ملفات خاصة

 
 

وداعًا جوليا.. يقرع جرس الإنذار ويحذّر من تشرذمات قادمة في البيت السوداني

الجونة: عدنان حسين أحمد

الجونة السينمائي

الدورة السادسة

   
 
 
 
 
 
 

رغم أنّ رصيد المخرج السوداني محمد كُردُفاني لا يتعدى الثلاثة أفلام قصيرة إلاّ أنّ فيلمه الروائي الطويل الأول "وداعًا جوليا" يُوحي بنَفسٍ احترافي واضح يأخذ بتلابيب المتلقّي ولا يسمح للملل أن يتسرّب إليه طوال مدة الفيلم التي بلغت ساعتين بالتمام والكمال. جدير ذكره أنّ هذا الفيلم مستوحىً من حياته الشخصية، فقد اكتشف كُردُفاني في سنوات النضج والتفتّح الذهني أن لديه "بعض الميول إلى التمييز الجندري والعنصرية الموروثة" التي لم ينتبه إليها إلاّ في وقتٍ متأخر نتيجة للبيئة الاجتماعية "العنصرية" التي ورثها الأبناء عن الآباء والأجداد. ويعترف بأنه لم يتعرّف على أي شخص جنوبي رغم أنه يقيم في الخرطوم التي يعيش فيها أكثر من مليونيّ مواطن نازج من جنوب السودان انهمكوا في أعمال يدوية شاقة أو وظائف ذات أجور متدنيّة جدًا، وكل الجنوبيين الذين عرفهم هي الخادمة التي تعمل عند أبيه، ومُدبرة المنزل التي تشتغل عند أمه. فالمخرج المنحدر من الطبقة المتوسطة العليا الذي درس هندسة الطيران وتخصص فيها لكنه في لحظة فارقة قرّر أن يدرس السينما ويتخذ من الإخراج السينمائي مهنة رئيسة له إلى جانب شغفه في كتابة القصص والخواطر التي سوف تتطور تدريجيًا لتُصيح لاحقًا سيناريوهات محبوكة لأفلام روائية قصيرة وطويلة كما هو الحال مع فيلم "وداعًا جوليا" الذي لفت الأنظار إلى جرأة مُخرجه الذي ألقى اللوم على نفسه وأنتقد "عنصريته الكامنة في طيّات تفكيره" قبل أن ينتقد القادة السياسيين، وأحزابهم الشوفينية القاصرة التي تفرّق بين مكوّن سوداني وآخر على أساس اللون والعِرق والدين وترسّخ ثقافة الحقد والكراهية والتناشز الاجتماعي الذي أفضى بالنتيجة إلى نفور السودانيين الجنوبيين المهمّشين من عنصرية الشماليين وتعاليهم الأهوج الذي أفضى إلى تقسيم السودان. ومَن يتأمل في حيثيات هذا الفيلم جيدًا سيسمع جرس الإنذار الذي يدّقه المخرج ويحذّر فيه من تشرذمات قادمة في مُقاطعتيّ دارفور والنيل الأزرق ما لم يتدارك الشعب نفسه ويبدأ، قبل الحكومة، بالمصالحة مع الأعراق والإثنيات الأخرى التي تعيش في هذا البلد الذي مزّقته الحروب على مدى 50 عامًا وتُعيد له لُحمته الحميمة وانسجامه الاجتماعي المعقول. (يشترك هذا الفيلم المثير للجدل في مسابقة الأفلام الروائية في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي لهذا العام).

الشعور بالإثم وتأنيب الضمير

تتلخص ثيمة الفيلم بمطربة عربية من الخرطوم توقفت عن الغناء قسرًا وتعيش حياة زوجية متوترة تكون سببًا في مقتل رجل جنوبي، وتوظّف زوجته الثكلى مدبرة في منزلها الكبير علّها تتخلص من الشعور بالإثم وتأنيب الضمير.
قبل الخوض في تفاصيل هذا الفيلم لابد من الإشارة إلى حبكة القصة السينمائية، ودِقّة الحوار، والنسق السردي وما ينجم عنه من صور بصرية مقصودة لم تُرسَم عفو الخاطر. وثمة توازن ملحوظ في خلق الشخصيات وتجسيدها على مسرح الأحداث حيث يضعنا كاتب النص ومُخرجه أمام أسرتين سودانيتين؛ واحدة شمالية تتمثل بالمطربة المعتزِلة "منى" وزوجها أكرم الذي يمتلك معملاً للنجارة، وهي أسرة عربية مسلمة ميسورة الحال لكنها تمتلك مشاعر عنصرية واضحة لا يستطيع أن يخبّئها الزوج أو يتفادى الإشارة إليها في السرّ والعلن. وبالمقابل هناك أسرة جنوبية مسيحية تتكوّن من جوليا وزوجها سانتينو مابيور الذي يعمل في محل للتصوير براتب شهري مقبول يوفر لأسرته الصغيرة سكنًا مقبولاً وبعض مستلزمات العيش الكريم. ثم تتوسّع دائرة الشخصيات لتشمل أناسًا مؤيديين للانفصال ومعارضين له في الوقت ذاته.

يبدأ الفيلم زمنيًا عام 2005م إثر مقتل جون قرنق في حادثة سقوط مروحيته بينما كان عائدًا من أوغندة ويستمر حتى تطبيق الاستفتاء في 9 تموز / يوليو 2011م الذي جاء بنتيجة مٌذهلة قاربت الـ 99% من نسبة الجنوبيين الذين طالبوا بالانفصال وتأسيس دولتهم الفتية التي حملت اسم "جمهورية جنوب السودان" وعاصمتها جوبا. وبالتوازي مع مقتل قرنق الذي أثار أعمال عنف وتخريب في الخرطوم وبعض المدن السودانية تتصل منى "إيمان يوسف" بأحد المطاعم الفخمة وتستفسر عن موعد حفلة "جاستون باند" فيخبرها النادل بالموعد المرتقب للحفلة التي يؤّمها عادة الموسرون الذين يعشقون الغناء والموسيقى والطرب الجميل. يفيد هذا التمهيد بأنّ كُردُفاني يُجيد بناء الشخصيات إلى الدرجة التي تُشعر المتلقّي بأنه أمام شخصيات حيّة من لحم ودم ومشاعر؛ شخصيات تفكر وتتأمل، تُحب وتكره، تقتل ولا تشعر بالذنب مثل "أكرم" وأخرى تسعى للتخلّص من تأنيب الضمير كما هو الحال مع "منى" الإنسانة الرقيقة، والمُطربة المُرهفة الحسّ. ومثلما خلق المخرج شخصية "منى" التي جسّدتها ببراعة الفنانة "إيمان يوسف"، وأحاطنا علمًا بماضيها العاطفي، وتأريخها الصحيّ، وسلوكها الإشكالي الذي يمكن أن تجده عند كثير من البشر، فقد خلق لنا شخصية أكرم التي تألق فيها الفنان "نزار جمعة" وأشعرنا بوجوده كزوج عنصري لا يتورع عن قمع زوجته ومصادرة أبسط حقوقها في أن تغني أو تخرج للسوق، وتقتني ما تشاء من دون مساءلة أو إزعاج. ولو تأملنا في شخصيته وطريقة تفكيره لوجدناه معادٍ فعلاً في نظرته الازدرائية لأبناء الجنوب، ويتحامل على المرأة الجنوبية لأنها تعمل خادمة أو مدبرة منزل عند أبناء الشمال، ويتفاخر بأن الإنسان العربي لا يسمح لابنته أو زوجته أن تعمل خادمة عند الناس الآخرين. وسوف يمتد هذا البناء الرصين عند غالبية الشخصيات الأخرى إن لم أقل كلها تمامًا.

