”
فتاة الإبرة ” في مهرجان كان.. بؤس العالم وأصالة السينما
أمير العمري
“فتاة
الإبرة”
The Girl with the Needle
هو الفيلم الدنماركي الذي أخرجه المخرج السويدي ماجنوس فون هورن، وشارك في
المسابقة الرسمية لمهرجان كان الـ77. هذا عمل سينمائي كبير، يتوفر له
سيناريو جيد، محكم، وموضوع يشدك حتى النهاية، وشخصيات نابضة بالحياة،
وتصوير بديع، يكثف من خلال الضوء والاختيار الدقيق للزوايا وأحجام اللقطات
وحركة الكاميرا، الجو النفسي السائد في الفيلم.
ويساهم تصميم الديكورات وتنسيق المعالم الخارجية والداخلية
في خلق الجو العام والبيئة التي كانت سائدة في الفترة التي تدور فيها
الأحداث، مع أداء تمثيلي، تجسيد للشخصيات، يبلغ أرقى مستويات الأداء
والتقمص والعيش داخل جلد الشخصيات بحيث تذوب الممثلة داخل الدور، وتصبح
كائنا مستقلا قائما بذاته حاضرا في الذهن والذاكرة.
إلا أن كل هذه العناصر المتكاملة على نحو مثالي، لم تدفع
لجنة التحكيم إلى منحه جائزة، لأن “الموضة” التي أصبحت سائدة اليوم هي
تفضيل الأفلام الـ
perverse
الغريبة الأطوار والمشارب، حتى لو كانت منقوصة أو مهشمة، على الأفلام ذات
الطابع الكلاسيكي الرصين، التي تروي قصة لها مغزى ومعنى يمكن للجميع
متابعتها، والأهم، الاستمتاع بها أيما استمتاع، فلم تعد المتعة ميزة، بل
أصبح الإزعاج وإثارة التوتر والتشوش الذهني، هدفا سينمائيا مشروعا حتى لو
كان العمل نفسه سطحيا ومفتعلا، مليئا بالادعاء والفوضى والتشوش.
يقوم “فتاة الإبرة”، على أحداث حقيقية وقعت في كوبنهاجن-
الدنمارك، بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة. إننا أمام صورة للفقر
والمعاناة والشقاء الإنساني كما تتجسد في شخصية “كارولاين” (تمثيل كارمن
سون)، فهي امرأة شابة فقيرة، ذهب زوجها “بيتر” إلى الحرب ولم يعد، ولم تعد
تتلقى أي أنباء عنه. ونتيجة تأخرها عدة أسابيع عن دفع إيجار شقتها
المتواضعة الفقيرة، يقرر صاحب المنزل طردها ويأتي بمستأجرين جدد: امرأة
وطفلتها. تحاول كارولاين بشتى الطرق استعطافه حتى يبقي عليها، ثم تحاول
إشاعة الخوف لدى المستأجرة الجديدة وابنتها، عندما تزعم ظهور فئران كثيرة
في الليل يمكنها أن تقضم قدميك وأنت نائم في الليل. ولكن دون جدوى. وسينتهي
بها الأمر إلى المغادرة ثم استئجار حجرة عارية تتكون في وسطها بركة صغيرة
مليئة بالماء الذي يرشح من السقف، كما يتعين عليها استخدام حمام مشترك خارج
الغرفة.
الأجواء العامة مقبضة، قاتمة، ويضفي التصوير بالأبيض
والأسود ومساحة الكادر المحدود المساحة، على الفيلم، أجواء سينما أوائل
القرن، مع اختيار الديكورات والأماكن الضيقة، وحبس الوجوه، خصوصا وجه
بطلتنا كارولاين، في لقطات قريبة وقريبة جدا، للكشف عن مشاعر الخوف والقلق
والرعب التي تتملكها.
يميل الديكور إلى التركيز على الأسقف المائلة، والإضاءة
التي تجعل المنظور مليئا بالظلال التي تنعكس على الجدران، مما يضفي أجواء
قريبة من التعبيرية، رغم واقعية الشخصيات والمكان. إنه أسلوب مقصود لتجريد
الحدث، وأساسا، للإيحاء بأن ما نشاهده هو عمل كابوسي، مقبض، وقصة قد تكون
أيضا خيالية أو متخيلة كما لو كانت كابوساً، وسيستمر هذا الأسلوب الذي
يكتسي على نحو ما ولو بدرجة محدودة، بملامح من التعبيرية الألمانية، وينتقل
إلى كثير من المشاهد الأخرى في الفيلم.
