ملفات خاصة

 
 

هل هذه التظاهرات السينمائية مجرّد فعل ثانوي؟

قيس قاسم

الجونة السينمائي

الدورة السادسة

   
 
 
 
 
 
 

ظاهرياً، يبدو تأجيل أو إلغاء مهرجانات سينمائية عربية دوراتها المقبلة فعلاً تضامنياً، لا يخلو من صيغة احتجاج على العدوان الإسرائيلي الجديد على الشعب الفلسطيني. لكنّ الناظر إلى عمق الفعل، يُحيله إلى أسئلةٍ، تتعلّق بالموقف من المهرجانات نفسها، ومن فهم الجهات المسؤولة عنها لطبيعتها ووظيفتها، ولكون تنظيمها وإقامتها يمثّلان مُمارسةً فنية، لها صلة مباشرة بالسينما، وبالثقافة عموماً، ففهم العلاقة بينها وبين رعاتها يستحق البحث والنقاش.

من هذا المنظور، لا بأس من التذكير بأنّ أكثرية المهرجانات العربية تُنظّمها وتُديرها مؤسّسات رسمية حكومية، وقليلٌ منها، كـ"الجونة"، تديره مؤسّسة اقتصادية خاصة، لا صلة لها بالحكومة المصرية. بالتالي، فإن قرار أصحابها تأجيل الدورة الجديدة لمهرجانهم، أو إلغاءها نهائياً، يُعبّر عن موقفهم وفهمهم طبيعة المشروع الثقافي الذي يديرونه، والذي يتقارب -في مفارقة لافتة للانتباه- مع موقف حكومات عربية، أوعزت لوزاراتها المُشرفة على المهرجانات التابعة لها، كـ"القاهرة" المصري و"قرطاج" التونسي، تأجيل دوراتها، المفضي بدوره إلى إلغاءٍ، على الأرجح.

القرارات الخاصة والرسمية تتّفق في ما بينها، ضمناً، على أنّ المهرجانات فعل ثانوي، يُمكن تجاوزه لصالح مكسبٍ سياسي دعائي، آنيّ ومؤقّت. أبعد من هذا، تكشف نظرة دونية للفن ودوره. التأجيل والإلغاء يفضحان الموقف السياسي العربي، الرسمي والخاص، من الثقافة، والتعامل مع مفرداتها، وأنساق التعبير عنها، كشأن ثانوي يُمكن تقليصه، أو إلغاؤه. يظهر هذا جلياً في الأزمات الاقتصادية، والأحداث الدراماتيكية، كالإبادة الجماعية الحاصلة في غزّة. بدلاً من الفعل السياسي المؤثّر لوقفها، وردع المُتسبّب بها، تختار الحكومات تقديم الثقافة قرباناً لها. يدفعون بها "شرّ" مسؤولية المُشاركة الحقيقية فيها.

لتزامن مذبحة غزّة مع توقيتات سابقة لمهرجانات سينمائية عربية، تُقرّر التضحية بها، كما ضحّت بها سابقاً في مناسبات مختلفة. هذا يدعو إلى مُساءلة تلك الجهات، وهذا حاصل على المستوى الفردي، في مواقف مثقّفين وفنانين وسينمائيين ونقّاد، عن المكاسب الحقيقية المرجوّة من التأجيل والإلغاء. والسؤال الملازم لها: مَنْ المستفيد منها، في نهاية المطاف؟

في قراءة نقدية للتاريخ السياسي الحديث للمنطقة، ولصراعاتها، يتبيّن بوضوح التناسب الطردي بين مستوى نهوض مجتمعاتها في مراحل تاريخية معيّنة، ومستوى ازدهار الثقافة، ونشر الوعي بين سكّانها. وعكسه، يُلاحَظ تراجع وهشاشة يُصيبان البنى المجتمعية والسياسية العربية. وهذا ربما يكون أحد أكثر أسباب ضعف مساهمتها الحضارية، التي تُعدّ المهرجانات السينمائية، كالسينما نفسها، إحدى وسائل التفاعل والمشاركة فيها. هذا يُفسّر لماذا استقتلت مهرجانات سينمائية كبيرة، أوروبية وغربية خاصة، في فترة كورونا، للاستمرار في تنظيم دوراتها، ولو افتراضياً (أون لاين). كان يسهل على منظّميها، والجهات الراعية لها، التذرّع بالوباء لإيقافها. هذا لم يحصل، لأنّ الموقف من المهرجانات والسينما عندهم لا ينفصل عن الموقف من الثقافة والفعل الإبداعي، وبهما يُمكن قياس تطوّر مجتمعاتهم، وتحصينها من كل فيروس يُريد تهشيم قيمها الثقافية والحضارية.