التطور الدرامي للأحداث

إثر مصرع جون قرنق يقوم الجنوبيون بمظاهرات وأعمال عنف في الخرطوم حيث يجتاحون الشوارع والأحياء العربية فيلجأ أكرم إلى غلق بوابة منزلة بسلسلة حديدية بينما يحرق "العبيد" على حد وصفه سيارة جاره بكري كامل الذي سنعرف لاحقًا أنه رئيس اللجنة الشعبية. وفي مَشهد آخر نرى المصور سانتينو مابيورز وهو يتعرّض للطرد من منزله لأنّ العرب المحيطين به يتهمونه بمؤارزة المتظاهرين فيضطر للانتقال إلى منزل "آشولا" التي تسكن في إحدى العشوائيات التي تفتقر إلى كل مستلزمات الحياة اليومية ويقيمون عندها إلى أن تنفرج الأوضاع الأمنية في البلد.

وفي مَشهد آخر مدروس بعناية نرى بكري وهو يعلّم النجار أكرم على كيفية استعمال بندقية روسية والتصويب على الهدف، وإطلاق النار، بينما كانت "منى" في طريقها إلى الحفلة التي ألغيت يومها بسبب المظاهرات وأعمال العنف، واضطرت للمرور في شوارع فرعية أفضت بها إلى الحيّ العشوائي ودهست طفلاً صغيرًا يُدعى دانييل، ولما خرج والده سانتيو ليتأكد من سلامة ابنه هربت "منى" وأخبرت زوجها بأنّ أحد الجنوبيين يُطاردها بدراجته النارية لكنها لم تقل له بأنها دهست ابنه ورفضت أن تُقلّه إلى المستشفى خشية من ردود فعل والده، فيطلب منها العودة إلى المنزل على وجه السرعة ويقف متأهبًا عند البوابة ويطلق النار على الشخص الجنوبي الذي كان يطاردها ويرديه قتيلاً في الحال. وسنعرف لاحقًا بأنّ كذبة "منى" ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فهي تكذّب بين أوان وآخر، و تخبئ بعض أسرارها العاطفية والصحية، وتقبل بسلوك زوجها القمعي الذي يُحصي أنفاسها،و يفتش هاتفها النقّال، ويسترق السمع إلى كلامها كلّما دعت الحاجة إلى ذلك.
يستغور محمد كُردُفاني أعماق شخصياته الرئيسة والمؤازرة ويغوص في ثناياها، ويكشف عمّا يدور في أعماقها فأكرم الذي أطلق النار على الجنوبي بدم بارد بحجة الدفاع عن النفس ولم يمنح زوجته الفرصة لشرح ملابسات الحادثة التي سببت للطفل إصابة بسيطة في رأسه، لا يريد من زوجته أن تُشعره بتأنيب الضمير وينصحها بأن تأخذ حبوبًا منوِّمة وتنسى الموضوع وكأنه أمر عابر سيتوارى في طيّات الذاكرة. أمّا جوليا في الطرف المقابل فإنها تبحث عن زوجها المفقود كما تروّج له الشرطة الفاسدة، فثمة شرطي مُرتشٍ سرق بعض الوثائق المهمة من إضبارة القتيل بما في ذلك محفظته الشخصية وترك شهادة الوفاة التي تشير إلى أنّ القتيل الجنوبي سانتينو قد مات في أثناء المظاهرة جرّاء التدافع ولم يعثروا على جثته حتى الآن.

فساد الشرطة وابتزازها للمواطنين

تبذل "منى" قصارى جهدها لمقابلة المقدم كمال لكي تتعرّف على عائلة القتيل وتحاول تعويضها ماديًا ومعنويًا علّها تتخلص من عقدة الذنب التي ترافقها منذ وقوع الجريمة حتى الوقت الحاضر. وحينما يمتنع المقدم كمال عن تزويدها بأية معلومة ينبرى لها شرطي فاسد ويزودها بالوثائق الموجودة في الإضبارة ويبتزّها أكثر من مرة لكنها تصل في خاتمة المطاف إلى بيت القتيل وتعرف مكان عمل زوجته جوليا "سيران ريّاك" التي تبيع "الويكة" أي الباميا الجافة على الرصيف فتقف عندها وتشتري منها عشرة أكياس ثم تعرض عليها فكرة العمل في منزلها كخادمة تساعدها في شؤون الغسل والتنظيف وكيّ الملابس شرط ألاّ تتدخل في طبخ وجبات الطعام التي لا يستسيغها أكرم من يد امرأة جنوبية، وحينما تغادر بعد أول يوم عمل تمنحها "منى" مبلغًا يُعدُّ كبيرًا جدًا في نظرها. تتفاقم أوضاع جوليا بعد أن تُسجن "آشولا" التي آوتها في بيتها المتواضع بعد أن وشى بها أحد الجيران إلى الشرطة الذين أحرقوا كل المنازل العشوائية فظلت جوليا في العراء. ورغم انتقادات أكرم المتواصلة إلى وجود خادمة جنوبية مع ابنها الصغير في بيته إلاّ أنّ منى تتشبث بها، وتدعي بأنها تخفف عنها وطأة الإحساس بالعزلة، وتساعدها كثيرًا في تدبير شؤون المنزل، والأهم من ذلك كله أنها تنفتح عليها وتشجعها على الحديث عن ماضيها وحياتها الأسرية فنعرف أنها من بلدة "كودوك" الواقعة قرب "مالاگال" لكنها انتقلت إلى الخرطوم وهي طفلة صغيرة جدًا ولم تعد تتذكر إلاّ أشياء ضبابية قليلة. ومن بين الأشياء المهمة التي باحت بها بأن الحرب في بلدها لن تنتهي، وإذا توقفت اليوم فإنها تندلع غدًا. وهي تعتبر نفسها بنت الخرطوم الآن ولا تتذكر شيئًا عن الجنوب. لقد ورثت جوليا هذه المهنة من أمها لكنها ما إن تزوجت بسانتينو حتى تركت العمل وانصرفت لشؤون البيت وتربية ابنها دانييل، ثم فُقِد الأب، بحسب التقارير الحكومية، ولككنا كمتلقين نعرف بأنه قُتل وغُيبت جثته في مكان ما. تروي جوليا في اليوم الثاني محنتها الجديدة المتمثلة بحرق البيت الذي تسكن فيه لكن "منى" تمنحها غرفة مكتظة بالأثاث القديم وتطلب منها أن تنظّفها وتقيم فيها. وما إن يسمع أكرم باسمها حتى يُذكِّر بأنها جنوبية ويقول بحق الجنوبيات كلامًا بذيئًا يشير إلى انحلالهن الأخلاقي. وبينما كان دانييل يلعب بكرة قدم في باحة الدار يمسك يد أكرم لكن هذا الأخير يعقِّمها ويغادر المكان. لا تجد "منى" حرجًا في القول بأنها ستترك الطعام المتبقي في المطبخ وتطلب منها أن تستعمل الملاعق والأطباق والأكواب التي رسمتها عليها دوائر حمراء في إشارة "عنصرية" واضحة لم تنتبه إليها "منى" التي نعتبرها إنسانة متفتحة وتحمل في داخلها قدرًا كبيرًا من الشفقة والرحمة لكنّ هذا السلوك كان عنصريًا وقد كشف لنا كمتلقين أنّ عقلها الباطن يفكّر بهذه الطريقة الشاذة التي تفرّق ما بين الشمالي والجنوبي سواء عن قصد أو غير قصد.

