لم تيأس يوما السينما الإيرانية من النضال لأجل الحرية،
تغوص فى قصص واقعية تسعى من خلالها لإحداث وجع إنسانى فى قلب نظم وقوانين
مقيدة للحرية.. تصور آلام وأحلام بشر يسعون للحق فى حياة طبيعية لها ما لها
وعليها ما عليها، وعلى شاشة مهرجان الجونة شاهدت أحد أفضل الأعمال
السينمائية التى تؤصل لقدسية رسالة الفن فى كسر سياسة الحجر على المشاعر،
وكتم صوت الضمير والحقيقة، وانكسار الروح، وهو فيلم «سبع فصول شتاء فى
طهران» للمخرجة الألمانية، شتيفى نيدرزول، والتى وثقت فيه لقصة دارت
أحداثها فى يوليو من عام 2007، تحكى عن «ريحانة جبارى» الشابة التى أطلقت
صرخة مدوية أمام ظلم العدالة وما زال صوتها يدوى حتى اليوم.
فى الأحداث تتفق ريحانة مصممة الديكور مع طبيب يدعى «مرتضى
سربندى» على تنفيذ ديكورات عيادته، وهناك تفاجأت أنها شقة ويحاول اغتصابها
بعد أن أغلق الباب، تتوسل إليه ألا يفعل لكنه يصر، فتطعنه بسكين دفاعًا عن
النفس، فترديه قتيلا، وفى وقت لاحق من ذلك اليوم، تم القبض عليها بتهمة
القتل العمد، وعندما روت القصة ادعو أنها تحاول تشويه سمعة الرجل الذى له
علاقة بالاستخبارات الإيرانية، وأسفرت محاكمتها عن عقوبة الإعدام، بعد
انتظار سبعة أعوام داخل جدران السجن كانت كفيلة بإثارة غضب وتضامن دولى مع
قضيتها، وخلال تلك الفترة لم تصمت الأسرة ولا «ريحانة»، ولا المؤمنون
بقضيتها، والذين تجاوزا حدود إيران بفضل الفيديوهات الشخصية والمسجلة سرا
التى قدمتها عائلة ريحانة وشهاداتهم والرسائل التى كتبتها المتهمة فى السجن
لكن بلا جدوى.
تمسك القضاء الإيرانى فى الاستشهاد بـ «حق الانتقام من
الدم»، وهذا يعنى أنه طالما لم تسحب ريحانة اتهاماتها ضد الرجل، فإن عائلته
يمكن أن تطالب بقتلها، وتمسكت ريحانة بشهادتها وتم شنقها عن عمر يناهز 26
عامًا.
يتتبع الفيلم المؤثر والمثير الذى أبكى جمهور صالة العرض،
مصير «ريحانة» التى أصبحت رمزا للمقاومة وحقوق المرأة حتى أبعد من حدود
إيران، فالقضية تشير إلى الطبيعة المتأصلة لما تعج به المحاكم الإيرانية
الذكورية بالفساد والقهر، وخاصة ضد النساء.
كانت «ريحانة جبارى» تبلغ من العمر 19 عامًا فقط عندما وقعت
ضحية للنظام القضائى فى بلدها بينما نفذ حكم الإعدام وهى فى السادسة
والعشرين وبين الحكم وتنفيذه يروى الفيلم بأسلوب سرد مدهش وسيناريو ذكى
شهادات مفعمة بالمشاعر والأسى والغضب لتلك السنوات.
«أريد
أن أخبر الجميع قصتى» هكذا تقول ريحانة وهى قادرة على القيام بذلك بفضل
المحادثات الهاتفية المسجلة من السجن والرسائل التى قرأتها بصوت بطلة فيلم
«العنكبوت المقدس»، زار أمير إبراهيمى، التى فرت بنفسها أيضا من إيران فى
عام 2006 بعد تسرب مقطع فيديو خاص بها، بالإضافة إلى ذلك، هناك أيضًا
مقابلات مكثفة مع عائلة «ريحانة» وآخرين قاموا بحملات بلا كلل من أجل إطلاق
سراحها، مع اللقطات التى حاولوا فيها هروبها خارج البلاد.
