لم تكن مشاركة فيلم "لو كان بامكاني السبات فقط" للمخرجة
المنغولية زولجارگل پيروڨداش بمهرجان "كان" السينمائي الدولي حدثًا فنيًا
عابرًا في المَشهد السينمائي المنغولي.
فهي المرة الأولى التي يصل فيها فيلم روائي منغولي طويل إلى مهرجان سينمائي
دولي ذائع الصيت تُعدّ المُشاركة فيه نوعًا من الاعتراف الضمني بسوية
الفيلم وأهمية صانعه من الناحية الإبداعية. غير أنّ المُدقق لتفاصيل هذه
الفيلم الذي كتبت قصته المخرجة نفسها سيجد من دون عناء كبير أنه يحمل
أصداءً واضحة لا يمكن تجاهلها أو غضّ الطرف عنها لفيلم "غُود ويل هانتينغ"
للمخرج الأمريكي غاس فان سانت الذي تتشابه ثيمته الرئيسة مع ثيمة "لو كان
بامكاني السبات فقط" مع بعض التغييرات الطفيفة التي أحدثتها زولجارگل
پيروڨداش، فالعبقري في الفيلم الأول موهوب في الرياضات وحلّ المعادلات
المعقدة جدًا، بينما المعجرة في فيلم پيروڨداش هو طالب نابغة في الفيزياء
يشارك في مسابقة علمية للحصول على منحة دراسية. ثمة أوجه للتشابه والاختلاف
بين الفيلمين من بينها تناول البطل للمشروبات الروحية مع ثلاثة من أصدقائه،
والعلاقة الجنسية الشاذة بين المدرس وتلميذه آخذين بنظر الاعتبار أنّ
المخرج غاس فان سانت يندرج ضمن تيار "سينما الشواذ الجديدة" وخاصة في
أفلامه الأولى التي تركِّز على الثقافات المهمشة التي يتفاداها الكثير من
المخرجين السينمائيين. (جدير ذكره أنّ هذا الفيلم يشارك في مسابقة الأفلام
الروائية الطويلة في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي لعام 2023م).
لنتفق على أوجه التشابة التي أشرنا إليها بين الفيلمين لكن
المتمعِّن لفيلم پيروڨداش سيجد فيه تفاصيل مغايرة تمامًا تحيل المتلقي
مباشرة إلى مشارف العاصمة المنغولية أولان باتور، وإلى الحي الذي يفتقر إلى
الماء، والكهرباء، وشبكات الصرف الصحي، ويعاني ساكنوه من التلوث لأنهم
يستعملون الفحم في تدفئة منازلهم البدائية التي يعيش فيها غالبية السكان
المنغوليين وخاصة الفلاحين والبدو الرحل الذين انتقلوا من سهوبهم وأريافهم
النائية وطوقوا العاصمة من جهاتها الأربع. وقد سكنت المخرجة في هذا الحيّ
وخبرت أناسه الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر من كثب فلاغرابة أن تقول
المُنتجة المُشاركة مايفا سافينن عن قصة الفيلم بأنها "مستوحاة من التجربة
الخاصة للمخرجة" التي عاشت معها أمها "المُطلّقة" في ذلك الحيّ البسيط بعد
أن فتحت دكانًا صغيرًا وتعاملت مع أبنائه الفقراء الذين لا يؤمّنون
احتياجاتهم اليومية إلاّ بشقّ الأنفس.