يجرّنا هذا التوصيف إلى مُراجعة واقع المهرجانات العربية نقدياً، وبدء نقاش مع المعنيّين بشأنها. آليات تأسيسها إحدى أكثر المشاكل التي تواجهها، فإقامة المهرجانات العربية وإنهاؤها يتقرّران، عملياً، بقرارات فوقية، تجلي هشاشة بنيتها، وبكونها بعيدة كلّ البعد عن مفهوم "المؤسساتية". لهذا، يظلّ مصيرها رهن قرارات خارجة عن إرادة المشرفين عليها. في توقيف مهرجاني "دبي" و"أبوظبي"، وقبلهما "مهرجان الخليج" نهائياً، من دون تبيان الأسباب الموجبة للتوقيف والإلغاء، مثلٌ على هشاشة بناء المهرجانات العربية، رغم ما حقّقته من نجاحات لا يُمكن تجاهلها. تلك المفارقة ليست بعيدة عن إلغاء الدورة السابقة لـ"مهرجان الجونة"، وأيضاً النقاشات المتكرّرة عن مواعيد تنظيم دورات "أيام قرطاج السينمائية" (كلّ سنتين، أم كلّ سنة؟).

في هذه الحالة، لا غرابة أنْ تتعامل المهرجانات العالمية، والأطر المُنظّمة لها، على أنّها مهرجانات مرتبكة، من دون مرجعيات مهنية، ولا تقاليد عمل يُمكن التعويل على قوّة حصانتها. لتغيير تلك النظرة، يتطلّب، قبل كلّ شيءٍ، تحريرها من سلطة المؤسّس/المتحكّم، وانتزاع إداراتها المساحة المطلوبة لها لتمارس فيها استقلاليتها وحرية اختياراتها الفنية. ربما يبدو ذلك مستحيلاً وخيالياً، في ظلّ واقع سلطوي مُهيمن، لا يقبل التنازل أبداً عن أبسط أشكال تحكّمه. لكنْ، هناك -في التجارب القليلة- ما يشير إلى استثناءات مُلهمة، مُتأتية من قوّة الشخصيات التي تتولّى الإشراف عليها. ربما يُفيد هنا التذكير بالتغيير الذي أحدثه الناقد سمير فريد في "مهرجان القاهرة"، عند تولّيه مسؤولية إحدى دوراته.

لن يخدم التاريخ الطويل لبعضها، ولا يمنع من تراجع مستوياتها، إذا ظلّ المشرفون الجدد عليها يقبلون تسييسها، والتوافق الاختياري أو الإلزامي مع المؤسّسات الرسمية، التي ترسم سياساتها، وتقرّر مفرداتها. هذا يحصل فقط عندما تتحوّل المهرجانات العربية، حقاً، إلى مؤسّسات ثقافية، مدعومة شعبياً، ومُنفتحة على كلّ الجهات المعنية بتقوية مراكزها، مالياً ومعنوياً. تسييس المهرجانات قائم قبل مذبحة غزّة، لأنّ السياسيين يجدون فيها دائماً خاصرة رخوة، يُمكن لهم التدخّل من خلالها في شؤونها ورسم سياساتها. لن ينفع الكلام عن الاستقلالية من دون إبعاد شبح الرقابة الذاتية عن إداراتها، وأيضاً عن النقّاد والصحافيين الذين يكرّسون، أحياناً كثيرة، خطاً "مُتشدّداً" إزاء كلّ خطوة بسيطة، تنفتح فيها المهرجانات على أفكار وشخصيات مثيرة للجدل، أو حين تُفكّر بعرض أعمال سينمائية مُحمّلة بموقف نقدي شجاع.

مناقشة الموقف النقدي السينمائي العربي تتوازى في أهميتها مع مناقشة سبل تطوير البنى الداخلية للمهرجانات، لأنّ المشتغلين في حقل الكتابة النقدية قادرون، فعلياً، على تأدية دور إيجابي في التشجيع على خوض مغامرة الانفتاح على الآخر، وعرض تجاربه، وترك الحكم عليها للجمهور المعنيّ بمُشاهدتها والتفاعل معها، مع احتفاظ كلّ واحد منهم بحقّه في قراءة المُنجز الإبداعي وفق رؤيته وثقافته.

