انتهت قبل أيام الدورة السابعة والسبعين لمهرجان كان
السينمائي، لتمنح لجنة تحكيم المسابقة الدولية التي رأستها المخرجة
الأمريكية جريتا جرويج السعفة الذهبية، أكبر جوائز المهرجان، إلى مواطنها
شون بيكر عن فيلمه "أنورا". اختيارات أرضت البعض، بينما وجدها آخرون ظلمت
فيلمًا أفضل كان يستحق التتويج. لكنها ردود الأفعال المعتادة بعد الإعلان
عن أي جوائز.
وبعد أن شاهدنا 22 فيلمًا تنافست في المسابقة، نقدم لكم هذا
التحليل النقدي السنوي للأفلام الفائزة بالجوائز الرسمية لمهرجان كان 2024.
السعفة الذهبية: أنورا
Anora –
الولايات المتحدة
ذهبت السعفة إلى من يستحقها، المخرج الأمريكي شون بيكر صاحب
المسيرة الخاصة الذي لا يتوقف عن تقديم شخصيات اعتاد البشر وصمها: العاملين
في الجنس. البطلة هذه المرة راقصة في ملهى للتعري، اسمها الحقيقي أنورا
لكنها تفضل اسم آني الذي ينفي جذورها الأوزبكية ويجعلها أكثر أمريكية.
تقابل شاب يدعوها لتقابله للجنس مقابل المال، لكنها تكتشف كونه ابن
ملياردير روسي. تتطور العلاقة بينهما حتى يعرض عليها الزواج، لينقلب حلمها
بالسعادة إلى ليلة جنونية تخوضها عندما تعرف عائلة الشاب فترسل رجالها
المخلصين لإنهاء الزيجة.
يبرع بيكر في ألا يتحول مسار الفيلم أبدًا إلى الميلودراما
أو حتى للتعاسة، بل يتمكن المخرج المؤلف الموهوب ببراعة مدهشة من الحفاظ
على مستوى مرتفع من خفة الظل، ومن القدرة على تطوير المواقف التي سبق
مشاهدتها في الأفلام، والتي يتوقع الجمهور تلقائيًا مسارها، ليقودها في
مسار مختلف كليًا. مسار انفجاري، صاخب، مليء بالصراخ والسباب وتصادمات
القوى بين آني، وبين الرجال الثلاثة الذي يأخذونها في رحلة ليلية حافلة
بالتقلبات.
لا الأشرار في "أنورا" أشرار، ولا هي الفتاة المغلوبة على
أمرها، أو حتى الباحثة عن استغلال الفرصة للإمساك بالثروة. هم مجرد رجال في
ورطة يحاولون حلّها للحفاظ على مصدر رزقهم، وهي مجرد فتاة عادية، دفعتها
ظروفها لمهنتها فلم تكرهها، ووضعتها نفس الظروف في حكاية خيالية أرادت أن
تصدق امتلاكها نهاية سعيدة. آني التي ترقص عارية للرجال كل ليلة لا تزال –
للعجب – تؤمن بالحب، لكنها أيضًا تؤمن بكبريائها، وترفض أن يُمس، حتى لو
كان الثمن أن تعود للملهى الليلي مرة أخرى.
يجمع "أنورا" بين القصة المشوقة الممتعة الصالحة لأن يتفاعل
معها الجمهور بمختلف أطيافه، وبين الأفكار الذكية التي يمكن لمن يرغب أن
يلمسها بين ثنايا الفيلم. هذه القدرة على التواصل مع القطاع الأعرض من
المشاهدين ربما يكون أحد الدوافع الرئيسية وراء منح لجنة التحكيم الجائزة
الأكبر لفيلم شون بيكر.
الجائزة الكبرى: كل ما نتخيله ضوءًا
All We Imagine as Light (الهند)
بعدما انقطعت السينما الهندية عن مسابقة كان منذ عام 1993،
جاءت المخرجة الموهوبة بايال كاباديا كي لا تكتفي بالعودة ببلدها للمسابقة،
بل تتوج بالجائزة الكبرى، ثاني جوائز المهرجان أهمية، بفيلم رقيق، هادئ،
تأملي، لكنه حافل بالدراما الأخاذة وباللحظات السينمائية، حيث تستكشف بطلات
الفيلم الحب والصداقة والحميمية في أصعب مواقف ممكنة.
مجموعة من الممرضات تعملن في مستشفى عام بمدينة مومباي.