أعمال غير قانونية محفوفة بالمخاطر
تتمحور ثيمة الفيلم على أولزي، وهو مراهق فقير في سن
الخامسة عشر ولكنه معتد بنفسه ويعيش مع عائلته المُعدَمة في ضواحي العاصمة
أولان باتور لكنه يتمتع بذكاء حاد في الفيزياء وبتشجيع من مُدرِّسه يقرر
الاشتراك في مسابقة علمية للحصول على منحة دراسية تضمن له وظيفة ثابتة بعد
التخرّج غير أنّ والدته تجد عملاً في الريف في غربيّ البلاد فتتركه مع
أخوانه الصغار لوحدهم ليواجهو شتاءً قارس البرودة فيتعيّن على أولزي العمل
في قطع أشجار الغابات بطريقة غير قانونية ومحفوفة بالمخاطر من أجل تأمين
هاجس الطعام والحفاظ على المنزل دافئًا خلال فصل الشتاء الذي تنخفض في درجة
الحرارة إلى 35 درجة مئوية تحت الصفر.
لا يمكن لهذا الإيجاز أن يفي بقصة الفيلم التي كتبتها
پيروڨداش وتوسعت في تفاصيلها بدءًا من أهمية التعليم، ورزع الأمل في
النفوس، مرورًا بتلوث البيئة، والتركيز على التقاليد الغريبة في معالجة بعض
الأمراض، وانتهاءً بالإدمان على الكحول، والتحرّشات الجنسية التي تتعرض لها
الطالبات في المدارس المتوسطة والإعدادية، والتلميح إلى "مجتمع الميم"
ومجاراة منظومة القيم الأوروبية التي تركّز عليها المخرجة في مجمل أفلامها
الوثائقية والروائية القصيرة الأخرى التي احتفت بها العديد من المهرجانات
السينمائية في آسيا وأفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
يُمجِّد هذا الفيلم الدرامي دور المدرِّس في المجتمع
المنغولي، فهو الذي يكتشف المواهب لدى التلاميذ ويحثهم على استثمار الفرص
المتاحة مثل المسابقات العلمية في الفيزياء وغيرها من المواد الدراسية
المكرّسة لهذه الفئة العمرية، فلولا المدرِّس "بليجيت" الذي كان، هو الآخر،
طالبًا متفوقًا وحصل على منحة دراسية، لما وافقَ أولزي على المشاركة في هذه
المسابقة. فمن بين طلاب الصف كلهم حصل هذا الطالب الموهوب على علامة
A
الكاملة من دون يقترف أي خطأ أو هفّوة بسيطة لكن ظروف حياته القاسية ضمن
أسرة مات مُعيلها الوحيد وترك ثلاثة أطفال صغار لا يجدون حرجًا في العمل
مهما كانت طبيعته حيث يعمل أولزي في العطلة الصيفية في الإنشاءات، بينما
تصنع شقيقته "تانغا" أساور وتبيعها على المارة في الأسواق. ومن سوء حظهم
جميعًا أنّ أمهم أدمنت على شرب الكحول بعد أن ضاقت بها سبل العيش ولم تجد
عملاً يدّر عليها بعض النقود التي تؤمِّن للأطفال وجبات الطعام اليومية
ومنزل دافئ على مدار الساعة.
العلاج بالطرق الشعبية الغريبة
وبما أنّ شقيقه الأصغر "قارغا" يمرض كثيرًا وترتفع درجة
حرارته بسبب البرد الذي يفضي غالبًا إلى إصابته بالحمّى فإنّ أولزي يأخذه
إلى عمته التي تقيم في شقة سكنية حديثة الطراز في قلب العاصمة ويُخضعه إلى
طريقتين غريبتين من العلاج الشعبي؛ الأولى بواسطة وضع الإصبع الأكبر في فم
المريض شرط أن يعضّه. كما يجب وضع اللجام حول رقبته لكي يشفى من مرضه
تمامًا. تعرّي هذه الزيارة العديد من المشاكل بين أمه وعمته، فأبوه، بحسب
رواية أمه، باع قطيعه ليدفع تكاليف عمته الدراسية لأربعة فصول، بينما تتهمه
عمته بأنه يستجدي دائمًا ويعيش على صدقاتها المستمرة. فمثلما أعطته الآن
بعض الملابس القديمة التي تعود لابنها، وقدّمت له مبلغًا ضئيلاً يمكن أن
يدفع به أجرة الباص الذي سيعود به إلى منزله، أو كيس التفاح الذي أرسلته
لأختها، فإنها طلبت منه أن يُعطيها لجام الحصان لقاء تسديد ديون أمه
المُدمنة لكنه رفض بشدة لأنّ أباه تركه له، وأنّ الُلُجم، في العادة،
يتوارثها الأبناء عن الآباء. وإذا كان لديها ديون بذمه أمه فلتأخذها منها
مباشرة. ثمة فرق واضح في حياة الشقيقتين،فالمدمنة تسكن في "يورت" وهو
الخيمة المنغولية التقليدية المتوارثة، بينما تسكن شقيقتها في عمارة سكنية
شاهقة تتوفر على غالبية المستلزمات الحديثة مثل نظام التدفئة المركزية،
والمياة الصالحة للشرب، والحمام الساخن الذي رأينا أولزي يستحم فيه بمتعة
لم يألفها من قبل في بيته الريفي أو في سكنه العشوائي في الحي الفقير
المحيط بالعاصمة.