على الشاشة تتخذ المخرجة نهجًا زمنيًا، نسمع فيه أولا كيف
أصبحت «ريحانة» فى موقف مساومة مع الطبيب المدعو «مرتضى ساربندى»، والذى
قام باستدراجها تحت ذرائع كاذبة إلى شقة من خلال ما اعتقدت أنها فرصة عمل،
قبل أن تقتله، ثم بعد اعتقالها أصبح من الواضح تدريجيًا أن «سربندى» كان
مرتبطًا ببعض الأجهزة الأمنية، والتى من شأنها أن يكون لها تأثير كبير على
ما حدث لـ«ريحانة» فى المحاكمة.
طبيعة الفيلم تعتمد على إجراء المقابلات، والتى لا يمكن
تجنبها، وتعد شهادة دائمة على وفاء والتزام عائلة «ريحانة» تجاهها وتذكر
قضيتها، تستخدم المخرجة أيضًا نسخًا طبق الأصل مصغرة من قاعة المحكمة
والسجون التى كانت ريحانة محتجزة فيها، وتتمتع هذه النماذج بسكون وصمت
بينما تتحرك الكاميرا حولها وفوقها، مما يزيد من الحتمية القاتمة للقصة
التى يتم نقلها.
ومع مرور السنين، نرى كيف يشوب الفساد كل خطوة من خطوات
العملية، بدءًا من تصريحات المسئولين المتحفزة والتدخل القضائى وصولا إلى
قول القاضى لريحانة: «كان عليكِ أن تسمحى لنفسك بالاغتصاب وتقديم تقرير فى
وقت لاحق»!!.
وتقول للقاضى: «ماذا يمكن أن نفعل غير ذلك؟ أفعل؟».. فيرد
عليها من جديد: «عليك أن تتركيه يغتصبك، ومن ثم مقاضاته».
رغم الطبيعة الصعبة للموضوع، فإن المخرجة نيدرزول تقدم
أيضًا بعض بذور الأمل، ويسلط الفيلم الضوء على نشاط «ريحانة»، التى ساعدت
النساء الأخريات داخل السجن على إيجاد الشجاعة للتحدث علنًا ضد سجنهن،
ووالدتها «شول» التى واصلت مساعدة كثيرات أخريات فى محاربة أحكام الإعدام
الصادرة بحقهن، وهى تعيش حاليا كلاجئة فى ألمانيا بعد المضايقات التى تعرضت
لها من الحرس الثورى الإيرانى نتيجة استمرارها فى الحديث عن الظلم الذى
تعرضت له ابنتها، ومناهضتها لعقوبة الإعدام فى إيران، أما بالنسبة للأب فلم
يستطع حتى الآن مغادرة إيران.
فى صورة أخرى يلمس المشاهد كيف تمكن الفيلم عبر استخدام
مقاطع فيديو حقيقية تبرز معاناة الأسرة فى محاولة الدفاع عن حق ابنتهم فى
البقاء على قيد الحياة، ورسائل كتبتها «ريحانة» من السجن بخط يدها من إظهار
جانب خفى ومؤثر لفتاة أصبحت رمزا لمقاومة المرأة الإيرانية.
طوال الفيلم، نشعر بصمود ورزانة «ريحانة» فى مواجهة الحكم
الصادر بحقها، وحتى قبل المحاكمة، تم جلدها 30 جلدة بتهمة «إقامة علاقة
خارج إطار الزواج، ولكن دون جماع»، وأصرت حتى آخر يوم فى حياتها، على أن
الحادثة هى حادثة دفاع عن النفس عندما شرع القتيل فى الاعتداء عليها جنسيا،
وعندما انهارت المفاوضات مع «جلال» ابن القتيل من أجل مسامحة «ريحانة»
وإنقاذها من الشنق، بينما كان المشهد مفاجأ وبدلا من تصوير «جلال» على أنه
ابن الرجل السيئ، فإنه يظهر من خلال تعاطف الأم «شول» معه، كيف أنه وقع
أيضا ضحية ذلك الأب، وكيف أنه يمكن أن يكون أداة لتشويه الأب بغض النظر عن
البراءة أو الذنب.