ثمة أشياء ومواقف عديدة تجعل جوليا تعتقد بأنّ وجودها في هذا المنزل لم يكن وليد المصادفة وإنما جاء نتيجة لتخطيط مسبق فلقد رأت أكياس "الويكة" في إحدى خزانات المطبخ ولم تضعها في فريزر الثلاجة مدعية بأنها نست أن تفعل ذلك وطلبت منها أن تضعها هناك. وبعد مدة قصيرة تطلب من جوليا أن تسجل دانييل في مدرسة خاصة قرب المنزل وتتحمل تكاليف دراسته، ثم تذهب أبعد من حينما تطلب من جوليا أن تذهب إلى "كنيسة ومدرسة القديسة جوزفين بخيتة لتعليم الكبار" كي تحقق حلمها في الحصول على شهادة جامعية. لم يرد دانييل الاستمرار في المدرسة الخاصة التي يدرس فيها لأن الطلاب يتنمرون عليه ويطلب العمل مع أكرم في مصنع النجارة حيث تطورت خبرته وبات ينحت نماذج خشبية جميلة. ويعتقد أكرم بأن زوجته تبالغ في الاهتمام بهذه الأسرة الجنوبية وأنّ بإمكانها أن تُصادق واحدة من جاراتها الشماليات لا أن تظل ملتصقة بهذه الخادمة "العبدة" لكن "منى" تعترض على هذا التوصيف العنصري ثم يدخلان في جدال عميق متشعّب، فأكرم يؤكد بأنّ منزل جده كان إلى وقت قريب ممتلئًا بالخدم والعبيد. وأن "منى" كانت تستعين بأحاديث النبي "ص" الذي لا يفرّق بين الناس على أساس اللون والعِرق والدين، فكل مخلوقات الله سواسية. ثم يعود أكرم مجددًا ويؤكد بأن النبي كان يقصد الأحرار وليس العبيد ويشير إلى وجود العبودية في القانون الإسلامي. يتعمّق الجدال بين الطرفين فأكرم ينتقد زوجته التي لم تكن قبل شهرين تعرف من هو جون قرنق بينما أصبحت الآن ناشطة سياسية تدافع عن حقوق الخدم والعبيد. أمّا "منى" التي لا تكفّ عن الدفاع عن نفسها وتقول بأنها توقفت نهائيًا عن استعمال كلمة "خادم أو خادمة" ولم تقلها بوجه أي "زول" سوداني لكنّ أكرم يواصل رشقها بالانتقادات الحادة ففي الوقت الذي تنام فيه "منى" تحت مكيّف الهواء كانت جوليا تتقلب في الغرفة الساخنة ولا تتقاضى في نهاية الشهر سوى ملاليم قليلة. كما ذكّرها بالملاعق والأطباق التي رسمت عليها دوائر حمراء كي لا تختلط بالأطباق التي يأكلون فيها.

تحريض الجنوبيين على الانفصال

يدخل ماجير "گير دوّاني" في حبكة القصة السينمائية كشخصية جديدة ومؤثرة في مسرح الأحداث حيث يسرد لنا حكايته وهروبه مع أخته "أليك" إثر هجوم الجيش العربي الذين قتلوا كل أفراد عائلته. وبعد معاناة شديدة في عبور النهر ودخول الغابة تمرض شقيقته وتموت ولم يدفنها بنفسه حتى يصل إلى مخيّم الجيش الشعبي ويتدرب على السلاح في سنّ الثانية عشرة، ويعاني من ويلات الحرب، ويدعو إلى وضع حدٍ لمآسيها، كما يحفِّز الآخرين على المشاركة في الاستفتاء لكن جوليا تعارضه وهي تريد أن تصوّت لوحدة البلد وترى في مكوناته العديدة إخوة متحابّين، أو هكذا تتمنى في الأقل. أمّا ماگير فهو يدعو إلى الانفصال علنا ويسمّى الناس المؤازرين لوحدة الوطن بأنهم "موندوكورو جلابا" وهو توصيف للشماليين. وعلى الرغم من المراقبة الصارمة لأكرم إلاّ أنّ منى تتقنّع وتذهب مع جوليا إلى أحد أندية الغناء حيث يسأل العازف إن كان أحدًا يريد أن يعتلي المنصة ويغني ويرى أنّ الكثيرين يومئون على الفتاة المنقبة التي تصعد بتشجيع من جوليا وضغط الحاضرين. وما أن تبدأ بالعزف على الغيتار حتى نكتشف أننا أمام عازفة مُحترفة لكن خشيتها كانت كبيرة وربما سينتقل هذا الخبر إلى زوجها ويحدث ما لا يحمد عقباه فتترك المنصة وتغادر القاعة.
لم يقتصر الأمر على مشاركة جوليا الغناء في هذا الكافيه وإنما ستغني فعلاً في الكنيسة التي دخلتها لأول مرة على جيمس الذي سبق له وإن اشتغل مع فرقة جاستون. سبق لمنى أن غنت أغنية "لولا الملامة" لوردة الجزائرية وتألقت في أدائها، وها هي الآن تُثبت لجوليا والآخرين بأنها مطربة محترفة وهي تغني أغنية جميلة يقول مقطعها الأول:"جاري وأنا جارو، وإمتى أزور دارو؟ بتمنالو الجنة، وأتعذب بنارو. أقرب زول لقلبي، ضيّعني بسمارو".

تمتلك منى علاقة سابقة بطارق ولا تتصل به خشية من زوجها الذي لا تفلت منه شاردة أو واردة لكن طارق يتصل بها بعد أن رآها تغني في الكنيسة وطلب منها إلى العودة إلى الغناء في فرقته الموسيقية لكنها رفضت ومسحت رقم هاتفه كي لا تُضبط متلبسة بالجرم المشهود. لم تكن الأغنية هي العلامة الفنية الفارقة في هذا الفيلم وإنما هناك الرقصة الجميلة التي أدتها منى مع جوليا على إيقاع "الدلوكة" وهي رقصة لا تُمل وقد أخرجت المتلقين من الأجواء المأساوية لقصة الفيلم التي تتفاقم أحداثها تباعًا.