تتضح شخصية أولزي القوية شيئًا فشيئًا، فلم تستطع عمته أن
تبتزهُ أو تأخذ حقه. وحينما يتجادل مع أمه التي تنتقده لأنه اشترى حذاءً
رياضيًا جيدًا يجيبها من فوره:"لقد عملتُ مثل الكلب طوال الصيف في البناء
وتستكثرين عليّ أن أقتني حذاءًا رياضيًا جميلاً؟". ويضيف قائلاً بحرقة
شديدة:" لا أريد أن أُسمّى شحّاذًا" لكن الأم تستدرك وتقول مؤكدة:" نحن لا
نشحذ من أحد وإنما نسترد ديوننا السابقة". فكل أفراد الأسرة أقوياء،
ويعتزون بكرامتهم الإنسانية بما فيهم الأم المدمنة التي التجأت إلى الكحول
لأنها تعمل في تنظيف المرافق الصحية من دون أن يسدد لها صاحب العمل أجورها
اليومية الأمر الذي سيدفعها لاحقًا إلى مغامرة العودة إلى الريف البعيد في
غربيّ البلاد الذي قدِمت منه قبل سنتين.
ونظرًا لشظف العيش والضغوط المستمرة التي يعاني منها أولزي
تتوتر علاقته مع أمه التي يقرّعها حينًا، ويحنو عليها حينًا آخر، فلاغرابة
أن يطلب منها البحث عن عمل لتأمين الطعام والتدفئة في الأقل.
دور التعليم في حلّ المشكلات العويصة
تحث مُخرجة الفيلم على أهمية التعليم ودوره في إيجاد الحلول
للأفراد ومشكلات البلد العويصة مثل التلوث، والبطالة، والفقر المدقع وما
إلى ذلك لهذا تتكرر المَشاهد الصفيّة، والمسابقات، وحضور المدرّس كشخصية
مهيمنة وفاعلة. فحينما يحلّ أوزلي مسألة حسابية بطريقة صعبة يسأله المدرس
"بليجيت" إن كان قد درّسهم الأرقام الصحيحة أم لا؟ فهذه الحصة تُعطى للصف
الحادي عشر لذلك طلب منه أن يحلّها بطريقة بسيطة يفهمها الطلاب لكن عقليته
المتقدمة على أقرانه لا تستسيغ الحلول المملة المُضجرة لأنه يجد نفسه
وضالته في هذا النمط من التحديات العلمية المعقدة. وفي هذه اللحظة بالذات
يسأله إن كان قد دخل في مسابقة الفيزياء من قبل أم لا؟ وحينما ينفي ذلك
يخبره بأنّ هناك مسابقة جديدة وعليه أن يسجل فيها إن كان راغبًا بخوضها.