يوصلنا هذا المسار إلى مُعارضة فكرة "الإقطاعيات" المتوارَثة، التي تُكرّسها بعض المهرجانات العربية العريقة، وتعمل على نقلها إلى غيرها. لن يقبل العصر بتكريس نظرية الأسبقية والأولوية، كمقياس للتفوّق؛ ولن يتسامح مع المُصرّين على اتّخاذها نهجاً ثابتاً لهم في العمل. فمن كان طليعياً بالأمس، ليس بالضرورة أنْ يبقى كما هو اليوم. والمهرجانات، كالحياة نفسها، تتكرّس قوّتها وحضورها بمقدار مواكبتها مُتغيّرات العصر، وملاءمة نفسها مع الجديد الحاصل في عالم السينما وإدارة المهرجانات في كلّ مكان.

هل توصلنا تلك النظرة التجديدية إلى النقطة الحرجة، التي تلتزم فيها كلّ المهرجانات العربية التنسيق في ما بينها، والاتّفاق على الحدّ الأدنى من التعاون، كي لا تتحوّل المنافسة في ما بينها إلى حروبٍ تضرّ السينما أكثر مما تنفعها؟

 

####

 

إعادة النظر في برامج المهرجانات السينمائية

علاء المفرجي

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن معرفة أنّ الدور المُهمّ في إقامة المهرجانات السينمائية الدولية، يتمثّل بكونها منبراً لا غنى عنه لعرض الأفلام الجديدة والمُبدعة، التي تساهم في إدامة التنوّع الثقافي والحضاري، وبأنّها عنصر مُهمّ في موضوع التلاقح الثقافي بين البلدان، وتسعى إلى جذبها مُشاركين من مختلف أنحاء العالم.

والمهرجانات السينمائية، وفق ما تؤدّيه في دعم صناعة السينما وتوزيع الأفلام على نطاق واسع، تحرص على رعاية الإبداع والمواهب، ما يزيد من أهميّتها في الأوساط الفنية. فمنذ انتشارها في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين، أدّت هذه المهرجانات دوراً مُماثلاً في الحياة الثقافية للسينما: في كلّ عام، يؤثّر تقويم المهرجانات، إلى حدّ كبير، على إصدار الأفلام العالمية وتوزيعها، وتكريسها في نهاية المطاف.

الواقع أنّ المهرجانات السينمائية متأصّلة، بقوّة، في الأنظمة العالمية لإنتاج الصُوَر المتحرّكة، وتداولها واستهلاكها. تطلق المهرجانات رفيعة المستوى عناوين أفلامٍ، وتؤسّس أسماء تجارية تجذب الجماهير العالمية: إنّها بمثابة سلسلة توريد رئيسية للبرامج عالية الجودة في دور السينما، ودور العرض الفني. وعلى نحو مماثل، فالعديد من فعاليات المهرجانات الصغيرة ومتوسّطة الحجم تسدّ الفجوات العديدة التي يُخلّفها التوزيع المنتظم، لتلبيتها احتياجات جماهير ومجتمعات مُحدّدة، تتخصّص في أنواع وموضوعات معيّنة، أو تركّز على قضايا وأجندات معيّنة.

إلى جانب هذه القيم الاقتصادية والتنظيمية، تخدم المهرجانات السينمائية مصالح متنوّعة لأصحاب المصلحة، سياحةً وتنميةً إقليمية وتسويقاً للمدن، إضافة إلى أهداف السياسة والمُثل السياسية والقوّة الناعمة.
ولأنّ المهرجانات السينمائية معنيّة بزيادة الوعي بالمشاكل والتحدّيات التي تواجهها البلدان، إضافة إلى مهمّات أخرى، نرى أنّ التأجيلات والإلغاءات التي عصفت بمهرجانات سينمائية عربية، بسبب عدوان الاحتلال الإسرائيلي الجديد على قطاع غزّة والضفة الغربية، وتداعياته في المحيط الإقليمي، عمل يشوبه تسرّع وارتجال كبيران، من منطلق الفهم الحقيقي لإقامة هذه المهرجانات السينمائية، أو الأسباب التي دعت إلى قيامها
.