يسأل أكرم عن طيور الكناري التي جلبها إلى المنزل بعد حادثة قتل سانتينو لكي تتحسن نفسية زوجته فأخبرته بأنها حرّرت هذه الطيور من القفص لكي يغنيا بحرية لكنه ينتقدها بشدة لأنها لم تستأذنه أولاً، كما ادعّى بأنّ هذه الطيور لم تتعود على إيجاد طعامها بنفسها. وطلب منها أن تترك باب القفص مفتوحًا علّهما يعودان إليه في أي لحظة. يعاود ماگير الكرَّة ويلتقي بجوليا ويخبرها بأنه سامح الناس الذين قتلوا أهله ولكنه لم يصالحهم، وجدّد فكرة الزواج طالبًا منها أن تذهب معه إلى الجنوب حيث يبني لها بيتًا هناك لكن ترفض هذه الفكرة لأنها مازالت تفكر بسانتينو الذي ترى غيره.

ينتهي الفيلم نهاية مدروسة حيث تهدد الحكومة وتتوعد بأنها سترحّل كل الجنوبيين الذين يصوّتون على الانفصال. تعترف "منى" بأنها اتصلت بطارق، وأنها غنّت في الكنيسة منتهكة العهد الذي قطعته على نفسها فتتوتر العلاقة من جديد، كما تنوي الاعتراف لجوليا بحادثة قتل زوجها من الألف إلى الياء. فتخبرها بأن اللقاء بها لم يكن محض مصادفة. وقبل أن تبدأ بالحديث تهاجم قوات الجيش منزل أكرم وتقبض عليه بعد أن اعترف جاره بكري بأنّ أكرم هو الذي قتل سانتينو . كان ماگير حاضرًا مع القوة العسكرية التي دهمت المنزل وطلب من أكرم أن يعتذر عمّا فعله بحق الضحية كما وبّخ جوليا التي باعت زوجها واعتبرها امرأة رخيصة لا تستحق الحب والتقدير.

الأمة السودانية تصبح أمتين

يحتدم النقاش مجددًا بين منى وأكرم فهي تتهمهُ بأنه أطلق النار على سانتينو ليس دفاعًا عن النفس وإنما لأنه جنوبي فيما يتهمها أكرم بأنه قتلهُ لأنها كذّبت عليه لكنها تعيد النظر وتقول:"كلنا كذّبنا يا أكرم لكنك اخترت أن تكذّب على روحك". ثم تتهمه بأنه لا يعرفها جيدًا ولا يحبها وإنما يحب نسخة منها اخترعها في خياله. ثم تضع منى حدًا للنقاش وتعترف صراحة بأنها تريد أن تغنّي ولكنها لا تريد أن تكذِّب ثانية، وأن تعيش معه من دون مخاوف. وفي خاتمة المطاف يطلب منها أن تنام الليلة في بيته وأن تجمع أغراضها غدًا وتغادر البيت، وتفعل ما تريد. وفي اليوم الثاني تُعلَن نتيجة الاستفتاء التي جاءت لمصلحة الانفصال بنسبة %99 من الأصوات، وقد رحبّت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بنتيجة الاستفتاء التي تمّت يشفافية عالية ومراقبة دولية أعقبتها مباشرة الاحتفالات الرسمية في جوبا وأعلنت منظمة الهجرة عن بدء عملياتها لترحيل آلاف الجنوبيين لتصبح الأمة الواحدة أمّتين.

تخوض منى وجوليا الحوار الأخير الذي يحتدّ ويصل إلى ذروته حتى أن جوليا تعترف بأنها اضطرت للقبول بالتعويض من أجل ولدها دانييل ولولاه لقتلت منى وزجها معًا. وتختم النقاش بأن منى هي التي استغلتها لأن واقع الحال يقول بأنها امرأة مسكينة وليس لديها رجلاً يأخذ حقها المُضاع فتصعد هي وابنها إلى المركب وتلوّح لهما منى من بعيد.

 

العالم العراقية في

25.12.2023

 
 
 
 
 

"سهوب" مارينا فرودا: جمالية مؤثّرة وشاعرية حزينة

ندى الأزهري

حافلةٌ عتيقة تتهادى بركّابها على أرضٍ وعرة. أشخاص ربما ترافقوا فيها مرّات، مُثقلون بملابس سميكة. قرويون على حافة الفقر. في الخارج، تتراءى أشجار عارية، تنبئ عن فصلٍ بارد. لقطاتٌ، برماديّتها المشوبة بزرقة شاحبة، تضفي على الجوّ مزيداً من برودة. يترجل أناتولي (أداء رائع لألكسندر ماكسياكوف) على حافة الطريق، ليخوض في دروب موحلة، قبل وصوله إلى وجهته. إنّه عائد إلى قريته، ليُرافق أمّاً تحتضر.

من لقطاته الأولى، يعلن "سهوب (ستبْنا)" عن هويته، وعن أمكنته وشخصياته وإيقاعه. كآبة، يركن إليها المشاهد مأخوذاً بجمالية مؤثرة وشاعرية حزينة لصُوَر، كأنّها مقبلة من عصر ولّى، قريب بعيد.

في "سهوب" (2023) ـ المعروض في برنامج "الاختيار الرسمي ـ خارج المسابقة"، في الدورةالـ6 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2023) لـ"مهرجان الجونة السينمائي" ـ ترجع الأوكرانية مارينا فرودا إلى وطنها. تُصوّر، في عقدٍ من الزمن قبل اندلاع الحرب، أوّل فيلمٍ روائي، مشغول بحِرفية عالية، تُميّز سينما أوروبا الشرقية. لفتت الأنظار إليها في الدورة الـ64 (11 ـ 22 مايو/أيار 2011) لمهرجان "كانّ"، بنيلها السعفة الذهبية عن فيلمها القصير "عبور بلاد"؛ و"السهوب" معروضٌ سابقاً في المسابقة الرسمية للدورة الـ76 (2 ـ 12 أغسطس/آب 2023) لـ"مهرجان لوكارنو السينمائي".

اختارت فرودا (1982) قرية نائية، بعيداً من الحروب. بحثت عنها طويلاً لتجعلها ركناً محورياً في فيلمها. مكانٌ يشكّل، بحدّ ذاته، شخصية، شهدت أفعالاً ونظرات وهمسات، تُضارع في أهميتها أناتولي وعائلته، والسكّان العجائز المنزوين الذين يتلاشون واحداً تلو آخر، مُحمَّلين بذكريات، وحاملين ماضياً يزول معهم شيئاً فشيئاً. إنّهم جيل الأجداد والآباء، الجيل الصامت كما تصفه فرودا، وتحاول أن تُنْطِقه وتُسائله عن ماضيه السوفييتي. في هذا المكان، أمٌّ تحتضر، كما يحتضر زمنٌ وتقاليد. إليه، يعود أناتولي في رحلة رثائية، يلتقي فيها بماضيه الخاصّ، وبحبّ قديم لآنيا (رادميلا شتسوغولييفا)، الباقية في أرضٍ لم تغادرها كما فعل كثيرون. ماضٍ يتقاطع مع بلد وناس عاشوا وشهدوا حروباً ومجاعات، منعزلين فيه بصمتٍ مع ذكرياتهم، والمسكوت عنه. بين أناتولي وأمه، علاقة تسودها حنيّة واستعادات: هي بذاكرةٍ تتأرجح بين حضور وغياب، وهو بمحاولة تعويض عن غياب دام طويلاً.