لكنه يرفض أيضًا لأنّ المشاركة تكلّف 5000 توغروغ منغولي التي تعادل دولار
ونصف الدولار تقريبًا وهو مبلغ يكفيه لشراء نصف كيس فحم صغير يدفئهم لبعض
الوقت.
يمكن تلمّس مخايل الذكاء عند أولزي في كل مكان تقريبًا،
فحينما تدعوه صديقته في المدرسة للتزلج وتسقط على الأرض تتذمّر لأنّ مصمّمي
الزلاجات لم يصعنوا حافة الزلاجة أعرض مما هي عليه الآن فيعلّل ذلك بأنّ
الزلاجة ذات الحافة العريضة ستحتاج إلى قوة أكبر لكي تندفع الأمام بسبب
الاحتكاك.
يصطحب أولزي أمه إلى محل للإنترنيت كي يبحث لها عن فرصة عمل
فيعثر على وظائف متعددة من بينها حارسة في دائرة دافئة، ومندوبة مبيعات،
ومُعِدّة ومُقدمة قهوة في كافيه وبما أن بعض هذه المهن تحتاج إلى شهادة
البكالوريا التي لا تمتلكها أمه فإنها تغادر حانقة ساخطة.
تؤكد المخرجة على أهمية العلم والتعليم من خلال ظهور
الأساتذة الذين ينظّمون المسابقات العلمية في المدارس النموذجية حيث نسمع
أحدهم يؤكد على حاجة البلد إلى آلاف المهندسين الذين يجعلون من منغوليا أمة
حديثة تواكب روح العصر وهو يثق بطلابه الأذكياء وينظر لهم بعين الأمل
والتفاؤل ويقدّر إمكانياتهم اللامحدودة وتفوقهم الدراسي.
ينتكس بعض الشباب المنغوليين أحيانًا حينما ينتابهم الشعور
بأنّ أحلامهم الكبيرة لا تتحق ما لم يغادروا هذا البلد الذي تتضاءل فيه فرص
العمل فلاغرابة أن نرى أوزلي يعمل في قطع الأشجار بطريقة مخالفة للقانون
لأنّ هذا العمل يساهم في تقليل المساحات الخضراء كما يعرّضه للمساءلة
القانونية والسجن إن ضبطتهُ الجهات المعنية مُتلبسًا بجريمة الإساءة إلى
البيئة.
مغامرة العودة إلى الريف
ليس من المستغرب أن يفوز أولزي بمسابقة الفيزياء التي تحمل
اسم البروفيسور باڨوودورج فهو يمتلك ذكاءً حادًا يؤهله لخطف المزيد من
الجوائز إن سنحت له فرصة المشاركة في المسابقات العلمية على وجه الخصوص.
وبما أنه كان ثملاً في الليلة الماضية مع أصدقائه فإن مدرّسهُ "بليجيت"
يُعطيه عِلكة لتُزيل رائحه فمه الكريمة عندما يرتقي إلى المنصة ويتسلّم
الجائزة بنفسه من القائمين عليها حيث يعلن أحدهم أنّ الفائز هو "أولزيبات"
الذي ينتمي إلى الصف 9B
للمدرسة التي تحمل الرقم 72. وحينما يعود أولزي فرحًا بالفوز ويعتزم
المشاركة في المسابقة الوطنية على مستوى البلد تصدمه الوالد بقرارها في
العودة إلى الريف لأنها وجدت عملاً هناك في جمع حبّات الصونبر وأنها لا
تستطيع أن تغامر وتترك أولادها الثلاثة في متاهة أولان باتور بينما يطمح
أولزي بالفوز وإكمال دراسته الجامعية في الخارج والحصول على وظيفة تضمن له
حياة سعيدة في السنوات القادمة. أما تفكير الأم فينحصر بجمع بعض النقود
وشراء عشرة خرفان وعشر مِعزاة توفر لأبنائها ما يسدُّ رمقهم ويضمن لهم
شتاءات دافئة.