لا يزال الالتباس في فهم مُهمّة هذه المهرجانات سائداً لدى غالبية القائمين عليها. وقبل أنْ نخوض في موضوع "تأثّر" المهرجانات السينمائية، بوصفها مهرجانات فنية، سلباً أو إيجاباً، في الأحداث الكبرى التي تتعرّض إليها الأمم، يجدر تناول دور السينما نفسها في ذلك. فالسينما، كما هو معلوم، من أكثر وسائل الاتصال تمثّلاً للأحداث التي يتعرّض إليها البلد، من حيث استلهامها واقتراح معالجات لها. والسينما تنفعل بهذا الحدث، وتبثّ الوعي المطلوب للمتلقّي. ينسحب ذلك على طبيعة المهرجانات السينمائية بأنواعها.

فهمنا للمهرجانات السينمائية الحالية، وإدارة المهرجانات السينمائية الدولية المعاصرة، يرتبط بمعرفتنا تاريخ المهرجانات، إذْ أبقت المصالح الجيوسياسية الموجة الأولى منها، أي الأوروبية، في قبضة مُحكمة حتى منتصف ستينيات القرن العشرين. استعادة بعض تاريخ المهرجانات، تكشف التأثير الفاشي على "مهرجان فينيسيا السينمائي"، أواخر ثلاثينيات القرن نفسه، وأجندة الحرب الباردة لـ"مهرجان برلين السينمائي"، والممارسات (البرمجة) ذات المنطلق السياسي في أوروبا الشرقية؛ رغم أنّ الأجندات السياسية تناقش كقوى مؤثّرة، تقود المهرجانات وتُشكِّلها. إلاّ أنّها تُظهر أيضاً أنّها تتقاطع مع الأهداف الثقافية، والمصالح الاقتصادية، والظروف التاريخية الوطنية المُحدّدة.

من هنا، فإنّ تأجيلَ مهرجانات سينمائية عربية أو إلغاءَها، كرّد وطنيّ على طبيعة الحدث الحاصل، لا يستند إلى مُبرّرات واقعية، إلاّ في حدود الفهم الخاطئ لهذا المهرجان أو ذاك، بوصفه (المهرجان) مناسبة فنية، واستعراض أزياء، وفرصة للترفيه والراحة. التباس القصد في مُهمّة المهرجانات ودورها، جعل اتّخاذ قرارات كهذه سهلاً، لأنّها تستغلّ، بالضدّ من طبيعة الحدث السياسي، في الواقع الذي يجب أنْ تكون فيه المهرجانات، كحدثٍ ثقافي من شأنه تمثيل هذا الحدث، وتعميق الوعي فيه، باستحداث قسم خاص بعرض أفلامٍ انتصرت لهذه القضية، مثلاً، أو استضافة مخرج له دور في صناعة أفلام من هذا النوع. كما يُمكن تشذيب برنامج المهرجان ممّا يتنافى وطبيعة الحدث المعنيّ.

المهرجانات السينمائية العالمية لم تتوقّف إلاّ لأسبابٍ قاهرة، عمّت البشرية كلّها، كالحرب الكونية. حتى انتشار كورونا لم يُعطّل عمل بعض المهرجانات، التي استحدثت إجراءات معيّنة لتفادي خطر الوباء، كـ"مهرجان الجونة" (وهو في حقيقة الأمر عرض للأزياء ومجال للنميمة أكثر من كونه مهرجاناً).

يُمكن تجاوز التباسٍ كهذا بإعادة النظر في برامج مهرجانات عدّة، بما ينسجم وتوافقها مع المهرجانات العالمية. وللأمانة، فإنّ عدداً من المهرجانات العربية، ولا سيما الحديثة منها، حرصت على أنْ تتضمّن برامجها إجراءات تصبّ في مصلحة صناعة السينما، ليس الوطنية فقط، بل العالمية أيضاً، كاستحداث منصّات لصناع السينما المحترفين، وتضمين برامجها على افتتاح أسواقٍ لعرض مشاريع صناع الأفلام على الشركات والمؤسّسات المعنية، بدعم المهرجان ورسالته. وأيضاً تخصيص كلّ إمكانات التسويق والدعاية عبر وسائل تواصل كثيرة.

