“إيميليا
بيريز”
أفضل أفلام مسابقة مهرجان كان
أمير العمري
كان فيلم “إيميليا بيريز” دون شك المفاجأة الأكبر في مسابقة
مهرجان كان الـ77. فهو أبلغ تعبير عن قدرة مخرجه الفرنسي المرموق، جاك
أوديار، على تحدي النوع والشكل السينمائي، فبعد أفلام متنوعة المذاهب
والأساليب من فيلم الجريمة، إلى الفيلم الرومانسي إلى فيلم الويسترن،
أي من “نبي”
A Prophet،
و”صدأ وعظم”
Rust and bone
و”باريس- المقاطعة 13″، إلى “ديبان” الحائز على “السعفة الذهبية” في 2015 ،
ثم تحفة الويسترن الجديد “شقيقات وأشقاء”
Sisters and Brothers (2018)،
ها هو يعود إلى المسابقة بفيلمه “المكسيكي”- إن جاز التعبير، فهو عمل ناطق
بالإسبانية، يصور قصة مكسيكية، تجري فصولها بين المكسيك وبلدان أخرى. وإن
لم يكن هذا كافيا، فهو أيضا، فيلم موسيقي، يعتمد على الغناء والرقص
والاستعراض في التعبير عن الأفكار المتعددة التي يتضمنها نسيجه السينمائي.
ورغم الطابع الموسيقي العام، يجمع أوديار بين أساليب عدة في
فيلمه: الدراما الاجتماعية وفيلم الجريمة والإثارة، مع مسحة من الميلودراما
تذكرنا بعالم الإسباني ألمودوفار خصوصا مع ما يضفيه من ملامح على شخصية
المرأة الموجودة في قلب الفيلم، فهي ليست امرأة عادية، كما سنرى.
“إيميليا
بيريز” ليست امرأة تماما، على الأقل في البداية. كما أنها لن تكون المرأة
الوحيدة في الفيلم، فسوف تشترك معها، في المسار الدرامي والحياتي امرأة
أخرى، من نوع آخر ومن عالم مختلف، لكن أوديار يتمكن من خلال السيناريو
العبقري الذي كتبه بالاشتراك مع توماس بيدجين ونيكولاس لفيتشي، من خلق عالم
مواز ولكن مرتبط بين المرأتين، رغم اختلاف الخلفية والانتماء العرقي فيما
بينهما.
المرأة الأولى هي “ريتا” (زوي سالدانا)، وهي امرأة شابة
نحيلة مكسيكية سوداء، محامية تعمل في مكتب للمحاماة، متفوقة كثيرا في
عملها، لكنها ليست سعيدة، فهي لا تنال الاعتراف الذي تستحقه عن جهدها بل
يُنسب الفضل فيما تنجزه وتحققه من نجاح في القضايا التي تترافع فيها، إلى
رئيسها، كما تحصل على راتب ضعيف من الوظيفة، وهي تشعر أيضا بالسأم من
الدفاع عن الأزواج الذين يضربون زوجاتهم والذين تكفل لهم البراءة بفضل
براعتها في العثور على الثغرات القانونية.
من أول مشاهد الفيلم سيفاجأ المتفرج بأن “ريتا” تعبر لنا عن
كل هذه المشاعر والأفكار من خلال الغناء والرقص، تارة في شوارع “مكسيكو
سيتي”، وتارة أخرى بين مجموعة من عاملات النظافة اللاتي يشتركن معها في
الغناء والاستعراض. إلا أن الأغاني التي تأتي في سياق الفيلم لا تقطع
السياق، ولا تنعزل عن مسار الفيلم، بل هي جزء من نسيج السرد، وظيفتها أن
تسلط الأضواء، وتدفع الأحداث إلى الأمام، كما تصبح أحيانا بديلا عن الحوار.
