مهرجان الجونة السينمائي... دورة استثنائية واحتفاء
بالسينما الفلسطينية
نور هشام السيف
أسدل الستار على دورة الجونة السينمائية في سادس أعوامها
بهدوء يختلف عن الصخب المعتاد والهالة المعهودة المصاحبة للمهرجان في كل
دورة خاصة، في ظل الجدل الذي أحاط بتنظيمها قبل شهرين خلال الحرب
الجارية على غزة.
لم يكن بالإمكان التغافل عن الحرب التي تتقدّ نيرانها وتكاد
تمتد إلى الدول المجاورة، فبعد قرار إلغاء مهرجاني القاهرة وقرطاج
والحفلات الموسيقية في مصر، ومع تصاعد حجم الإبادة الجماعية في غزة والقلق
من الوضع الأمني، استمر طرح الأسئلة الاستنكارية في مواقع التواصل
الاجتماعي: إلى أي مدى يستطيع المرء في الوقت الراهن أن يلوذ
بالموسيقى والفن والسينما؟
وفي حال أقيم المهرجان لدواعٍ إنسانية في صمت (وللصمت أشكال
أيضاً)، ففي أي إطار يتشكّل هذا الصمت؟
طُرحت تلك التساؤلات ما بين مؤيّد ومعارض قبل الافتتاح،
بخاصة أنّ هذا المهرجان بالتحديد يرافقه الجدل منذ دورته الأولى بسبب مظاهر
البهرجة.
وبالرغم من ذلك تمّ الإفتتاح في 14 كانون الاول (ديسمبر) من
الشهر الجاري، ليكسر الصورة النمطية لكرنفال الإطلالات الجريئة، وبعد
قرارات تأجيل مكرّرة قرّرت إدارة المهرجان هذا العام إلغاء المظاهر
الاحتفالية والسجادة الحمراء، مع الإلتزام بالزي الرسمي والملابس الداكنة
ظهر ممثلو المهرجان على المسرح محمّلين بخطابات مغلّفة بالمراثي إلى شعب
غزة الصامد، مع التأكيد على أهمية استمرار هذا الحدث السينمائي البارز،
لتكون فلسطين عنوانه الرئيسي. وهذا ما أكّده كل من المدير الفني لمهرجان
الجونة ماريان خوري ومدير المهرجان انتشال التميمي، حول تحدّيات الدورة
والرغبة الحقيقية في تمكين الشباب السينمائيين الواعدين.
في حقيقة الأمر، جاءت هذه الدورة بظروفها المربكة
لتبين أنّ أكثر ما يلوذ به المهرجان الآن هو الاسترخاء، وإعادة النظر إليه
بعين الحقيقة لا بعين العالم البرّاق والمحصور بإطلالات النجوم، ليضع
التركيز بشكل أكبر على عروض الأفلام وسوق الجونة السينمائي في ساحة
"البلازا" الذي يحتضن شركات الإنتاج والتوزيع وبرامج التمويل والمنح في قلب
المهرجان، مع قاعات المحاضرات والورش يقدّمها صنّاع الأفلام في الشرق
الأوسط، مؤكّدًا بذلك التفرّغ لإبراز الجوانب الفنية والثقافية للسينما.
والحضور الأهم هذا العام هو برنامج منطلق الجونة السينمائي،
والذي يرأسه الناقد ورئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) أحمد شوقي، وهو
برنامج دعم وتمويل الأفلام ومركز استقطاب لكل المشاريع قيد الانجاز،
أعلنت منصّة الجونة من خلال المنطلق عن جوائز تبلغ قيمتها 365 ألف دولار
للمشاريع الفائزة، وتأتي هذه الخطوة في سياق تعزيز دور المهرجان كمساحة
فنية لتبادل الخبرات.
نافذة على فلسطين
يطول الحديث عن برنامج عروض الأفلام وتصنيفاتها وما يندرج
منها في المسابقات الرسمية وما يُعرض خارجها، وعن نتائج الجوائز ومدى
استحقاقها، بخاصة أنّ برنامج هذه الدورة قد أسّس منذ الصيف الماضي مع
استقطاب مجموعة أفلام هامة وحاصلة على جوائز من مهرجانات دولية كبرى
أهمها كان، فينيسيا، برلين، مثل فيلمي "دوغمان" و"تشريح سقوط"، أما البنية
الظاهرية للمهرجان، فتشير إلى التوقف عند حالة الاستثناء الفريدة فيه، وهي
فعل المقاومة.
فبالرغم من تراجع بعض الرعاة وأثر هذا الإنسحاب في تكبّد
خسائر مالية، لم يتراجع المهرجان عن التزامه بتشجيع السينما الفلسطينية
ودعمها، بخاصة أنّه يحمل شعاره الدائم "سينما من أجل الإنسانية".