 

####

 

شاشات مطفأة: أهناك من يهتمّ بإعادة تشغيلها؟

محمد هاشم عبد السلام

عقب الإعلان عن تأجيل فعاليات فنية وسينمائية، في مصر والعالم العربي، ثم الإعلان عن إلغاء كامل، أو تأجيل إلى موعدٍ آخر غير مُحدَّد، ما يعني الإلغاء لكن بصيغة مواربة، تباينت الآراء، ولا تزال، بين إدانة كاملة لفكرتي التأجيل والإلغاء، ورفض منطق الإلغاء التام، وطرح صيغ أخرى بديلة له، والمُوافقة على التأجيل أو الإلغاء الكلّي، وتأييدهما، مراعاة للظروف العصيبة والحرجة التي تمرّ بها المنطقة، والمعاناة اليومية للشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزّة، ومعاناته بسبب حرب وتهجير وتطهير عرقي وإبادة سافرة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

بعيداً عن الآراء المطروحة، تأييداً أو معارضةً أو محاولة إيجاد بدائل، وعن وجهات نظر يُسوّقها كلّ جانب، لم يتجاوز طرح الغالبية الكبيرة ومناقشاتها إلى الأخطر، وذكره غير المتخصصين أو المعارضين من الجمهور: ماهية الفنون والفعاليات والمهرجانات، بكونها وسائل ترفيه وتسلية وإلهاء، وليست مقوّمات حياة، أو أدوات مقاومة وتنوير وإلهام لغدٍ أفضل.

لم يُقلِق أحدٌ تعرّضُ الفنون والفعاليات الفنية، خاصة المهرجانات السينمائية، لهجومٍ من أعداء الفنون بشعاراتهم الغوغائية، وحقٌّ يُراد به باطل، كأنْ يُقال إنّ الفنون والمهرجانات "كماليات" في بلدان تحتاج إلى "الأساسيات"؛ أو أنّ هذا ليس وقته أبداً. لم يتساءل أحدٌ: لماذا غالبية الفعاليات الفنية، المهرجانات السينمائية تحديداً، ضحية دائمة للأزمات؟

لأسئلةٍ كهذه، ولغيرها، أهمية، ولا بُدّ من طرحها ومناقشتها بشكلٍ مُوسّع وشامل، وبمنتهى الحرية والجدية، بغية إرساء قواعد تؤسّس لمستقبل لا تُطرح فيه مجدداً بديهيات كهذه.

الفنون، وفعالياتها ومهرجاناتها، من أساسيات الحياة، وليست لتقييم مدى تقدّم ثقافة الأمم وفنونها، وإلقاء الضوء على أهم الأعمال فقط، بل أيضاً مساحة عريضة لإسهامات ضخمة لتطوير الثقافة والسياحة والاقتصاد والاستثمار، ومُختلف جوانب الحياة في المدن المُقامة فيها، في حال إقامتها واستغلالها على النحو الصحيح.

المُثير للغرابة والدهشة أكثر، أنّ غالبية النقاشات والسجالات بين العاملين والمُهتمين بمجال الفن وصناعته، لم تتأمّل أو تتفحّص ردود فعل الجمهور العادي العريض، ولا أسباب عدم اكتراث الغالبية الكبيرة بأمر التأجيل أو الإلغاء، وكيف أنّ المُهتمين بالموضوع من الجمهور كانوا مُؤيدين للإلغاء، وبقوة، وربما الإيقاف الدائم، أو حتى الاستغناء عن الأنشطة الفنية إجمالاً. كيف لم ترعبهم فداحة الأمر، ولم يتساءلوا جدّياً عن أسباب عدم الاكتراث، أو هذا العداء؟ لماذا لا تمثّل الفعاليات الفنية في عالمنا العربي، خاصة المهرجانات السينمائية، أي أهمية بالنسبة إلى القاعدة العريضة من الجمهور؟ كيف لم تؤسّس مع الناس العاديين روابط عضوية حقيقية وثيقة؟

أسئلة تدفعنا، بل ينبغي أنْ تجبرنا على التفكير الجدّي الصادق والمُخلص في دور وأهمية وتأثير الفنون والفعاليات الفنية والعروض والمهرجانات السينمائية في بلادنا، وفي مدى جدواها وحيويتها لجمهور عريض يُفترض بها أنّ تستهدفه أساساً. أيضاً، وهذا مهمّ للغاية: مدى جدواها، اقتصادياً وسياحياً واجتماعياً واستثمارياً، وليس ثقافياً فقط. لذا، من باب المصداقية مع النفس، والرغبة الحقيقية في التطوير والتقدّم، إنْ كانت هناك نيّة لهذا، مُجبرون أيضاً على إعادة النظر في هوية المهرجانات القائمة، وبُنيتها وهيكليتها وتمويلها، وكلّ ما يرتبط بها، في محاولة لإنهاضها فعلاً، ودفعها بآلية ذاتية إلى الأمام، وليس الاكتفاء بمجرّد تسييرها بفعل العادة، وقوّة القوانين والتمويل والبيروقراطية الحكومية.

