لم يكن من المستغرب أن يحقق فيلم
"مندوب
الليل"
عند
عرضه بمهرجان
البحر الأحمر في
دورته الثالثة، كل هذا الانتباه النقدي والجماهيري، (تأليف وإخراج علي
الكلثمي، ومن إنتاج تلفاز 11)، فالفيلم الذي شهد مهرجان تورنتو عرضه
العالمي الأول قبل شهرين فقط يعتبر أحد أهم الإنتاجات السعودية هذا العام،
ليس فقط على مستوى جاذبية الأسماء المشاركة من حيث قوة الدعاية أو سابقة
الأعمال، ولكن لأن التجربة في مجملها واحدة من أنضج ما أفرزته الصناعة
الوليدة خلال العام المنصرم.
ورغم كونه لم يحقق أي جائزة ضمن مسابقة النسخة الثالثة من
البحر الأحمر السينمائي، إلا أن السمعة التي اكتسبها من وراء المشاركة
وردود الأفعال المبشرة بعمق التجربة ونضجها النسبي، كانت كفيلة بأن تمهد له
الأرض أمام اكتساح شباك التذاكر السعودي بشكل لافت وإيجابي، خاصة أنه ينتمي
دراميا لنوع آخر غير تلك الأنواع التي سبق لها، وأن حققت مكسباً جماهيرياً
في شباك التذاكر سواء على مستوى الإقبال أو الإيرادات، على رأسها بالطبع
الفيلم الظاهرة "سطّار" الذي ينتمي إلى الكوميديا الهزلية.
"مندوب
الليل" فيلم إثارة اجتماعية يحمل توجهاً نقدي واضح لثوب الطبقية الذي يلف
جسد المجتمع، لا انطلاقاً من ثيمات تخص القبلية والبداوة والعشائرية، ولكن
عبر التوغل في جانب من أحشاء المدينة، لانتزاع اعتراف منها بأنها حقاً وحش
ساكن بفم فاغر وغواية مقيمة أسفل جناح الليل الطويل، الذي يبدو وكأنه لا
ينتهي في الفيلم.
في المشهد ما قبل الأخير يجلس بطل الفيلم "فهد" في الباص
نائماً كغريق ظن أنه نجى، بينما يتأهب الموج لابتلاعه، بعد أن هرب من
السيارة المقلوبة لعصابة الخمور، تتحرك الكاميرا لتنتقل من وجهه إلى وجوه
أخرى نائمة مثله، غرقى آخرين في نوم وتعب وعودة متأخرة بالليل، كأنهم جميعا
نسخة مكررة منه، أو من حكايته، ثم لكي يتأكد لنا المجاز التعميمي، تصل
الكاميرا إلى زميل لـ"فهد" في تطبيق المناديب، يحمل حقيبة التوصيل، يقف
بجانب سائق الباص، ويمضي في مشوار جديد، لا ندري هل سيصل به إلى نهاية
شبيهة بما ينتظر "فهد"، أم إلى خاتمة أخرى أكثر تعقيداً ودموية!
على ما يبدو أن "مندوب الليل" يرتكز في جانب من سرديته على
تلك الإشارات المتعددة، إلى أن ما أقدم عليه فهد لما يكن سوى رد فعل لشعوره
بالضآلة تجاه مجتمع يحمل قدراً من التعنت والبيروقراطية، مثلما يطالعنا
مشهد التحقيق معه من قبل مديره في وظيفة خدمة العملاء التي يمارسها نهاراً
بجانب كونه يعمل كمندوب توصيل في الليل.
يواجه "فهد" في مشهد التحقيق الأقرب إلى محاكمة عبثية نظام
أعمى، سخيف، متعالي وغير رحيم، لا يقدر حجم الضغط الذي يعانيه شخص مثله
يعمل في وظيفة خدمية غير منتجة، تمثل الشريحة الأدنى في مجتمع استهلاكي،
مشرب بالطبقية، يقول له المدير أن المرأة التي تقدمت بشكوى ضده هي بنت نائب
المدير، ويبدو فهد في نهاية مشهد التحقيق كشخص يتعرض للاستغلال طوال الوقت،
لكنه يقرر في لحظة معينة التمرد، أو على الأقل إطلاق العنان لإحدى بذور
الرفض في داخله، فيرفض تقديم استقالته، ويطالب بالعدالة في اتخاذ قرار
فصله، لكن النظام لا يعجبه هذا بالطبع، فينتهي به الأمر إلى أن يصبح متهماً
في جنحة ضرب مديره ومطلوب منه أن يسدد غرامة فادحة.