وعكس برنامج "نافذة على فلسطين" عمق القصص الإنسانية بغية
إيصال صوت السينما الفلسطينية للأجيال الجديدة، ودعوتها لفهم التجارب
الإنسانية في الداخل الفلسطيني عبر الحياة غير المرئية والقصص غير
المروية.
نُسّقت معظم أفلام هذا القسم بالتعاون مع مؤسسة الفيلم
الفلسطيني، وهي تضمّ الأفلام بمجموعة من الإنتاجات التي تتراوح بين القديم
والجديد.
افتُتحت العروض في اليوم الأول بفيلم المخرج المصري يسري
نصر الله "باب الشمس" عن رواية اللبناني إلياس خوري، من انتاج عام 2004،
وإنما أُعيد إصدار نسخة مرممة منه بمبادرة من مهرجان لوكارنو في دورته
الأخيرة، وتمّ عرض الفيلم في جزءين مدتهما 4 ساعات ونصف الساعة.
البرنامج الفلسطيني أيضاً شمل أفلاماً متنوعة منتجة خلال
السنوات الـ15 الماضية مثل:
" إسعاف" إخراج محمد الجبالي، "الشجاعية" إخراج محمد
المغني، "الرسم لأحلام أفضل" إخراج مي عودة ضياء العزة، "بلا سقف" إخراج
سينا سليمي.
وصولاً الى فيلم "الأستاذ" لفرح النابلسي في مسرح
البلازا، والذي سبق وشارك في مهرجان البحر الأحمر في مطلع الشهر الجاري
ونال جائزتي أفضل ممثل وأفضل فيلم.
وداعاً طبريا
في اليوم الثاني، عُرض الفيلم الوثائقي الحديث "وداعاً
طبريا" إخراج لينا سواليم، بعد عرضه للمرة الأولى في مهرجان تورنتو ثم
مهرجان مراكش الشهر الماضي، ليأتي إلى محطته الثالثة في الجونة.
نتوقف قليلاً عند هذا العمل الجديد الذي يروي قصة واحدة من
أيقونات السينما الفلسطينية، وأكثرهن انتشاراً ونشاطاً، الممثلة هيام عباس.
من يشهد على مسيرة هيام الحافلة والغنية لا بدّ أن تثير
فضوله خلفية هذه الشخصية الكاريزماتية على الشاشة ومدى ليونتها في تقمّص
أدوار متباينة بلهجات عدة.
تخبرنا المخرجة قصة حياة والدتها الممثلة الشهيرة، بداية من
تخطّيها خارج حدود قريتها الفلسطينية إلى مقاطعة أهلها لها في السنوات
الأولى لزواجها من رجل أجنبي غير مسلم، عقب ثلاثين عاماً يعود الحنين برفقة
سواليم ووالدتها، حاملين الأسى على رحيل والدة عباس والتي ظهرت في مشاهد
عديدة في الفيلم عبر مقاطع الفيديو المصورة.
لينا تملك مهارة اللعب بين لقطات الشاشة الحية ودمجها بسحر
مقاطع الفيديو المنزلية، بينما تعكس شخصية هيام وحنينها إلى الملكية من
خلال أثاث منزل العائل والرسائل العتيقة، ومجوهرات موروثة، وصور
فوتوغرافية، يدعو الفيلم للتواصل بحميمية مع هذه الطقوس... ومع ذلك، تتخلّل
رواية الماضي بعض التفاصيل الرتيبة التي أفقدت إيقاع الفيلم ،ثم تعود هيام
لإنقاذ الرتابة وإعادة الحيوية بجاذبية حكيها وطرافتها وشفافيتها
اللامتناهية في جلسة فضفضة مع شقيقاتها.
الفيلم مزيج من البكاء والضحك، تلك هي تراجيديا هيام عباس
الخاصة بها، حيث سرد الشجن ثم السخرية عليه، تساقط الدموع وحبس الأنفاس ثم
نفض ذلك كله بإلقاء النكات.
تروي هيام بعد رحلة المنفى الإختياري كيف واجهت والدها بعد
هروبها للمرّة الاولى ثم عودتها بعد طلاقها من زوجها البريطاني: أعدك لن
أكرّر الأمر، وإن شاء الله أعود المرّة القادمة ومعي رجل مسلم.
تسألها ابنتها: ورجعتي برجل مسلم؟
تجيب هيام بسخرية ممزوجة بالحسرة: أبوكي!!
هذا الحوار العفوي جزء من جمال الصوت النسائي في الفيلم
والذي يسرد أرشيف أربعة أجيال من النساء الفلسطينيات من عائلة هيام
عباس مع تداخل الأحداث التاريخية للسرد للعدوان العسكري الإسرائيلي وتشتت
شمل العائلة من جهة الأم على حدود طبريا. |