الوصف وحده كاف لنتخيل قدر ما تلاقيه البطلات من معاناة وما تشاهدنه من
آلام كل يوم، في مدينة عسيرة معقدة، مليئة بالأحلام الموءودة، لا سيما لو
كانت صاحبتها أنثى، فما بالك لو كانت أنثى وحيدة تركها زوجها وهاجر فلم تعد
تسمع منه إلا عندما يرسل هدايا غريبة تؤكد إنه لم يعد يتذكر الحياة في
وطنه؟ أو لو كانت أنثى تحب شابًا من ديانة مختلفة في بلد يقوم أغلب تاريخه
على الحروب بين الأديان والطوائف؟ أو امرأة يتم طردها من منزلها لصالح شركة
تطوير عقاري بدون أي تعويض أو مسكن بديل؟
غير أن الحديث عن الحكاية والشخصيات فقط يظلم بايال
كاباديا، لأنه يغفل أهم ما فيلمها: ما يحتويه من سينما. هذه مخرجة كبيرة،
قادرة على خلق لحظات شديدة الخصوصية والحميمة، تستخدم أدوات شديدة التقشف
على مستوى موقع التصوير والديكور والإضاءة (أغلب الفيلم مصور بمصادر ضوء
طبيعية)، مستعينة بطاقم تمثيل رائع، لتخلق لحظات سينمائية لا تنسى، لحظات
شاعرية تلامس أحيانًا الواقعية السحرية، وتنطلق من قدرة البشر دائمًا على
إيجاد الضوء في أكثر المواقف عتمة.
جائزة لجنة التحكيم وأحسن ممثلة: إيميليا بيريز
Emilia Perez (فرنسا)
من أكثر الأفلام المختلفة في المسابقة، يذهب المخرج الفرنسي
الكبير جاك أوديار إلى المكسيك ليروي حكاية غريبة في موضوعها وتفاصيلها.
الموضوع عن زعيم عصابة مكسيكية، مجرد عتيد فائق الذكورة، يضيق الخناق عنه
فيستدعي محامية حسناء ليخبرها عن خطته للهرب من المأزق، والنابعة من حلم
قديم يعيش داخله برع في إخفائه طويلًا: سيجري جراحة ويتحول امرأة!
يجري خوان ديل مونتى الجراحة ليخرج منها إيميليا بيريز،
امرأة جديدة (تجسد الدورين الممثلة الإسبانية العابرة جنسيًا كارلا صوفيا
جاسكون) تبدأ حياة مختلفة هناك في القارة الأوروبية. لكن ما أن تمر عدة
أعوام إلا وتقرر إيميليا أن ترسل مستدعية الزوجة والأبناء الذين لا يعرفون
شيئًا عما جرى للأب/ الزوج، مقدمة نفسها كعمّة لم يخبرهم خوان عنها، وسرعان
ما تقرر إيميليا العودة إلى المكسيك، كسيدة أعمال ومُصلِحة اجتماعية، تؤسس
منظمة للبحث عن الأشخاص المختفين، وأغلبهم من ضحايا العصابات التي كان خوان
نفسه من زعمائها.
تبدو الحكاية ملائمة لفيلم هوليوودي جماهيري، لكن أوديار
يتخذ قرارين يمنحا الفيلم قيمة فنية. أولهما حكي القصة في صورة فيلم غنائي
musical
تقوم فيه الشخصيات في مواقف عديدة بتقديم أغنيات كان لها أثرًا ساحرًا في
جعل القصة قابلة للتصديق. أما الاختيار الثاني فهو تجاهل المواجهات
الإجبارية التي يتوقعها الجمهور، فعندما تستدعي إيميليا الزوجة السابقة
(نجمة الغناء سيلينا جوميز) يتوقع الكل أن هناك لحظة ستكتشف فيها الحقيقة
لتواجه زوجها الذي صار امرأة، لكن المخرج يتعمد ألا تقع هذه المواجهة أو أي
حدث مماثل، منطلقًا من الحقيقة الجوهرية التي يؤسسها الفيلم: أن خوان قد
مات وإيميليا قد ولدت. مات المجرم العنيف وولدت امرأة قادرة على الحب
والعطاء، فعندما تؤسس إيميليا منظمتها الخيرية تفعل ذلك لأنها راغبة فعلًا
في إصلاح ما أفسدته قديمًا، لا لكي تستخدم الأمر كغطاء للتستر.
هذه الاختيارات تمنح الفيلم مذاقًا مغايرًا، جعله الفيلم
الوحيد الذي جمع بين جائزتين، حيث لم تكتف لجنة جريتا جرويج بمنحه جائزتها
الخاصة، بل قررت منح حائزة أحسن ممثلة لبطلاته الأربعة دفعة واحدة، لتعود
كل من كارلا صوفيا جاسكون، وسيلينا جوميز، وزوي سالدانا، وأدريانا باز إلى
بيتها حاملة جائزة أحسن ممثلة من مهرجان كان.