وتتمتع مشاهد الغناء بالجمال الشكلي بفضل التصميم الدقيق للرقصات، الذي
يستغل كل جزء من الديكور داخل الاستديو أو في الخارج، في الأماكن الطبيعية،
مع الاختيار البارع لكلمات الأغاني التي تتدفق في سلاسة وقدرة تعبيرية
كبيرة، ويعود الفضل إلى المغنية الفرنسية “كاميل” كاتبة كلمات الأغاني،
وكذلك إلى ألحان زوجها “كليمو ديكول”.
تتلقى “ريتا” مكالمة غامضة من شخص مجهول يعرض عليها أن تصبح
“ثرية”، وأنه يمكن أن يمنحها من المال ما لا تحلم به. ويحدد لها مكانا
للقاء إن أرادت. وبعد تفكير مقتضب، تغويها الفكرة، فهي في حاجة إلى تحقيق
استقلالها الوظيفي والمادي، فلم لا؟
تذهب “ريتا” إلى مكان اللقاء، ويأخذونها إلى داخل سيارة
لتفاجأ بأنها أمام أكبر زعيم عصابة مخدرات في المكسيك وهو “مانيتاس
ديلمونتي”. ما الذي يمكن أن يريده منها هذا الرجل صاحب الثروة الكبيرة
والنفوذ السياسي في البلاد، تعجز السلطات، أو بالأحرى، تتقاعس عمدا عن
الإيقاع به؟
سيأتي طلبه واضحا ومباشرا وبسيطا. ولكن قبل ذلك عليها أن
توافق أولا على فكرة الحصول على ما لا يقل عن 30 مليون دولار سيودعها في
حسابات مصرفية خارج البلاد، مقابل الخدمة المطلوبة منها، فقبولها يعني أنها
لا تستطيع التراجع، فما سيخبرها به يجب أن يبقى سرا بينهما فقط.
إنه يخبرها ببساطة، أنه يريد أن يصبح امرأة. ليس لأنه يرغب
في التخفي، لكن لأنه يشعر بهذا الميل إلى التحول الجنسي في داخله منذ سنوات
بعيدة، وقد بدأ قبل عامين بالفعل في تعاطي الهورمونات. وهنا يكشف لها صدره
لكي تتبين بنفسها طبيعة ما حدث من تحول على ثدييه.
أما ما يطلبه من ريتا كمحامية ماهرة، فهو أن تعثر له على
جراح ماهر يقبل إجراء عملية التحول الجنسي من دون أن يكشف سره بالطبع، ثم
يتعين عليها إقناع زوجته “جيسي” (سيلينا جوميز) بالذهاب مع ولديه للإقامة
في سويسرا، بعد أن يختفي هو من الحياة في حادث إطلاق نار وهمي مدبر تعلن
السلطات بعده موت مانيتاس. وتكون الذريعة بالطبع أن حياة جيسي وولديها
أصبحت في خطر، لكونها بدورها مستهدفة من طرف منافسي مانيتاس من بارونات
المخدرات.
لن يقبل الجراح الأول، الألماني القيام بالمهمة، إلا بعد
معاينة “الزبون” وهو ما ترفضه ريتا، فتلجأ إلى طبيب إسرائيلي في تل أبيب
يدعى الدكتور “واسرمان” (يقوم بالدور الممثل الإسرائيلي من أصل أوكراني،
مارك إيفانير) الذي يقبل المهمة وإن كان يقول لها محذرا إن “تغيير الجسد لا
يعني تغيير الروح”، فتجيبه ريتا بأن تغيير الجسد يعني تغيير الروح وتغيير
المجتمع، ثم يشترك الاثنان في أغنية تكثف هذا المعنى.
تنال “ريتا” ما سعت إليه من مال وفير، وتذهب إلى لندن
للاستمتاع بالحياة وتمر 4 سنوات، ثم تجد نفسها ذات يوم على مائدة العشاء في
أحد النوادي الراقية، أمام امرأة تحدثها بالإسبانية، لتكتشف أنها “مانيتاس”
ولكن بعد التحول الجنسي، وبعد أن أصبح سيدة فارعة الطول، جذابة أنيقة، وقد
اتخذ لنفسه اسم “إيميليا بيريز”.
