراعة الشعر، ثم تعاطي حبوب
“الأمفيتامين” بغرض إنقاص وزنه.
أما رجل المافيا “توني ساليرنو” الذي جسده الممثل “دومنيك
لامبردوزي” في فيلم “الأيرلندي”
(The Irishman)
للمخرج “مارتن سكورسيزي” (2019)، فسيلعب دورا في تعطيل العمل بمشروع “برج
ترامب”، بعد تجاهله إياه، فهو يرى المنطقة منطقة نفوذ له، وقد أرسل رجاله
لحرق بعض الطوابق التي بُنيت، وبعدها نصح “كون” تلميذه “ترامب” بمنح الرجل
ما يستحقه من “اهتمام”، أي أن يعطيه نصيبه!
نكران الجميل والدم.. طباع قاسية تصدم المعلم الأول
يتجسد أهم محاور الفيلم في العلاقة المعقدة بين “ترامب”
و”روي كون”، فقد تدهورت هذه العلاقة بعد إصابة “كون” بالأيدز” وانعزاله،
فابتعد عنه “ترامب” ثم تنكر له بكل صفاقة، رافضا تقديم أي مساعدة له.
وهو نفس موقفه من أخيه “فريدي” (الممثل تشارلي كاريك) الذي
كان يعد نقطة الضعف في العائلة، فهو لم يكن طموحا مثل “دونالد”، فقد فشل في
دراسته وعمل سائقا للحافلات، ثم زاد شعوره بالتدني بعد صعود أخيه، وعندما
لجأ إليه ذات مرة وهو ثمل يطلب مساعدته، تخلص منه بعد أن منحه حفنة من
الدولارات، وطلب منه أن يبيت ليلته في فندق، واعدا أنه سينظر في أمره في
الصباح.
ومن الطريف أن فيلم “المبتدئ” يبدأ بلقطات تسجيلية للرئيس
الأمريكي السابق “ريتشارد نيكسون” صاحب فضيحة “ووترغيت”، وهو يقول في خطاب
على التليفزيون: لقد ارتكبت أخطاء، ولكني لم أتربح قط من عملي العام طوال
حياتي. وطوال عملي العام لم أعق عمل العدالة قط، إنني لست مخادعا”. وكان
“نيكسون” يكذب، لكنه كان يطبق مبدأ النفي والإصرار على البراءة، مثلما يفعل
“ترامب” دائما.
يقودنا الفيلم في مشاهده الأخيرة إلى تدهور حالة “روي كون”
الصحية، وابتعاده عن الساحة والأضواء، بعد أن كان ملء السمع والبصر، لكنه
يرفض الاعتراف بإصابته بمرض الإيدز، مع أن رفيقه ومساعده “راسل” توفي جراء
إصابته بالمرض، وسبق أن رأينا “كون” منفردا به في أحد المشاهد، خلال حفل
صاخب من حفلات الجنس الجماعي التي كان “ترامب” تتردد إليها.
يبدي “كون” بعض الندم، فهو لم يكن يتصور أن تبلغ الدناءة
بتلميذه “ترامب” أن يتخلى عنه على هذا النحو الفظ، بعد كل ما قدمه له.
نزعة الاختلال.. نموذج مستبد تصنعه أوهام المال
قد لا تكون شخصية “ترامب” في الفيلم شخصية متعددة الأوجه،
بل ذات بعد واحد، لكن ما يظهر منه اليوم يكفي لتتبع نزعته المختلة، لتكون
نموذجا للاستبداد الذي يصنعه المال.
وقد تعلم “ترامب” الكذب مبكرا، واتهام كل من يعارضه بالكذب،
وتزوير الحقائق واتهام الآخرين بالتزوير، والإصرار دائما على أنه محق.
يظهر الفيلم أيضا أن شعاره الشهير “لنجعل أمريكا عظيمة مرة
أخرى”، إنما هو شعار سرقه من الرئيس السابق “رونالد ريغان”، الذي استخدمه
في حملته الانتخابية الأولى عام 1980.
وما يجعل فيلم “المبتدئ” عملا بديعا يستحق المشاهدة، أن
كاتبه ومخرجه لا يلجآن للحلول القريبة، أي الصورة الكاريكاتورية الكوميدية
الساخرة، ومراكمة بعض المشاهد الفكاهية الساخرة، بل هو عمل رصين، مبني على
محاولة فهم “مفتاح الشخصية” في ضوء الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت
سائدة وقت صعود ترامب في عالم المال والأعمال، وولعه الخاص بالاستعراض
والتباهي بذاته.
أداء الممثلين.. تقمص يتجاوز الشكل إلى خبايا الروح
ومن أهم عناصر الفيلم وأكثرها جاذبية أداء الممثل “سباستيان
ستان” لشخصية “ترامب” بكل براعة ودقة، في السلوك والحركة والإيماءات، فهو
لا يقلد أو يحاكي، بل يبحث عن جوهر الشخصية، ويعكس ما يكمن وراء السطح.
إنه يتحكم في نبرة صوته، ويستخدم إشارة يديه التي أصبحت من
علامات “ترامب” المميزة، ويكثف رغبته الشرسة في الصعود، وميله النرجسي
المبكر للاستعراض والتباهي، وإبهار من يرى أنهم أدنى أو أصغر. إن “ستان” لا
يمثل “ترامب” أو يتقمص شخصيته، بل يضع يده على روحه.
وعلى نفس المستوى من الأداء المدهش، يأتي “جيريمي سترومغ”
في دور “روي كون”، الرجل الخشن الصلب، الذي كان قريبا في الماضي من الرئيس
“نيكسون”، ولا يعرف سوى لغة الشتائم والسباب، ويشعر بقوته وقدرته على
التحدي، ويحيط نفسه بالكبار.
وهو يقوم بإرادته بدور “ميفيستو”، ذلك الشيطان الذي يمتلك
قواعد اللعبة، ويلقنها لتلميذه “فاوست”، ثم نراه في ذبوله وشحوبه وقد أزيح
إلى الهامش، بعد أن أجبره المرض على هجران الأضواء، والوقوف ذليلا عاجزا
أمام تلميذه القديم، وكأنه يستجدي مساعدته.
أما الممثلة البلغارية “ماريا باكالوفا” التي أدت دور زوجته
“إيفانا”، فقد أجادت في حدود المعالم التي رسمها السيناريو للشخصية، بحيث
لم تحتل مساحة كبيرة من الفيلم.
لا يقدم “المبتدئ” كل شيء عن “ترامب”، فهناك كثير مما يخفى
علينا، ولكن ما يقدمه يكفي. فهل يلعب الفيلم دورا في الحملة الانتخابية
القادمة؟
ربما يكون ذلك أكثر ما يخشاه “ترامب” وأنصاره! |