أحسن إخراج: ميجيل جوميز عن "جولة كبرى" – البرتغال
جائزة أخرى ذهبت إلى مستحقها، فلم يقدم أحدًا صنعة إخراجية
ومذاقًا مختلفًا كما فعل أستاذ السينما البرتغالي ميجيل جوميز في "جولة
كبرى
Grand Tour"،
الفيلم الذي يمتلك قصة فضفاضة، قد تبدو للوهلة الأولى بلا بوصلة، لكن جوميز
يحولها ذهبًا من خلال مزج مدهش بين الأشكال والأساليب، ويأخذنا في جولة
داخل المكان والزمان. المكان من بورما إلى سنغافورة إلى الفلبين إلى
تايلاند وفايتنام واليابان والصين، والزمان بين الحاضر والماضي، بين آسيا
المعاصرة، وتلك الخيالية، المنسوجة على الشاشة بذائقة هجين هي الأخرى، تجمع
الهوس الاستشراقي بالانغماس داخل واقع كل بلد على حدة، بما يحمله الواقع
طيّه من أسطورة.
الحكاية العامة عن ضابط بريطاني، يفر من خطيبته بعد سنوات
لسبب غير مفهوم، ليقفز داخل سفينة تقوده في جولة لا تتوقف بين الأراضي
الآسيوية. نقضي نصف زمن الفيلم مع الضابط قبل أن ننتقل لنتابع رحلة خطيبته
وهي تقتفي آثاره بين البلاد هي الأخرى. اللغات تتغير، الحكايات تتبدل،
اللقطات تمزج الروائي بالتسجيلي بمسرح خيال الظل، والمخرج يوظف حيلة
إخراجية وراء الأخرى ليضعنا داخل فيلم أشبه بالحلم. جولة كبرى اسمًا
ووصفًا، يصعب تلخيصها في الكلمات، لكن من يختبرها يعلم أن صانعها استحق
جائزة الإخراج تحديدًا.
جائزة خاصة: بذرة التينة المقدسة (إيران)
جائزة خاصة أضافتها لجنة التحكيم للاحتفاء بالمخرج الإيراني
محمد رسولوف، الذي كان في الأغلب ينتظر الحصول على جائزة أكبر، بعدما تمكن
من الهروب من بلاده خلال أيام المهرجان بعد الحكم عليه بالسجن بتهمة
الإساءة لسمعة البلاد، بسبب الفيلم الذي سيكون آخر أفلام رسولوف داخل
إيران، والذي سيكون عليه أن يستقر في أوروبا ويبدأ طريقًا مختلفًا لصناعة
الأفلام.
"بذرة
التينة المقدسة" عمل شجاع، يتفاعل المخرج من خلاله مع الحراك الشعبي الذي
اندلع في إيران عقب مقتل الفتاة مهسا أميني، من خلال ما يحدث لعائلة إيمان،
الموظف الحكومي المخلص الذي تكتشف بناته طبيعة عمله عندما يتم ترقيته ليصير
محققًا في المحاكم الثورية الإيرانية، دوره استجواب المتهمين وانتزاع
اعترافات تقودهم غالبًا إلى الإعدام. الأب يحاول هضم متطلبات عمله الجديد،
والبنات تتفاعلن مع ما يحدث في الشوارع من مظاهرات، بينما تسعى الأم
للسيطرة على البيت والحفاظ على مكتسبات الأسرة.
لكن نوع الفيلم الذي يمتد لقرابة الثلاث ساعات يتغير عند
نصف الطريق، عندما يفقد إيمان سلاحه الرسمي داخل المنزل، ليجد نفسه مهددًا
بضياع كل شيء، الأمر الذي يقوده لسلسلة من القرارات التي تفكك أوصال
الأسرة. قرارات يستخدمها رسولوف لتقديم نقد عميق للنظام الإيراني، وللسلطة
الأبوية بشكل عام. فيلم كان لعرضه في المهرجان صدى كبير، ونال كل الجوائز
المستقلة الممكنة وعلى رأسها جائزة الإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي)، لكن
لجنة التحكيم اكتفت بمنحه هذه الجائزة الخاصة.