في "السهوب"، تنوّعٌ في علاقات مُعقّدة مليئة بحنان ومواجهات في صمتها الكثير. من حبّ المُراهَقة بين أناتولي وآنيا، التي ظلّت ترعى أمه رغم زواجها، إلى المواجهة مع الأخ الأكبر، العاطفي وغامض النوايا والأشغال، والعائد متأخّراً كالعادة (بعد رحيل الأم)، مروراً بأهل القرية. لقاءات في الحاضر عن ماضٍ وأسرار عائلية ومجتمعية، تثري الفيلم.

نظرة إخراجية تمسّ بأسلوبها عمق الأشياء والأشخاص، وتتغذّى من اعترافات سكّان اعتادوا الصمت. تعود فرودا إلى الماضي لفهم الحاضر. تستعين بأهل قرية معدودين، للتعبير عن جيل كامل سَكت طويلاً، ولم ينقل إلى جيل الأبناء تجارب معيشة. جاء هؤلاء بكلّ إخلاص وتضامن، ليودّعوا واحدة منهم الوداع الأخير. انفتحوا وحكوا. هم، وإنْ لم ينقلوا مشاعرهم وتاريخهم شفهياً في السابق، تناقلوا تراثاً وأسلوب عيش ومجابهة أحداث بطريقتهم الخاصة.

إرثٌ تجسّد في عمل شاق في الأرض، ومحاولات تغلّب على طبيعة قاسية، وسعي إلى تأقلم مع ظروف صعبة، بصبر على فقر لم يقف عائقاً أمام عيش وتكافل بعضهم مع بعض. إرثٌ ينقله "السهوب" من دون كلام كثير أيضاً. يجاري شخصياته في صمتهم وبوحهم القليل، مكتفياً بنظرة أو كلمة أو حركة بسيطة، تتبدّى في تأمّل الطبيعة، أو وقوف مع جار فَقَد للتوّ أمّه. تتجلّى خصالهم وعطاؤهم في مشهد العشاء الأخير، بعد الوفاة، حين تنطلق الألسنة بترددٍ وخجل. أمام الموت، تنكشف أعماق أناس وما شكّل لهم العيش في هذا المكان، أكانوا منه أم قدموا إليه. تعترف عجوز، للمرة الأولى، أنّها روسيّة، لكنّ حياتها كانت دائماً هنا. جملة فقط، لكنّها تحمل الكثير. حركة الكاميرا تسجّل بدقّة تعابير القرويّين، وتلتقط إيماءاتهم وطرافة بعضهم، وتقف على وجوههم أحياناً عند بوحهم وصمتهم، تساعدها إضاءة خافتة بالشموع، تضفي أجواءً حميمة وشجناً. كأنّها مشاعر صاحبة العمل، تنقلها بإضاءة عابرة للوجوه والأغراض والمكان بمجمله، ليبدو المشهد كأنّه لوحة من القرن الـ16 للفنان الإيطالي كارافاجيو.

مع هذا البوح لخليطٍ من ممثلين وغير ممثلين من القرية، تبدو وثائقية الفيلم (عملت فرودا سابقاً مع الأوكراني سيرغي لوزنيتسا) في تسجيله نمط حياة وأشخاصاً وطريقة عيش ربما تختفي إلى الأبد، لكنّه مُحمّل بمشاعر ورؤية حميمة منحازة إلى هذا العيش، وإلى هؤلاء الناس.

عند تفريغ المنزل، كأنّه بلد يُفرَّغ من ذاكرته ويشتّتها، تتبعثر أشياؤه وذكرياته، يُرمى بعضها ويُحتفظ ببعضٍ آخر. يتقاسمها أهل القرية كأنّهم يتقاسمون مصائرهم، وبحفظهم إياها يبدون كأنّهم يحافظون على بقايا ذكرى. لكنْ، إلى متى ستسلم تلك؟ حتى الأرض لن تسلم، وسيستغلها متنفّذون جدد، مُستعدّون لاستغلال كلّ شبر لأغراض أخرى أكثر مردودية من الزراعة، وأقلّ مشقّة. في لقاءٍ جمع أناتولي وشقيقه مع راعي الطبقة الجديدة، التي تمثّل العالم الجديد المقبل، للاتفاق على بيع الأرض، يخرج "السهوب"، بالحوار بينهم، من حزن استُؤنس به، إلى طرافةٍ تتبدّى في موقف عبثي عن تناقضات وشخصيات جديدة، ستحيل كلّ شيء إلى غير ما كان عليه.

أول فيلم روائي طويل لمارينا فرودا كلّه حنين وشجن يمسّ الأعماق، عن الوداع والاختفاء. وداع من نحبّ، واختفاء الزمن الماضي. ليس فقط لأنّه أيضاً عن قوّة الناس المتواضعين وصمودهم وتضامنهم العميق. وكما تعترف فرودا في حوار، فإنّ أحد الأهداف الرئيسية لـ"السهوب" بناء جسر بين الماضي والحاضر، وأيضاً جسر للأجيال الجديدة، التي تتعثّر بشكل خطر. فمن دون هذا التماسك الضروري، لا يُمكن لأخطاء الماضي إلاّ أنْ تتكرّر، كما تؤكّد الحرب الدائرة حالياً.

 

العربي الجديد اللندنية في

25.12.2023

 
 
 
 
 

مهرجان الجونة السينمائي... دورة استثنائية واحتفاء بالسينما الفلسطينية

نور هشام السيف

أسدل الستار على دورة الجونة السينمائية في سادس أعوامها بهدوء يختلف عن الصخب المعتاد والهالة المعهودة المصاحبة للمهرجان في كل دورة  خاصة، في ظل الجدل الذي أحاط بتنظيمها قبل شهرين خلال الحرب الجارية على غزة. 

لم يكن بالإمكان التغافل عن الحرب التي تتقدّ نيرانها وتكاد تمتد إلى الدول المجاورة، فبعد قرار إلغاء مهرجاني القاهرة وقرطاج  والحفلات الموسيقية في مصر، ومع تصاعد حجم الإبادة الجماعية في غزة والقلق من الوضع الأمني، استمر طرح الأسئلة الاستنكارية في مواقع التواصل الاجتماعي: إلى أي مدى يستطيع المرء في الوقت الراهن أن يلوذ  بالموسيقى والفن والسينما؟ 

وفي حال أقيم المهرجان لدواعٍ إنسانية في صمت (وللصمت أشكال أيضاً)، ففي أي إطار يتشكّل هذا الصمت؟ 

طُرحت تلك التساؤلات ما بين مؤيّد ومعارض قبل الافتتاح، بخاصة أنّ هذا المهرجان بالتحديد يرافقه الجدل منذ دورته الأولى بسبب مظاهر البهرجة. 