الليل والشتاء
لا يكاد النهار يطلع على المدينة/الرياض، حتى في مشاهد
الدوام التي يعمل بها "فهد" في خدمة العملاء، كأن المدينة تعيش في ليل
متواصل، والليل هو الأزمة الضارية التي تنهش نفسية فهد وحياته، أزمته
المادية المتمثلة في حاجته إلى المال من أجل علاج والده، ومن أجل تمويل
مشروع أخته سارة التي تحاول أن تستقل مادياً عن زوجها الذي لا نراه طوال
الأحداث، لكنه حاضر من خلال إصرارها أن تعتمد على نفسها في كل شيء خاصة
فيما يتعلق بابنتها.
الليل هو أزمة "فهد" تجاه حبيبته "مها"، التي لا يستطيع أن
يميز ما بين كونها تمنحه معاملة خاصة، أو تتنمر عليه حين تحضر زملائها في
العشاء الرومانسي الذي خطط له، والليل هو انحرافه الأخير، حين يقرر سرقة
مصنعي الخمور حين يتتبع أحد مندوبيهم بالصدفة، فيدرك أن هناك مناديب أخرى
غيره تحصل من المال ما يفوق ما يحصله من كدحه طوال الليل في شوارع المدينة
المتخمة بالسيارات والتأخير، كما في المشهد الأول ذو الدلالة الواضحة، حين
نراه محتجزاً بسيارته في نفق مكدس بأصوات السيارات والمطر والشتاء الطويل.
كل أحداث الفيلم تدور في الليل وفي الشتاء، كأن الليل سرمدي
والشتاء خالد، لا شمس ولا دفء ولا صحو ولا انقشاع لغيم عقب المطر الكثيف،
وفي تكرار مقصود نرى سيارة فهد في كل فصل من الحكاية، وهي تسير نحو أحشاء
المدينة، في شوارع ضيقة تبدو كمزاريب تؤدي عملها بشكل عكسي، فتمتص "فهد"
إلى الداخل، ولا تسرب المطر للخارج، يتكرر مشهد دخول سيارة فهد إلى المدينة
الرابضة تحت أغصان الليل الكثيفة، بينما لا يكاد يخلو مشهد في الشوارع من
مطر يهطل أو متوقفاً قبل قليل.
اختيار الليل كمجاز رئيسي هو جزء من أحكام البناء، ومن
طبقات السرد، تتراكم الأزمات بتراكم أجزاء الليل خلال الأحداث فبعضها في
أوله كتوصيل الطلبات والتعرف على الفارق الهائل بين ثمن السلطات -2700
ريال- وبين ثمن الخمور – 18 ألفاً- وبعضها الآخر في منتصفه كسرقة مصنع
الخمور التي تمثل بداية تورطه في الأزمة الأكبر والأكثر قتامة.
المناديب
قبل بداية الفيلم نرى شرحا لكلمة مندوب على مستوى اللغة،
وفي نهاية الفيلم يضاف تعريف ثالث أو توصيف للكلمة، أولها هو الشخص الموكل
بالتوصيل وهي المهنة غير الإنتاجية التي أشرنا إليها في البداية، والتي
تمثل الشريحة الدنيا من الطبقات شبه العاملة، وهي شريحة يمكن الاستغناء
عنها بسهولة أو استبدالها؛ لأنها تمثل جانب العمالة الرخيصة غير
المنتجة، على عكس أخته "سارة" التي تريد أن تصنع شيئاً يجمع ما بين روح
الإنتاج وإرضاء ذوق المجتمع الاستهلاكي.
ثم يأتي التوصيف الثاني وهو الشخص المقصود بالرثاء، والذي
تعرض لوفاة أو فقد، ولا يبدو "فهد" بعيداً عن التوصيف، بل هو في قلبه
تماماً، فمستقبله غائم – كما نراه في المشهد الذي يمضي فيه نحو الباب بعد
أن باع أول دفعة من زجاجات الخمر- وذكائه موظف في غير محله، وقابليته
للانحراف عالية نتيجة ضعف شخصيته – كما يتجلى في شجاره مع "مها" ظناً منه
أنها أحضرت زميلها للعشاء كي تعايره أو تثير غيرته- كما أنه متداع
اجتماعيا، فوالده مريض يحتاج إلى رعاية، وما يطلبه من وظائف يحتاج إلى
وساطته – في نقد اجتماعي واضح نرى الوالد المقعد يصطحب ابنه إلى مكتب أحد
الوجهاء كي يتوسط له في العمل، وهي إشارة إلى فداحة ما وصلت إليه الطبقية
من أن الشباب يحتاجون إلى العجائز المرضى كي يتوسطوا لهم عند أصحاب النفوذ
والكلمة المسموعة، بدلاً من أن تكون قدراتهم وطاقاتهم الجديدة هي مؤهلات
إلحاقهم بالعمل، وليس فهد حالة استثنائية، فحين يقدم ملفه إلى صاحب النفوذ
نرى مساعده يضم ملف "فهد" إلى دولاب صغير مكتظ بعشرات الملفات المشابهة.