من هنا، نتساءل: لماذا لا يُقام نقاش جدّي، يتجاوز الإطار الحماسي الانفعالي اللحظي، إلى آخر نقدي وعقلاني ومنطقي، من دون إقحام اعتبارات سياسية ومصالح وأنماط اتّهام أو تسفيه شعبوية أو أمنية، لبلورة آراء علمية وتنويرية ونقدية، بعيداً عن الأفكار المعلّبة، عن دور الفنون في حياتنا وأهميتها، وعن ضرورة الفعاليات الفنية، عامة، والمهرجانات السينمائية خاصة، بمختلف المستويات. نقاش يبتعد عن أي تشخيص سريع وسطحي وعابر، ويُوغل عميقاً في تفنيد أسباب أعطاب بنية الفعاليات الفنية واهترائها وتكلّسها، المتجلّية أكثر في المهرجانات العربية، المحتاجة بإلحاح إلى إصلاحات فورية، عوضاً عن الركون القاتل إلى أمجاد ماضية.

إذاً، المسألة لا تنحصر أبداً في مجرّد نقاشات عابرة عن الموافقة أو الرفض لإقامة أو تأجيل أو إلغاء هذا المهرجان أو ذاك؛ وليس في طرح نقاشات عن دور الفن وأهميته في هذه الظروف العصيبة، أو إذا كانت الفعاليات الفنية والمهرجانات السينمائية في المنطقة ضرورية أو مُهمّة. إنّها ضرورية ومُهمّة ومُلحّة، وينبغي الإكثار منها بكلّ تأكيد. لكنّ المسألة معقودة على مدى جدواها وجدارتها وقدرتها على الاستمرار وجذب الجمهور العريض، وربط الجمهور بها عضوياً، بحيث يهمّه ويمسّه ويُؤثّر فيه بقوة انعقادها أو عدمه. لو تسنّى هذا فعلاً، عندئذٍ يُمكن ضمان استمرارية انعقاد أي فعاليات فنية، لأنّ الجمهور ركيزتُها الأساسية، والضامن لها. عندها، سيضع مُتّخذ القرار المردود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقبلها الجمهور، في الحُسبان. لكنّ الواقع، إلى الآن، يُظهِر، وربما يُؤكّد، أنْ حتّى أهل الفن والمُنخرطين في صناعة الفنون وإنتاجها هم أنفسهم، للأسف، لا يأبهون، أحياناً كثيرة.

الدليل على هذا، أنّه، في مصر مثلاً، حتّى قبل العدوان على غزّة، وبدء المذابح الدموية المستمرّة ضد الشعب الفلسطيني، كان يُفترض بصُنَّاع السينما أنْ ينتفضوا بعد واقعة "المهرجان القومي للسينما"، الذي فوجئ الجميع بانقضاء عام تقريباً من دون انعقاده، أو حتّى الإعلان عن موعد إقامته، وعمّا إذا كانت الدولة المصرية تُفكّر في إلغائه أساساً، أم لا. طُرحت تخمينات وتكهّنات وتساؤلات عدّة، وطبعاً غابت الإجابات، إلى أنْ صدر القرار الوزاري المُؤكّد على انعقاد المهرجان، ونفي نيّة الإلغاء، وإسناد رئاسته إلى المخرج يسري نصرالله. مهرجان ستُعقد دورته الـ25، ويُفترض بأنّ أهميته بالنسبة إلى صناعة السينما والأفلام المصرية تكون بأهمية "أوسكار" هوليوود و"سيزار" فرنسا و"غويا" الإسبانية؛ إلّا أنّه ليس كذلك أبداً، بل تناساه وتجاهله أهل السينما أنفسهم، وغفلوا عن موعد انعقاده، المتغيّر كلّ عام تقريباً، من دون ثبات للأسف، لأنّه غير مُهمّ بالنسبة إلى الأغلبية.