وعلى على مدى السنوات السبع، كانت «شول» والدة ريحانة،
تتحدث مع «جلال»، والذى قال إن «ريحانة» إذا تراجعت عن تهمة الاغتصاب فسوف
يطلقون سراحها، لكن، وبالرغم من تذكرة الحرية هذه وتوسل والدتها لإطلاق
سراحها، رفضت «ريحانة» التراجع واختارت الحقيقة والاحتجاج على الخضوع
والحرية بهذا الشكل.
على الرغم من أن «ريحانة» نادرًا ما تظهر فى الفيلم
الوثائقى، إلا أننا تمكنا من فهم ملامح شخصيتها المرنة من خلال مذكراتها
ومقابلاتها مع الآخرين: كانت «ريحانة» مبدعة، وذكية، وعائلية، ومحبة للمرح،
وصفتها نزيلتها وصديقتها فى السجن بأنها «الأم الحاكمة» لأنها رغم صغر سنها
الذى لم يتجاوز التاسعة عشرة، تطورت لتصبح شخصية أم، وعلم السجن «ريحانة»
أن هؤلاء النساء اللاتى تم تصنيفهن سابقًا على أنهن «من الطبقة الدنيا»
غالبًا ما يتم تأطيرهن على أنهن مجرد تهديدات من قبل النظام.
وقبل وقت قصير من إعدامها فى عام 2014، أرسلت ريحانة رسالة
إلى عائلتها، وقالت لأحبائها: «توسلى لكى يتم الترتيب لأنه بمجرد شنقى،
سيتم أخذ قلبى وكليتى وعينى وعظامى وأى شىء يمكن زراعته من جسدى وإعطاؤه
لشخص يحتاج إليه كهدية». تلك. «لا أريد أن يعرف المتلقى اسمى، أو يشترى لى
باقة زهور، أو حتى يصلى من أجلى. أقول لك من أعماق قلبى إننى لا أريد أن
يكون لدى قبر لتأتى إليه وتحزن هناك وتعانى.. لا أريدك أن ترتدى ملابس
سوداء من أجلى.. ابذل قصارى جهدك لنسيان أيامى الصعبة.. أعطنى للريح
لتأخذنى».
فى نهاية عرض الفيلم الوثائقى «سبعة فصول شتاء فى طهران»،
بقى الجمهور صامتا، وأعينه دامعة، متأثرا بتلك الحالات والعقاب الذى تعرضت
له «ريحانة»، وكذلك إسكات العدالة وإدراك المعنى الحقيقى للاحتجاج، فالفيلم
نفسه يحاكى هذا الاحتجاج والسعى من أجل التحرر. وكانت عين الكاميرا تضع
المشاهد فى مكانة الأم المتألمة. على الرغم من أننا كنا نعلم أن مصير
ريحانة هو الإعدام على الأرجح، إلا أن المعالجة الماهرة أعطتنا أملا كاذبا
بأن «ريحانة» ستنجو من نظام السجون الظالم، وهو نفس الأمل الذى تسرب لقلب
الأم.
انتظرنا، نحن الجمهور، كما لو كنا نأمل فى نهاية سعيدة من
نوع ما؛ بالطبع لا توجد معجزة فى الحبكة التى تم فيها تحريف حياة هؤلاء
النساء من قبل صحافة النظام أو ما هو أسوأ من ذلك، وتم إعدامهن دون
الاعتراف بهن. ومع ذلك، فإن الجالسين منا فى «سى سينما» يعرفون الآن قصة
ريحانة، ولكن أكثر من ذلك أصبحنا نعرف الآن قصة كل هؤلاء النساء. ربما
نسيهم المجتمع، لكن ذكرياتهم عادت إلى الحياة فى دار العرض السينمائية. |