إننا نراه في مشهد سابق وهو يقف أمام المرآة، يتدرب على
تقديم نفسه بكل ثقة، مرددا “إسمي إيميليا بيريز”، ويرفل في الملابس
النسائية الثرية (جميع ملابس الفيلم من تصميمات دار سان لورن التي أنتجت
الفيلم بعد أن اتجهت مؤخرا إلى مجال الإنتاج السينمائي وكان لها فيلمان
آخران في مهرجان كان).
ما المطلوب هذه المرة من ريتا؟ يقول مانيتاس/ إيميليا (تقوم
بالدورين الممثلة الإسبانية المتحولة جنسيا، كارلا صوفيا جاسكون) إن ريتا
يجب أن تقنع “جيسي”، أي “أرملته”، بالعودة بالولدين إلى المكسيك للإقامة في
قصر فخم اشتراه هناك، وعلى أن تصبح إيميليا بيريز، هي شقيقة مانيتاس التي
كانت مختفية منذ فترة وترغب الآن في تعويض غياب شقيقها مانيتاس ورعاية
الطفلين والأم.
طبعا سترحب جيسي وولداها بالعودة إلى المكسيك. وفي مكسيكو
سيتي، داخل القصر الهائل بتفاصيل الديكور المبهرة، ومن خلال التصوير الذي
يحرص على استعراض المكان من خلال حركة الكاميرا، مع اختيار الألوان الصريحة
الجذابة، تتعامل إيميليا مع جيسي معاملة رقيقة، وتسعد بصحبة الولدين،
فمشاعر “الأب” مازالت كامنة، لدرجة أن ريتا تحذرها من الإفراط في إبداء
الاهتمام بالولدين لأنها يفترض أن تكون العمة لا الأم!
التحول الأول في الحبكة يأتي عندما تلتقي إيميليا ذات يوم
مصادفة بامرأة تبحث عن زوجها الذي اختفى في ظروف غامضة، تعرف أنه من ضحايا
عصابة “مانيتاس”، وسوف يكثر عدد النساء اللاتي يبحثن عن ذويهن من ضحايا
جرائم القتل التي تمارسها عصابات المخدرات والتي تنتشر في ربوع المكسيك.
هنا تدرك “إيميليا” مسؤوليتها وتسعى للتكفير عما ارتكبته من جرائم، فتقرر
إنشاء جمعية من جمعيات العمل العام بالاشتراك مع ريتا التي تصبح شريكتها،
من أجل العثور على جثث ضحايا العنف، وتعويض الأسر التي فقدت أحبائها.
هل تغير الجنس، من الذكورة، إلى الأنوثة، كفيل بتغيير
توجهات المرء؟ هذا ما يقوله الفيلم أولا، منحازا بالطبع للمرأة في نبذها
للعنف وميلها الطبيعي للتعاطف مع ضحايا العنف، بل سيجعل إيميليا تتعاطف
بشكل خاص مع “إيبيفانيا” (أدريانا باز) التي اتهمت بقتل زوجها، وكانت في
الواقع تدافع عن نفسها، وستدفع ريتا للدفاع عنها وتبرئتها. وسنرى إيميليا
تقيم لفترة، علاقة حميمية معها، ولكن من دون أن يتوقف الفيلم طويلا أمام
تلك العلاقة، فالمطلوب أن نعرف أن إيميليا أصبحت زاهدة في عالم الرجال، وقد
كرست حياتها الآن لرعاية الولدين، من دون بعض المشاعر الغامضة تجاه “جيسي:
وهي مشاعر تعبر عنها من خلال الغناء.
التحول الثاني والأخطر في الحبكة، يبدأ بعد أن ترتبط “جيسي”
بشاب صعلوك يدعى “جوستافو” (إدجار راميرز)، ثم تخطط للزواج منه والانتقال
إلى بلدة أخرى على أن تأخذ معها الولدين. هنا يجن جنون إيميليا، ويتجه
الفيلم نحو العنف والقتل وسفك الدماء مجددا. فمشاعر الأبوة/ الأمومة، تغلب
على إيميليا، وهي ستفعل كل شيء، لدرجة تشكيل عصابة جديدة تتولى تنفيذ
أوامرها وتصبح شخصية مهابة من الجميع في المدينة. إلى أن يصل الفيلم إلى
نهايته الدامية التي من الأفضل عدم الكشف عنها هنا.