عينا كارولاين الواسعتان الخائفتان تكشفان عن كل بؤس
العالم، وتوحي ملامحها العامة بالسذاجة، والطيبة، والانسحاق، لكنها لن
تستسلم بسهولة. إنها عاملة تعمل على آلة حياكة تدور بالإبرة، في مصنع لصنع
مستلزمات الجنود. أجرها لا يكاد يفي باحتياجاتها البسيطة. وهي تسعى لدى
مالك المصنع “يورجن”، للحصول على معاش أرملة، لكنه لا يستطيع أن يمنحها هذا
المعاش من دون شهادة وفاة لزوجها.
ومع ذلك، يبدي “يورجن” تعاطفه معها بل وإعجابه الذي يصل إلى
الولع، لا يستطيع الصبر على مضاجعتها ولو في زقاق ضيق، وتستمر علاقتهما
لفترة، وتصبح كارولاين حاملا منه، تريده أن يتزوجها فيوافق، وعندما يقدمها
لأمه الأرستقراطية في قصرها الكبير الفخم الذي يليق بطبقتهما، تستعين الأم
المتجبرة القاسية القلب بطبيب يفحص كارولاين ليتأكد من حملها، لكنه يخبر
الأم المستبدة أنه لا يستطيع إجراء عملية إجهاض لها بسبب تقدمها في الحمل.
الأم بكل قسوة وصلف وتجبر وبرود، تقول لها إن “يورجين” حر
في أن يفعل ما يشاء، لكنه إن أصر على زواجه منها سيكون نتيجة ذلك أن يغادر
القصر الكبير ويترك إدارة المصنع، ويحرم من الميراث، ويتعين عليه بالتالي
أن ينضم إلى كارولاين في حياة الفقر والفاقة.
ينفجر يورجين في البكاء. فهو يحب كارولاين بالفعل، لكنه
يصعب كثيرا أن يتخلى عن طبقته ووضعه الاجتماعي. وتصبح هي في الشارع بعد
طردها من المنزل ومن العمل بالمصنع.
تلجأ إلى حمام شعبي، تغطس في حوض الماء، تستخدم “إبرة”
أشغال في محاولة للتخلص من الجنين، وتكون النتيجة نزيف حاد. تنقذها سيدة
طيبة القلب رقيقة المشاعر، تدعى “داجمار” (الممثلة تراين داريهولم) كانت في
الحمام مع طفلتها “إيرينا”، هي التي ستنقذها وتوصلها إلى غرفتها، ثم تقول
لها إن هناك طريقة أفضل إن أرادت التخلص من طفلها، وتترك لها عنوانها.
يعود “بيتر” زوج كارولاين من الحرب، مشوها بعد أن فقد نصف
وجهه، يرتدي قناعا يستر به وجهه المشوه المخيف، يأكل بصعوبة لكونه يعجز عن
الاحتفاظ بالطعام في فمه. تتعاطف معه كارولاين رغم كل شيء، ولا يمانع هو من
قبول الطفلة التي تنجبها من رجل آخر. لكن بيتر يصاب بنوبات تشنج وهياج عصبي
من جراء ما شهده من فظائع في الحرب، ويستعين بأقراص من المورفين لتهدئة
نفسه. وستكتشف كارولاين أيضا فيما بعد، المورفين بعد أن تتوثق علاقتها
بـ”داجمار”.
بيتر ينتهي إلى العمل في فرقة صغيرة لعروض السيرك المتجول
في الشوارع، حيث يستغلون سحنته القبيحة المخيفة التي يكشف عنها عندما يزيح
القناع، وهنا يكون مطلوبا أن تتقدم امرأة من المتفرجين لتقبيله إن وجدت
بالطبع. وتذكرنا هذه الشخصية على نحو ما، بشخصية بطل فيلم “الطبل الصفيح”
لشلوندورف.
تذهب كارولاين بطفلتها إلى داجمار في محل الحلوى الغريب
بأجوائه السريالية الغامضة التي تزيدها غموضا الإضاءة الخافتة، ومساحات
الظلام المحيطة بغرفه وردهاته، مع الأواني المعلقة المتأرجحة المليئة
بالحلوى. تتعرف عليها داجمار باعتبارها “فتاة الإبرة” في الحمام، وتخبرها
أنها تدير وكالة للتبني، وأن لديها زبائن من علية القوم يضمنون حياة جيدة
للأطفال الذين يتبنوهم. لكنها تحصل أيضا على مبالغ من المال مقابل أخذ
الأطفال من ذويهم.
الحنين للأمومة والم الوحدة، يدفع كارولين للعودة إلى
داجمار تطالبها باستعادة طفلتها، لكن الطفلة ذهبت. ولأنها لا تجد لها عملا
فإنها تعرض على داجمار أن تعمل لديها كمرضعة للأطفال الذين يأتيها بهم
أهلهم إلى أن يتم تبنيهم. بل إن داجمار تطلب منها أيضا أن ترضع ابنتها
“إيرينا” رغم أنها في السابعة من عمرها. وهي فتاة غريبة الأطوار كثيرا. ومن
هنا يدخل الفيلم إلى منطقة الرعب، ويبدو أسلوبه قريبا من أسلوب فريتز لانج
في فيلمه الشهير “إم”
M (1932)
ويكشف فون هورن تدريجيا عن حقيقة داجمار، قاتلة الأطفال.