يشارك أولزي بمسابقة العاصمة أولان باتور ويحصل على المركز
التاسع ويتأهل للمسابقة الوطنية لكنه يظل قلقًا على أمه بسبب المشاكل التي
تصادفها في الحياة الريفية بينما يتوجب عليه أن يعتني بأخيه الأصغر الذي
يمرض كثيرًا ولا يستطيع تأمين ثمن الدواء الذي يحتاجه إلاّ بصعوبة بالغة.
يشكّل الفقر ظاهرة عامة في الأحياة السكنية المهمّشة فعائلة
"تشمبغي" تقتل الكلاب الضالة وتنقعِّها بالزيت وتحرقها في المدافئ لأنها لا
تستطيع أن تشتري فحمًا وتُثني على هذه الكلاب التي تظل مُحترقة لأطول مدة
زمنية ممكنة. ولا يجد هؤلاء الفقراء بديلاً سوى العمل في المهن الممنوعة
مثل قطع الأشجار من الغابات حتى أنّ أولزي يعرض حذائه الرياضي للبيع ليسدّد
ثمن بعض احتياجاته المنزلية حتى أنه يتمنى، ومعه الأسرة كلها، أن يسبتوا في
فصل الشتاء سُباتًا عميقًا ويخلدوا إلى النوم إلى الدرجة التي لا يشعرون
فيها بما يجري حولهم حيث يقول:"لو نستطيع أن نسبتْ مثل الدببة في الشتاء،
لا نشعر بالبرد، ولا نُصاب بالزكام أبدًا".
تتضاعف الضغوط على أولزي، فشقيقه يمرض بين آونة وأخرى، وأمه
تعاني من سوء المعاملة حتى أنهم يصادرون غِلتها، ومدفأة المنزل خالية من
الفحم والأخشاب، فلاغرابة أن يتهرّب أولزي من المدرسة وينغمس بالعمل غير
الشرعي في قطع الأشجار مع أنّ أصدقاءه يعرفون جيدًا أنه يحب الدراسة ولكن
الحياة حاصرته من كل الجهات وأجبرته على خرق القوانين المرعية وحينما يغيب
لأكثر من مرة يلاحقه المدرِّس في أعماق الغابة حتى يعثر عليه، ويوبّخ من
معه من العاملين، ويطلب منه العودة إلى الدراسة لكنه يرفض ويقرر العودة
بمفرده إلى البيت مع أنّ المدينة ستتحمّل تكاليف المسابقة الوطنية التي
ستنعقد في أحد الأرياف الجميلة.
يكتشف أولزي أن شقيقته تانغا تبيع الأساور على المارة في
سوق المدينة، والغريب أنه يخجل أن يكتشف المعارف والأصدقاء بأنّ ابنة
الراحل "ديمبريل" تشتغل في الشوارع وأنهم يعيشون بحالة مُزرية. تنتقد تانغا
شقيقها لتهرّبه من المدرسة وتطالبه بالعودة إلى الدراسة وهي تعمل على تأمين
النقود من بيع الأساور التي تصنعها بنفسها.
عوائل تعيش تحت مستوى خط الفقر
تركز المخرجة على منظمة رعاية الأطفال التي توزِّع فلترات
الدخان على العوائل المتعففة التي تعيش تحت مستوى خط الفقر وبضمنهم عائلة
أولزي لكن انقطاع الكهرباء يمنعهم من تشغيلها، ويحذرونهم من إعطاء هذا
الفلتر إلى أي شخص آخر علمًا بأنّ لكل فلتر رقمه السريّ الخاص به. وينبهون
أولزي بأنّ الكنيسة ستوزع الرز قريبًا وعليه أن يأخذ حصته. وحينما يتأزم
وضعه المادي كثيرًا يعرف تلفازه للبيع كما عرض حذاءه الرياضي سابقًا . لم
تدخر پيروڨداش شيئًا فقد لامست التقاليد البوذية حينما مات الكلب وطلب منه
جاره أن يقطع ذنَب هذا الحيوان الأليف ويضعه تحت رأسه حتى يتحوّل إلى إنسان
في الحياة القادمة كما يعتقد البوذيون في كل مكان من هذا العالم، فالبوذية
هي الديانة الرابعة بعد المسيحية والإسلام والهندوسية ولعل هذه الإشارة هي
تمجيد لمظاهر هذه الديانة الروحية التي تدعو أتباعها إلى التخلّص من
الأنانية وحُب الشهوات.