 

####

 

إقامة المهرجانات للتفكّر في حالة العالم

سعيد المزواري

في الحرب العالمية الثانية، طالب نوابٌ في مجلس العموم في المملكة المتّحدة، بإلغاء كلّ الإعانات المُقدّمة للفن والثقافة، للمساهمة في المجهود الحربي، وتعزيز الترسانة العسكرية المُستخدمة لمحاربة الرايخ الثالث، فأجابهم ونستون تشرشل بسؤالٍ، ظلّ راسخاً في الذاكرة: "إذن، ما الذي نقاتل من أجله؟". في تصوّر رئيس الوزراء، الذي قاد المملكة المتّحدة في قهر جبروت النازية، "بالدم والدموع والعرق"، تجسّد الثقافة والفنون أجمل ما في الشعوب، وقوام حضارتها، والوجه المشرق الذي يسعى أعداؤها إلى طمسه.

تضطلع هذه الواقعة بدلالة خاصة، في سياق العدوان الهمجي الذي يشنّه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة والضفة الغربية. هناك نقاش دائر بين مناصري إلغاء المهرجانات السينمائية في الدول العربية، أو تأجيلها، ومن يدعون إلى إقامتها في موعدها، مع إلغاء مظاهر الاحتفال والسجادة الحمراء. هذه إشكالية عصيبة ومُعقّدة، ولا شكّ أنّ كلّ وجهة نظر تحتفظ بجانب من الصواب والحقيقة.

كان نضال العرب ضد الاحتلال إسرائيلي، ولا يزال، ثقافياً في أحد جوانبه، كما هو عسكري في عدة أحيان. حروب دفاع ناعمة، لكنّها طاحنة، شُنَّت بروايات وأفلام ومسرحيات وأغان، أنجزها فنانون فلسطينيون وعربٌ، وآخرون من جنسيات عدّة. أعمال جسّدت أبعاد المأساة الفلسطينية منذ عام 1948، وذكّرت بأحقية الفلسطينيين في أرضهم، وعودة المهجّرين. هذا كلّه في مواجهة آلة البروباغندا التي تُمجّد الرواية الصهيونية بطمس الوقائع، وتجزئة الحقائق. كلّ شيءٍ يمرّ عبر الذاكرة، ومتى استطاعت آلة إعلامية طمس ذاكرة شعب ما، تسهل على الجيوش مهمّة قمعه وسحقه. ولعلّ السجالات الإلكترونية الدائرة اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي، بين من ينادون بوضع الصراع في سياقه التاريخي، بغية فهم أبعاده المُعقّدة، والحيف الكبير الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني، وفضح مزوّري الحقائق الذين يريدون إقناعنا بأنّ كلّ شيءٍ بدأ في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ليست في العمق سوى نسخة حديثة من المعركة الأزلية بين دعاة الذاكرة وتجّار النسيان.

لا شيء يوازي الفنّ في قدرته على استجلاء الحقيقة، وإحياء الذاكرة المنسية أو المطموسة. مهما بلغت نزاهة البرامج التلفزيونية، ودقّتها في توخّي الحقيقة، بعيداً عن الصُور الجاهزة والتخندق الأيديولوجي، فإنّ "التلفزيون يصنع نسياناً، بينما تنتج السينما ذكريات"، كما يقول جان ـ لوك غودار. ورُبّ فيلمٍ واحد، "هنا وهناك" (1971) لآن ماري مييفيل وغودار نفسه مثلاً، يستدعي رؤية عميقة وإنسانية لنضال الشعب الفلسطيني، أفضل من مئات الساعات من صخب الجدل السطحي على شبكات التواصل الاجتماعي، والنقاش المتشنّج في بلاتوهات التلفزيونات، حيث تسود السيناريوهات، المُعدّة سلفاً، النّوايا.

وبما أن لا أفلام من دون مهرجانات سينمائية، تمثّل مجالها الحيوي الذي تلتقي فيه رؤى الفنانين، فتتفاعل عبر التنافس أو النقاش النقدي والمهني، قبل أنْ تجد طريقها عبر الإعلام إلى المُشاهد، فتهيّئه لاستقبالها واستشفاف أبعادها الشكلية والموضوعية عند عرضها في الصالات السينمائية، فإنّ استمرارية العمل السينمائي رهنٌ بانتظامِ المهرجانات وانطلاقها في مواعيدها المحدّدة. أنْ ينعقد مهرجان دولي في دولة عربية، وتمنح برامجه مكاناً لتداول القضية الفلسطينية، بعرض أفلام وتنظيم حلقات نقاش، أو حتّى لفتات مُساندة عبر الكلمات الملقاة، أو إشهار لافتات ورموز أمام عدسات الكاميرا، كلّها أفضل من جوّ الكآبة والإحباط الذي تُخلّفه إعلانات الإلغاء والتأجيل.