ولو مدننا خطاً مستقيماً بين مشهد ملفات السير الذاتية
المكومة في دولاب صاحب النفوذ، وبين المشهد الأخير حيث تنتقل الكاميرا من
وجه فهد الذي يبكي بصمت من أثر المطر المنزلق على زجاج الباص في الخارج،
إلى وجوه شابة مماثلة محلية ووافدة، منهكة ونائمة، لعثرنا على شرح رابع
للكلمة – فالثالث هو الشخص الذي تعرض لحادث ترك ندبة على جسده أو وجهه، وهو
ما يرتبط بالحادث الذي أنقذ به "فهد" نفسه من عصابة تصنيع الخمور في
النهاية.
إن "فهد" في التفسير الرابع للكلمة هو مندوب كل هؤلاء الذي
تشبه حكايتهم حكايته! هو مندوبهم لدى الجمهور من أجل تقديم قصته التي تحاكي
قصصهم الكثيرة غير المعروفة أو المسكوت عنها، هو مندوب عمن تقدموا بملفاتهم
أصحاب النفوذ أو لهؤلاء الركاب العائدين من كدح عظيم في آخر الليل الذي لا
ينجلي في نهاية الفيلم، بل يزداد حلكة. هو مندوب عنهم ومنهم.
الكلثمي والدوخي
علي الكلثمي في أول أفلامه الطويلة كمخرج يبدو وجيهاً في
نضج، متأثراً بأنماط الأفلام التي سبق أن قدمت السائق الليلي الوحيد في
مدينة باذخة الألم والقسوة، ويبدو أنه يعرف هذا جيداً، وربما لا تنكره بعض
لقطاته ومشاهده، لكنه يرتكن في طزاجته إلى سياقات محلية متينة، أبرزها
اعتماد جانب من حبكته على عنصر الإثارة الكامن في التجارة السرية للخمور
بين شوارع الدولة الأكثر تحريماً لها. وكذلك استيعابه لقضية الطبقية في
مجتمع يعاني تشريحاً لمختلف لأنماطه نتيجة لخصوصيته الاقتصادية والحضارية.
لا يعني الكلثمي في فيلمه بأزمة تجارة المشروب المحرم، بقدر
ما يستغلها لصالح قضية الطبقية وليل الإحباط النفسي، والمحاولات الفاشلة
للتحقق عبر عشوائية الفعل وهيستيرية اتخاذ القرارات المصيرية، بناء على
مغامرات غير محسوبة أو معادلات خائبة النتائج.
أما محمد الدوخي في شخصية "فهد" فهو كتلة تعبيرية جميلة
وجذابة، بعينيه البليغتين، وملامحه المهزومة وصوته المتفاوت في نبراته
المشحونة بالأسى، أو الانفعال المبني على هشاشة داخلية، تحاول أن تبدو أكبر
من كونها ضعفا وأقل من رصدها كهزيمة.
يمكن اعتبار تجربة "مندوب الليل" إشارة كاشفة على طريق
المعادلة السينمائية المطلوبة، من أجل المزيد من التطور في صناعة السينما
بالمملكة، واستمرار نجاحه في شباك التذاكر – وهو الطموح التجاري المنتظر
لأي عمل فني- بالتوازي مع الاحتفاء النقدي المستحق وغير المبالغ أو
المُجامل، سوف يؤطره كنموذج يستحق الدراسة من قبل أصحاب المشاريع القادمة،
على مستوى صناع السينما السعوديين، أو باستخدام توصيفات الفيلم (مندوباً)
عن التركيبة الأكثر جاذبية ونضجاً في صناعة السينما، وهي كونه نتيجة طيبة
لحاصل ضرب الفن
x
التجارة.
*
ناقد فني |