وبالرغم من ذلك تمّ الإفتتاح في 14 كانون الاول (ديسمبر) من الشهر الجاري، ليكسر الصورة النمطية لكرنفال الإطلالات الجريئة، وبعد قرارات تأجيل مكرّرة قرّرت إدارة المهرجان هذا العام إلغاء المظاهر الاحتفالية والسجادة الحمراء، مع الإلتزام بالزي الرسمي والملابس الداكنة ظهر ممثلو المهرجان على المسرح محمّلين بخطابات مغلّفة بالمراثي إلى شعب غزة الصامد، مع التأكيد على أهمية استمرار هذا الحدث السينمائي البارز، لتكون فلسطين عنوانه الرئيسي. وهذا ما أكّده كل من المدير الفني لمهرجان الجونة ماريان خوري ومدير المهرجان انتشال التميمي، حول تحدّيات الدورة والرغبة الحقيقية في تمكين الشباب السينمائيين الواعدين. 

في حقيقة الأمر، جاءت هذه الدورة بظروفها المربكة  لتبين أنّ أكثر ما يلوذ به المهرجان الآن هو الاسترخاء، وإعادة النظر إليه بعين الحقيقة لا بعين العالم البرّاق والمحصور بإطلالات النجوم، ليضع التركيز بشكل أكبر على عروض الأفلام وسوق الجونة السينمائي في ساحة "البلازا" الذي يحتضن شركات الإنتاج والتوزيع وبرامج التمويل والمنح في قلب المهرجان، مع قاعات المحاضرات والورش يقدّمها صنّاع الأفلام في الشرق الأوسط، مؤكّدًا بذلك التفرّغ لإبراز الجوانب الفنية والثقافية للسينما.

والحضور الأهم هذا العام هو برنامج منطلق الجونة السينمائي، والذي يرأسه الناقد ورئيس الاتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) أحمد شوقي، وهو برنامج دعم وتمويل الأفلام  ومركز استقطاب لكل المشاريع قيد الانجاز، أعلنت منصّة الجونة من خلال المنطلق عن جوائز تبلغ قيمتها 365 ألف دولار للمشاريع الفائزة، وتأتي هذه الخطوة في سياق تعزيز دور المهرجان كمساحة فنية لتبادل الخبرات. 

نافذة على فلسطين

يطول الحديث عن برنامج عروض الأفلام وتصنيفاتها وما يندرج منها في المسابقات الرسمية وما يُعرض خارجها، وعن نتائج الجوائز ومدى استحقاقها، بخاصة أنّ برنامج هذه الدورة قد أسّس منذ الصيف الماضي مع استقطاب مجموعة أفلام  هامة وحاصلة على جوائز من مهرجانات دولية كبرى أهمها كان، فينيسيا، برلين، مثل فيلمي "دوغمان" و"تشريح سقوط"، أما البنية الظاهرية للمهرجان، فتشير إلى التوقف عند حالة الاستثناء الفريدة فيه، وهي فعل المقاومة.

فبالرغم من تراجع بعض الرعاة وأثر هذا الإنسحاب في تكبّد خسائر مالية، لم يتراجع المهرجان عن التزامه بتشجيع السينما الفلسطينية ودعمها، بخاصة أنّه يحمل شعاره الدائم "سينما من أجل الإنسانية". 

وعكس برنامج "نافذة على فلسطين" عمق القصص الإنسانية بغية إيصال صوت السينما الفلسطينية للأجيال الجديدة، ودعوتها لفهم التجارب الإنسانية في الداخل الفلسطيني عبر الحياة غير المرئية والقصص غير المروية. 

نُسّقت معظم أفلام هذا القسم بالتعاون مع مؤسسة الفيلم الفلسطيني، وهي تضمّ الأفلام بمجموعة من الإنتاجات التي تتراوح بين القديم والجديد.

افتُتحت العروض في اليوم الأول بفيلم المخرج المصري يسري نصر الله "باب الشمس" عن رواية اللبناني إلياس خوري، من انتاج عام 2004، وإنما أُعيد إصدار نسخة مرممة منه بمبادرة من مهرجان لوكارنو في دورته الأخيرة، وتمّ عرض الفيلم في جزءين مدتهما 4 ساعات ونصف الساعة.

البرنامج الفلسطيني أيضاً شمل أفلاماً متنوعة منتجة خلال السنوات الـ15 الماضية مثل:

" إسعاف"  إخراج محمد الجبالي، "الشجاعية" إخراج محمد المغني، "الرسم لأحلام أفضل" إخراج مي عودة ضياء العزة، "بلا سقف" إخراج سينا سليمي. 

وصولاً  الى فيلم "الأستاذ" لفرح النابلسي في مسرح البلازا، والذي سبق وشارك في مهرجان البحر الأحمر في مطلع الشهر الجاري ونال جائزتي أفضل ممثل وأفضل فيلم.

وداعاً  طبريا 

في اليوم الثاني، عُرض الفيلم الوثائقي الحديث "وداعاً طبريا" إخراج لينا سواليم، بعد عرضه للمرة الأولى في مهرجان تورنتو ثم مهرجان مراكش الشهر الماضي، ليأتي إلى محطته الثالثة في الجونة. 

نتوقف قليلاً عند هذا العمل الجديد الذي يروي قصة واحدة من أيقونات السينما الفلسطينية، وأكثرهن انتشاراً ونشاطاً، الممثلة هيام عباس.

من يشهد على مسيرة هيام الحافلة والغنية لا بدّ أن تثير فضوله خلفية هذه الشخصية الكاريزماتية على الشاشة ومدى ليونتها في تقمّص أدوار متباينة بلهجات عدة.

تخبرنا المخرجة قصة حياة والدتها الممثلة الشهيرة، بداية من تخطّيها خارج حدود قريتها الفلسطينية إلى مقاطعة أهلها لها في السنوات الأولى لزواجها من رجل أجنبي غير مسلم، عقب ثلاثين عاماً يعود الحنين برفقة سواليم ووالدتها، حاملين الأسى على رحيل والدة عباس والتي ظهرت في مشاهد عديدة في الفيلم عبر مقاطع الفيديو المصورة.

لينا تملك مهارة اللعب بين لقطات الشاشة الحية ودمجها بسحر مقاطع الفيديو المنزلية، بينما تعكس شخصية هيام وحنينها إلى الملكية من خلال أثاث منزل العائل والرسائل العتيقة، ومجوهرات موروثة، وصور فوتوغرافية، يدعو الفيلم للتواصل بحميمية مع هذه الطقوس... ومع ذلك، تتخلّل رواية الماضي بعض التفاصيل الرتيبة التي أفقدت إيقاع الفيلم ،ثم تعود هيام لإنقاذ الرتابة وإعادة الحيوية بجاذبية حكيها وطرافتها وشفافيتها اللامتناهية في جلسة فضفضة مع شقيقاتها.

الفيلم مزيج من البكاء والضحك، تلك هي تراجيديا هيام عباس الخاصة بها، حيث سرد الشجن ثم السخرية عليه، تساقط الدموع وحبس الأنفاس ثم نفض ذلك كله بإلقاء النكات.