كارولاين ستكتشف حقيقة داجمار، وعندما تواجهها تقول لها:
“إن العالم مكان فظيع.. علينا فقط أن نجعله أقل بشاعة”، أي تبرر ما تقوم به
بأنها تساعد الأمهات الواقعات في مأزق العيش مع أطفال غير شرعيين، على
التجاوز وتتستر عليهن ولو عن طريق القتل، الخنق والإلقاء في المصارف
وبالوعات الحمامات.
إننا أمام رحلة مخيفة داخل عقل بشري إجرامي ناتج عن
المعاناة العامة، جريمة القتل الجماعي بالملايين في الحرب، بؤس الطبقة
العاملة المهملة في مجتمع صناعي يستحدث أبشع الأساليب لإذلال المرأة
العاملة، والعالم الذي جعله “الرجال” مكانا فظيعا لا يصلح للعيش، فالرجل هو
الذي يشن الحروب، وهو الذي يصنع التفرقة، ويخلق الصراعات. وهذه هي الفكرة
المبطنة التي يسوقها الفيلم، لكن الفيلم ليس مجرد رسالة، بل صور تعبيرية
رفيعة، مؤثرة، ترثي العالم.. وبؤس العالم.. عالمنا.
فون هورن، يصل في كثير من المشاهد إلى مستوى الشعر
السينمائي، فهو يستخدم أسلوبا يحاكي أسلوب السينما في العشرينيات الماضية،
ويميل إلى محاكاة الحركة في تلك الأفلام الروائية الأولى. يستخدم المونتاج
السريع واللقطات المتقاطعة المطبوعة فوق بعضها التي تتعاقب في المشهد
الأول، بحيث تظهر الوجوه والسحنات الغريبة والنظرات الفزعة الخائفة، إلى أن
يستقر على عيني كارولاين في لقطة كبيرة جدا. وعندما تسير بطلتنا في الطريق
تقتفي أثر داجمار، نراها من زاوية مرتفعة كثيرا، في زقاق ضيق، مع دقات
الأوتار التي تنذر بما هو كامن في الظلام. وتلعب أصوات أجراء الكنائس دورها
في التحذير والتنبيه، وعموما فشريط الصوت يكسو الفيلم كله بطبقة من تعبيرية
تزيد من غرابة الشعور بتأثير الصورة، فكما ذكرت، رغم الشخصيات “التي تبدو
واقعية، إلا أن الصورة العامة للفيلم تبدو كما لو كانت منطلقة من الخيال
الشعبي القديم، قصص الجدة وحكايات الليل في الماضي.
يعتبر فون هورن عن أجواء فيلمه وشخصياته ومواقفه التي تكتسي
كثيرا بقدر من الغموض، بالصورة، بحركة الممثلين، بحركة الكاميرا التي تجوس
في الظلام، وتستدرجك إلى المجهول الغامض، بالأداء الصامت، بالنظرات، بتبادل
الأماكن، بالغوص داخل دار للسينما، حينما تذهب كل من كارولاين وداجمار،
لمشاهدة فيلم من أوائل الأفلام الناطقة، ويتوقف أيضا أمام شخصية الطفلة
الغريبة الأطوار “إيرينا” التي سيبدي القاضي فيما بعد تشككه في أن تكون
الابنة الحقيقية لداجمار. ويظل أمرها غامضا.
“فتاة
الإبرة” عمل بديع، يبقى في الذاكرة بفعل تضافر عناصره الفنية وصوره القاتمة
التي تجعل القلب ينقبض، لكنك لا تملك سوى أن تحتفل معه في النهاية، بأصالة
السينما. ويبقى أداء كارمن سون وحده، كافيا للاستمتاع بالمشاهدة. وكانت دون
أي شك، تستحق جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان، فهي الأفضل والأعلى من
الجميع. ومعها أيضا يبرز كثيرا أداء الممثلة “تراين دايرهولم” في دور
“داجمار”، بشخصيتها التي تتأرجح بين الرقة الشديدة والعذوبة وإبداء التعاطف
والتضامن الإنسان النسوي مع كارولاين، وبين القوة والخشونة وجنون الشخصية
التي تؤمن برسالتها.
سيمضي هذا الفيلم ليحقق نجاحا كبيرا في بلده الدنمارك،
ويحصل على الكثير من الجوائز المحلية والأوروبية، كما لابد أنه سيصبح ممثلا
لبلاده في مسابقة الأوسكار. علينا فقط أن ننتظر ونرى. |