أحسن سيناريو: المادة (فرنسا، الولايات المتحدة)
كما ينقسم فيلم رسولوف إلى جزئين ينقسم فيلم المخرجة
الفرنسية كورالين فارجيا "المادة
The Substance"
إلى نصفين كذلك: الأول خيال علمي يدور في عالم الجمال، والثاني رعب يدور في
عالم القبح. سيناريو شديد الذكاء يجمع الجاذبية الجماهيرية بفكرة عميقة،
تتعلق بالهوس بالجمال والشباب، وإدمان ما يجعل الإنسان نسخة أفضل من نفسه،
ولو كان بشكل مؤقت (المخدرات)، أو بصورة تشوه الحقيقة (عمليات التجميل)،
وكم من شخص وافق على أن يتآكل جسده وتتداعي روحه فقط كي يشعر بأنه أفضل
لعدة ساعات.
دور بالغ الشجاعة تجسده النجمة ديمي مور، التي تجسد شخصية
تكاد تكون صورة درامية من نفسها: نجمة كانت ملء السمع والبصر، قبل أن يمضي
العمر وتتضاءل الأضواء المسلطة عليها. ممثلة قديمة تُقدّم برنامج رياضي
صباحي لا يبدو أحدًا راضيًا عن نجاحه بسبب عمر نجمته المتقدم. "مع الخمسين
كل شيء يختفي"، يقولها لها المنتج صراحة وهو يخبرها أن البرنامج سيتوقف لأن
عمرها صار أكبر من أن توضع في مركز الاهتمام. يظهر الحل متمثلًا في مادة
تروّجها جهة غامضة، تجعل خلايا جسدها تنتج نسخة أفضل وأجمل وأكثر شبابًا
منها، بشرط وحيد هو أن تعيش كل نسخة من الاثنين أسبوعًا كاملًا فقط، ثم
توضع في سبات صناعي لتعيش النسخة الثانية الأسبوع التالي وهكذا.
تجسد مارجيت كوايلي الشخصية الثانية، الشابة والأكثر
جمالًا، التي تُمثل تشييء جسد المرأة وتحويله سلعة إعلامية، وهوسها هي
نفسها بصورتها الجديدة التي تقرر بطبيعة الحال أن تضحي من أجلها بجسدها
الحقيقي. دراما ذكية ومعاصرة، تطرح أسئلة ابنة لحظتنا الراهنة بأسلوب شيّق
وإن امتلأ نصف الفيلم الثاني بمشاهد شديدة الوطأة من حيث القبح وإثارة
التقزز. لكن اختلاف العمل عن المألوف، وقدرته المستمرة على المفاجأة جعلا
إسناد جائزة السيناريو له اختيارًا منطقيًا مقنعًا.
أحسن ممثل: جيسي بليمونز عن "أنواع للطيبة" – اليونان،
بريطانيا
في مقالنا عن فيلم المخرج يورجوس لانثيموس الجديد وصفنا
جيسي بليمونز بأنه يسير شيئًا فشيئًا ليشغل المساحة الشاغرة التي تركها
الرحيل المفاجئ للنجم فيليب سيمور هوفمان. مساحة الرجل الأبيض العادي الذي
يمكنه أن يدخل في حكايات غير عادية، وهو باختصار موضوع "أنواع الطيبة
Kinds of Kindness"
الذي يروي فيه لانثيموس ثلاث حكايات متتالية جوهرها الإيمان والبعث،
الإيمان بما يصعب تصديقه، والبعث من الرماد.
لجنة التحكيم وجدت في تنوع الشخصيات الثلاث التي لعبها
بليموث سببًا كافيًا لمنحه جائزة أحسن ممثل، وهي مفارقة طريفة أن تنال
جائزة أحسن ممثلة أربع ممثلات دفعة واحدة، بينما تذهب جائزة أحسن ممثل
لفنان لعب ثلاثة أدوار في نفس الفيلم. جيسي بليموث جسد شخصية الموظف الذي
يتمرد على رئيسه الذي يسيطر على كل تفاصيل حياته، والشرطي الذي تعود زوجته
المفقودة من رحلة علمية أودت بحياة كل من فيها، فيبدأ الشك يتحرك داخله أن
من عادت للمنزل ليست زوجته وإنما كائن ما ينتحل شخصيتها، ودور المؤمن الذي
ينضم لجماعة سرية يقودها رجل غريب الأطوار، فيتبعه بلا تفكير ويتحرك مع
زميلته بحثًا عن امرأة تصنع المعجزات.
بالرغم من عبثة التفاصيل في كل الحكايات، تمكن بليموث من
الاحتفاظ بنبرة الجدية التي يتعامل بها يورجوس لانثيموس مع شخصياته، ليقدم
أداءً مميزًا جاء له بالجائزة الأكبر في مسيرته حتى الآن. |