تروي هيام بعد رحلة المنفى الإختياري كيف واجهت والدها بعد هروبها للمرّة الاولى ثم عودتها بعد طلاقها من زوجها البريطاني: أعدك لن أكرّر الأمر، وإن شاء الله أعود المرّة القادمة ومعي رجل مسلم.

تسألها ابنتها: ورجعتي برجل مسلم؟

تجيب هيام بسخرية ممزوجة بالحسرة: أبوكي!!

هذا الحوار العفوي جزء من جمال الصوت النسائي في الفيلم والذي يسرد أرشيف أربعة أجيال من النساء الفلسطينيات من  عائلة هيام عباس مع تداخل الأحداث التاريخية للسرد للعدوان العسكري الإسرائيلي وتشتت شمل العائلة من جهة الأم على حدود طبريا.

 

النهار اللبنانية في

26.12.2023

 
 
 
 
 

قصة مخرج مصري تسلل إلى "طالبان" وخرج بفيلم مهم

ابراهيم نشأت: لم أكذب عليهم خلال التصوير رغم خوفي

هوفيك حبشيان  

مغامرة سينمائية محفوفة بالأخطار والتحديات خاضها المخرج المصري إبراهيم نشأت في أول أفلامه الوثائقية "هوليوود غايت" الفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان الجونة الأخير بعد عرضه الأول في مهرجان البندقية، ويتناول الآتي: بعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان عام2021، تضع حركة "طالبان" يدها على قاعدة عسكرية أميركية في كابول معروفة باسم "هوليوود غايت" كانت مقراً لوكالة الاستخبارات المركزية، ويكتشف أفراد التنظيم كل ما تركه الأميركيون خلفهم من ذخائر ومعدات عسكرية وآليات يقدر ثمنها بـ 7 مليارات دولار، سرعان ما يوظفها هؤلاء في سبيل بسط سلطتهم.

أسلوب مختبري

الفيلم يتعقب هذا الاكتشاف معايناً التفاصيل بأسلوب مختبري بارد بلا تدخلات سافرة من المخرج، يفهم ولا يبرر، ويسخر ولا يدين، تاركاً للمُشاهد مساحة من التفكير لتكوين رأيه في جماعة متعطشة للسلطة أكثر من تعطشها للمبادئ التي تزعمها. 

"كيف تدرب على خوض مغامرة مماثلة وعلى أي نحو اشتد عوده لمواجهة الطالبان؟"، سؤال كان لا بد من طرحه على إبراهيم نشأت خلال لقاء جمعني به في "مهرجان الجونة" حيث عُرض الفيلم للمرة الأولى على جمهور عربي، يقول "عملتُ في الصحافة طوال 10 أعوام في محطات مثل ’دويتشه فيله‘ و’الجزيرة‘ و’بزنس إنسايدر‘ وغيرها، وذهبت إلى أرض نزاعات وصراعات مما جعلني أكتسب مهارات حصنتني أمام الأخطار، وفي برلين تعرفت على المخرج الكردي طلال ديركي الذي كان أنجز ’عن الآباء والأبناء‘ ومجازفته في إنتاج هذا الفيلم كانت أقوى من مجازفتي في تصويره".

انسحاب الأميركيين من أفغانستان نقطة انطلاق الفيلم، وعلى أثره قرر نشأت الانتقال إلى كابول للتصوير وكان هدفه الأول أن يُري العالم من هي حركة "طالبان" التي تركتها أميركا تمسك زمام الحكم في أفغانستان.

في رأيه أن الأميركيين زعموا أنهم سيأتون بالديمقراطية ويجعلون الوضع أفضل بالنسبة إلى المواطنين الأفغان، لكنهم بعد 20 سنة من الوجود في أفغانستان الذي جعلها تتدمر أكثر فأكثر، غادروها وكانت "طالبان" أصبحت في غضون ذلك أقوى من أي وقت مضى.

اكتشاف تدريجي

هذا كان دافع المخرج في المرحلة الأولى، أن يكشف من هي الحركة الدينية التي سلمت لها أميركا البلاد، ولم يكن ليتخيل أنه سيتناول قضية الأسلحة والمعدات العسكرية والمعدات التي تركتها أميركا خلفها، وحصل هذا تدريجاً خلال التصوير.

"هل هذا يعني أنك وصلت إلى أفغانستان والتطورات الميدانية هي التي جرتك بعد ذلك"؟ يرد قائلاً "كنت كتبتُ سيناريو لشيء لم يحدث وذهبتُ لتصوير شيء مختلف تماماً بعدما تسلمتُ إجازات للتصوير مع قيادات "طالبان" والمتحدثين الرسميين باسمها من مكاتبهم الإعلامية، وذهبتُ من أجل تصوير هذا إلا أن الشخص الذي كان وسيطي اختفى عندما وصلتُ إلى هناك، وما عادت لكل التحضيرات أهمية.

كان لي مترجم اخترته من "طالبان" كي يثقوا بي، وعندما علم أنني سأغادر البلاد لأنه ليس هناك قصة أرويها، اقترح علي أن أرافقه إلى القاعدة العسكرية الأميركية المعروفة باسم "هوليوود غايت"، وفور دخولي فيها عرفتُ أن هذه هي البقعة التي يجب أن أصور فيها". 

لكن شتان بين أن يسمحوا له بالتصوير وأن يستمر في التصوير طوال سبعة أشهر مع الإذن له بدخول أماكن تحمل أسراراً، وهناك ما هو مفاجئ في هذه المبادرة التي أقدمت عليها "طالبان" خصوصاً أن نشأت لا يمتلك أية تجربة سينمائية، فكيف نال ثقتهم إلى هذا الحد؟

يروي قائلاً "الفكرة أنني لم أكذب ولم أقل لهم ما يقوله معظم المخرجين أمام حال مماثلة، وهو إنني سأعكس صورة إيجابية عنهم، ولم أعدهم بشيء من هذا القبيل بل صارحتهم بالحقيقة كما هي وهي إنني سأري ما سأراه، وأبلغتهم أن هذا يتوقف على ما سيسمحون لي بتصويره والمشاهدون هم الحكم في النهاية، وأريتهم صوري مع رؤساء دول وسياسيين من صناع القرار خلال عملي في الصحافة، وشرحت لهم أن الصحافة تختلف عن السينما وأن الصحافة تأخذ مقتطفاً وتبني عليه رواية، أما أنا فسأصور على مدى عام وسأقدم الحقيقة كما هي، ولعل الشيء الوحيد الذي لم يفهموه هو عندما قلتُ لهم أنني سأري الناس ما شاهدته، فالسينما تسمح بأن تضع وجهة نظرك فيها وهذه قوتها، ولعلهم لم يفهموا هذا المستوى من الموضوع لأن السينما أقوى من أن يستغلوها لمصلحة البروباغندا، فقد تركوني أصور لأنهم شعروا بأنني لست كذاباً وأنا فعلاً لم أكذب".

حيز ضيق

يقول نشأت إن صناعة الفيلم كانت بالنسبة إليه تحدياً متواصلاً، وولد بين الحيز الضيق الذي أُعطي كي يصور، فهم لم يسمحوا له بتصوير كل شيء، والهدف الذي كان ذهب من أجله، أي إظهار العالم من هي حركة "طالبان"، وقد عاش صراعاً طوال التصوير وفقد أحياناً الإيمان بجدوى المشروع وشهد انهياراً في حاله النفسية وشعر بأن ما يصوره لا يفيد لشيء، لكونه لا ينقل معاناة الناس بل يحصر اهتمامه بمن صنعوا مآسيهم.