وهنا يكون الفيلم قد دخل أيضا في دائرة الميلودراما، أي
المبالغة في تصوير الحدث والمشاعر والانفعالات، والتركيز على محنة الولدين،
ومعاناة جيسي التي تعبر عن مشاعرها من خلال الغناء. طبعا سيلينا جوميز هي
المرأة الثالثة الرئيسية في الفيلم وإن كان دورها هو الأقل بروزا، ورغم
أنها مغنية مشهورة إلا أن ما اسند إليها في هذا المجال لا يتناسب مع
موهبتها.
ولعل من أجمل مشاهد الفيلم، مشهد حفل العشاء الباذخ الذي
تقيمه إيميليا وتدعو إليه كبار السياسيين ورجال المال ومشاهير المجتمع،
تستعرض هيمنتها وقوة نفوذها، وهنا تنطلق “ريتا” تقفز فوق الموائد في رشاقة
وخفة، تنتقل من مائدة إلى أخرى، وتغني أغنية تسخر من الجميع، في إدانة من
الطبقة الحاكمة في المكسيك التي توجه لها شتى الاتهامات بالفساد والضلوع في
الجريمة.
يستخدم الفيلم ببراعة كبيرة الموسيقى ذات الإيقاعات
اللاتينية، والأغاني ذات الطابع الشعبي، كما يقترب في أسلوب الغناء أحيانا
من أسلوب “الراب” في تعبيره عن الغضب والاحتجاج والسخرية، وفي الفيلم أيضا
أغنية بارزة في وقت مبكر، تعكس ما أصبح يمكن لجراحات التجميل أن تفعله
اليوم من تحولات في أدق أجزاء الإنسان. وما يجعل من هذه الأغاني
والاستعراضات متعة بصرية لا تنفصل عن متعة مشاهدة المشاهد الدرامية،
التصميم البارع للرقصات من جانب المصمم البلجيكي “داميان جاليه”، بحيث يجعل
من “إيميليا بيريز”، أوبرا سينمائية بديعة، تفيض بالحركة والجمال.
ولم يكن ممكنا أن يأتي الفيلم على ما أصبح عليه من سحر
ورونق وبراعة في الحركة والانتقال بين المشاهد، مع التحكم في توقيت استخدام
مشاهد الرقص والاستعراض الغنائي ومزجها بالأداء الدرامي، إلا أولا بفضل
السيطرة المدهشة من جانب أوديار على جميع عناصر الفيلم ومفاصله، وثانيا
بفضل الطاقة الكبيرة التي تتمتع بها الممثلات الثلاث اللاتي أجاد اختيارهن
وغامر مثلا بإسناد البطولة إلى الممثلة الجديدة نسبيا كارلا صوفيا جاكسون
التي قامت بدور إيميليا، ثم زوي سالادانا (ريتا)، وأخيرا سيلينا جوميز
(جيسي). وقد رأت لجنة التحكيم في كان، أن تمنح الممثلات الثلاث جائزة أفضل
ممثلة، بدلا من منح الفيلم نفسه “السعفة الذهبية” التي كان يستحقها دون شك.
لكنها إحدى مفاجآت المهرجانات التي اعتدنا عليها!
“إيميليا
بيريز” فيلم قد لا يبدو عنوانه مثيرا أو جاذبا شأن كثير من الأفلام التي
تحمل أسماء أبطالها، إلا أنه عمل ممتع، يتسلل إلى الوجدان، رغم المبالغات
التي يمتلئ بها الثلث الأخير منه. فما هي قيمة فن الفيلم إن غابت عنه
القدرة على تحقيق المتعة، متعة المشاهدة، ودفعنا إلى التأمل والتفكير في
مصائرنا التي لا ندري أين تنتهي بنا. |