تتكثّف الأفكار في القسم الأخير من الفيلم حينما يتلقي
أولزي بجارهم الكبير في السن ويعترف له بأنه "يكره" أمه لأنه يعتقد أنها
ثملة ولا مبالية على الدوام لكن هذا الجار يمنعه من الإساءة إلى أمه لأنّ
التجاوز على الأم خطيئة، وساء أكانت هذه الأم سيئة أم جيدة فهي أثمن شخص في
الوجود. وحينما ينخرط أولزي في البكاء يقترح عليه الجار أن يبقى عندهم في
البيت لحين عودة أمهم التي توارت في غربيّ البلاد.
تأخذ الأفكار مسحة فلسفية حينما يطلب منه الجار أن يستمر في
البكاء لكي يفرغ قلبه من الألم لكنّ أولزي يعترض على هذه الفكرة لأنه في
قرارة نفسه يشعر بأنه سينهزم أمام أي شيء إذا ما سقط في البكاء خاصة وأنه
على وشك أن يصبح شحّاذًا ضعيفًا كما تشي الظروف القاسية المحيطة به لكن هذا
الشيخ الخبير يلفت نظره إلى العظمة الكامنة في داخله وهي التي تؤهله
للعناية بأشقائه الصغار. كما يعتذر أولزي لمدرّسه الذي سيرتب له كل ما
يتعلق بالمشاركة في المسابقة الوطنية الثانية والثلاثين التي ستعقد في قرية
مانخان بمحافظة خوفد. وقد تمنى القائمون عليها حظًا سعيدًا لكل الطلبة
المشاركين الذين تجمعوا الذين تجمّعوا من أنحاء منغوليا حتى تزدهر الثقافة،
وتتطور العلوم بمختلف أنواعها.
يقدّم أولزي تجربته العلمية باقتضاب شديد وحينما يخرج من
الاختبار يتصل بأمه لكنه يفشل في الحصول عليها، ويطلب منها العودة، ويعِدها
بأنّ كل الأمور ستكون بخير، ويتزامن هذا الكلام مع وقوفه أمام تمثال الأم
في ساحة المدرسة النموذجية التي يتجمّع بها المشاركون في المسابقة، ثم
نشاهدهم يندفعون صوب لوحة إعلان النتائج النهائية يهنئون بعضهم بعضا ثم نرى
أولزي وهو يحدق في اللوحة أيضًا ثم تنفرج أساريره قليلا لنعرف بأن التفوق
حليفه دائمًا، وأنّ الميدالية الذهبية سوف تطوّق عنقه في خاتمة المطاف حتى
وإن ظلت النهاية مفتوحة لا توحي بالفوز أو الخسارة.
جدير ذكره أنّ زولجارگل بيروڨداش هي مخرجة أفلام منغولية
درست صناعة الأفلام في اليابان. أنجزت العديد من الأفلام الروائية القصيرة
من بينها "الحافلة الصفراء"، و "المصباح العاري" و"سلالم" الذي حاز مؤخرًا
على الجائزة الأولى في مهرجان شيكاغو الدّوليّ لأفلام الأطفال. و "لو كان
بإمكاني السبات فقط؟" وهو فيلمها الروائي الطويل الأول الذي شارك في "نظرة
ما" في مهرجان "كان" السينمائي الدولي، ومهرجان "الجونة" السينمائي الدولي. |