الفيلم من النوع الذي يترك مُشاهده يكون رأيه الخاص بالتنظيم الذي دمر تمثالي بوذا الأثريين في وادي باميان عام 2001، وتدخل نشأت محدود في الفيلم كمخرج يفرض رأيه ما عدا في تعليقين اثنين في أول الفيلم وآخره، ويقول نشأت إنه ينتمي إلى مدرسة المخرج الوثائقي الأميركي فريدريك وايزمان الذي لا يستخدم أي تعليق صوتي في أفلامه ولا يجري مقابلات مباشرة ويكتشف الواقع خلال التقاط المشاهد لا قبله، ولهذا السبب يعتبر نشأت أنه كانت نقطة سلبية أن يضع تعليقاً صوتياً، ويشرح خياره هذا بالقول "لم يكن هذا الفيلم ممكناً من دون أن أؤكد أنني لست مع ’طالبان‘ كي يطمئن المُشاهد ويتابع 90 دقيقة، وهو على يقين أنه ليس أمام عمل بروباغندي، فكان عليّ أن أعلن موقفي منذ البدء، لكن لفترة طويلة اعتبرتُ التعليق نقطة ضعف، فالسينما الوثائقية بالنسبة إلي هدفها نقل الواقع، وعندما وضعتُ تعليقاً صوتياً إنما ركزتُ على فكرة ما رأيتُ تأكيداً على أن الفيلم وجهة نظري". 

صارحتُ المخرج خلال الحوار بأنني لم أكره عناصر "طالبان" وأنا أشاهدهم، بل ضحكت لأن الفيلم يحمل في باطنه بعض السخرية، وصحيح هو لم يلمع صورتهم لكنه لم يشيطنهم كذلك، وأظهرهم كأناس عاديين بسطاء العقول. يقول "للأسف نحن نعتقد أن الشخص ذا العقل المتبلور يستطيع أن ينجز، أما الذي يملك عقلاً بسيطاً فهو فاشل، وكان هدفي أن أكشف أنهم وعلى رغم عقلهم البسيط نجحوا في تصليح الطائرات المتروكة لهم وانتصروا على الأميركيين، ولديهم قدرة على إعلان الحرب على أية دولة، وعقولهم بسيطة لكن هذا لا يعني أن معاييرنا للتقييم هي الصحيحة، فهم لديهم معايير أخرى، وفي المشهد الذي يتعلمون فيه قيادة الطائرات نسمع المدرس يقول لهم "اضغطوا على الزر الأخضر وستُطلق القذيفة"، وهذا ما يهمهم فهم لا يكترثون بكيفية صناعة الطائرات بل بكيف يستخدمونها لإنهاء مهماتهم". 

ويكمن خطر الأسلحة التي تركها الأميركيون لـ "طالبان" في استخدامهم إياها ضد الأفغان لانهاء أية حالة مقاومة، فخطرها ليس على دولة مثل أميركا بل على دولة مجاورة مثل طاجيكستان، وهذا ما يؤكده نشأت في الحوار.  

لكن ألا يوجد تناقض فظيع في استخدام تكنولوجيا العدو لمحاربة فكره؟ يجيب نشأت أن "الموضوع كله تناقض في تناقض، ففيلمي يكشف أن ما يقولونه عن أنفسهم ليس حقيقتهم وهم يحاولون أن يتحدثوا باسم الإسلام، لكن الفيلم يعري هذا كله ويظهر أن كل هدفهم هو السلطة، ولا يوجد لديهم ما هو أهم من السلطة، وهذه حال غالبية الجماعات الإسلامية، فالفيلم يري كيف أنهم يدّعون شيئاً لأن هذا الشيء هو الذي يلم شملهم، ولكن واقعهم فراغ في فراغ، وفي الختام هم مجموعة من القوميين والوازع القومي عندهم أهم من الوازع الديني".

ثمة مشاهد عدة نرى فيها بعض عناصر "طالبان" يتوجهون بتعليقات في حق المخرج، لكن هو يقول بأنه لم يفهمها لأنه كان طلب إلى المترجم ألا يترجم له كلاماً يتناوله بالسوء، ونسمع أحد هؤلاء يقول عنه "إذا كانت نيته سيئة فسنصفيه"، وهذا يُخرج الفيلم من سياقه ليحملنا إلى مستوى آخر من الحوار.

تجنب الخوف

ويروي نشأت "اتفقتُ مع المترجم ألا يترجم لي كلامهم عني، ذلك أنني كنت خفت عندما تحدثوا عني للمرة الأولى وعلمتُ كل الكلام الذي قالوه عني خلال المونتاج، ولو علمتُ خلال التصوير لزاد الخوف عندي، وعندما يقول أحدهم كلاماً في وجهك ثم كلاماً آخر وراء ظهرك فسيقل احترامك له، وهذا يجعل تعاملك معه نابعاً من أحاسيس وليس حيادياً، وقد وددت إلغاء كل المشاعر في داخلي لأنني في الأساس لم أستعن بالكرّه لتصويرهم، ولو فعلتُ ذلك لجاءت النتيجة سيئة جداً وأصبح الفيلم فيلماً آخر، ووضعتُ مشاعري تجاههم جانباً لأن مهمتي اقتضت نقل الواقع لا بتوظيف الكره لفضحهم، ولم تكن نية الفيلم فضحهم بل نقل الحقيقة لبث الوعي عند الناس". 

قيادة "طالبان" لم تشاهد "هوليوود غايت" على حد علم المخرج الذي يبدو أنه انتهت علاقته بالتنظيم مع نهاية التصوير، وكان يتواصل معهم عبر رقم هاتف مزيف ألغاه بعد مغادرته أفغانستان، وما عادت له أي صلة بهم، عام كامل أمضاه نشأت وهو يعمل على تصوير الفيلم، سبعة منها في أفغانستان، وعندما كان يعود لمكان إقامته في برلين بين حين وآخر يخضع لعلاج نفسي، ويروي "كان يصعب عليّ أن أعيش تحت حكم ’طالبان‘ ولا يحق لي أن أتكلم، وفي غالب الأحيان كنت أكتفي بهز رأسي وأحياناً كنت أغادر أفغانستان كي لا أغضب وأرد عليهم، أو عندما كانوا يغضبون مني ويضجرون من حضوري بينهم، وخلال الفترة الأخيرة ضاقوا مني ذرعاً وخصوصاً مولاي منصور، وكان من الممكن أن أنتظر أسبوعاً كاملاً كي أحصل على يوم تصوير معه، أما الناس الذين من حولهم فما عادوا مرتاحين لي، وفي آخر يوم تصوير طلبوا مني أن أحضر إلى مكتب الاستخبارات وأجلب معي كل المواد التي صورتها، وقد غادرت أفغانستان في اليوم نفسه". 

 

الـ The Independent  في

27.12.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004