تنظيم مهرجان يشبه قيادة درّاجة هوائية، لا تُسيّر أو تُعدّل وجهتها سوى بالحركة المستمرّة، وما أن يتوقف أو يرتبك إيقاعها حتى يختل توازنها. يصبح أيّ حديث عن إلغاء دورة أو أكثر من مهرجان ما، بنية الإصلاح والتجديد، مقامرة حقيقية بمستقبله، وتهديداً للمكتسبات التي راكمها. هناك عقد غير مكتوب بين المهرجان وشركائه، يُعدّ الانتظام والتزام الخطّ التحريري من أهم بنوده. وما أنْ يختلّ بند الانتظام، أو يحيد المهرجان عن خطّه، حتّى تهتزّ الثقة التي يضعها الشركاء فيه، وقد تلزمه سنوات ليكتسبها من جديد.

هناك مثلٌ في المهرجانات الدولية، كمهرجان "كانّ"، الذي لم يُلغَ منذ تعثّر انطلاقته بسبب الحرب العالمية الثانية سوى مرّتين: قبل ثلاث سنوات بسبب تفشي فيروس كورونا ، وفي مايو/ أيار 1968 حين توقّف قسراً بضغط من السينمائيين الحاضرين، الذين انضمّوا إلى الطلبة والعمال للمُطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية. حتّى عندما اندلعت حروبٌ وأزمات خانقة في قلب أوروبا، كحروب يوغوسلافيا في مطلع التسعينيات الماضية، والحرب الروسية على أوكرانيا العام الماضي، نشبت نقاشات حامية في كواليسه، ونُشرت مقالات نارية في الصحف تنتقد هذا التوجّه أو ذاك في المواقف المُعلنة من المنظّمين والمشاركين إزاء الحرب، لكنّه لم يتوقّف.

لا مكان أفضل من شاشة سينما للتفكّر في حالة العالم. لا شيء يضاهي المهرجانات حين تحقّق لمرتاديها أنْ يجسّوا، على امتداد أسبوعين، نبض ما يمور في أقطار من شتى أنحاء المعمورة، بلغات وثقافات وأعراق متنوّعة، مُجسَّداً بعيون ألمع المبدعين، فتتقاطع الرؤى، وتنصهر وجهات النظر، وتنتفي الحدود، وتُلغى الفوارق، لتنجلي الإنسانية في حقيقتها العارية، بوجهيها المشرق والمظلم، ومشتركاتها وتناقضاتها، وآمالها وآلامها.

 

####

 

تأجيل المهرجانات السينمائية... لأنها إبادة ثقافية

عبد الكريم قادري

ما حدث ويحدث حالياً في قطاع غزّة والضفة الغربية مذبحة حقيقية، لا يُمكن غَضّ الطرف عنها، كأنّها غير موجودة لأنّ مجرّد الانشغال عنها بمهرجانات كبيرة، أو أحداث معيّنة، تشجيعٌ ومشاركة في تفاصيلها بطريقة ما. لذا، أرى أنّ إلغاء المهرجانات السينمائية الكبرى في العالم العربي، كـ"الجونة" و"القاهرة" و"قرطاج" وغيرها، قرارٌ صائب إلى حدّ كبير، ويخدم الشعب الفلسطيني مع ما يتعرّض له من إبادة على أيدي المحتلّ الإسرائيلي. ففي حالة إقامتها، في ظلّ ما تناله من اهتمامات وتغطيات إعلامية، محلية ودولية، سيتحوّل الأمر إلى تغطية واضحة على ما يرتكبه المحتلّ الإسرائيلي من جرائم. كأنّنا نقول للعالم إنّ كلّ شيءٍ على ما يرام، وما يحدث في غزّة مجرّد مناوشة بسيطة، لا تستحق منا الوقوف عندها، والتمعّن في تفاصيلها. كما ستتقلّص المساحة من التغطية الإعلامية لمجازر المحتل، وبالتالي نساهم بشكل واضح في تثبيت الرؤية الأخرى، التي تحاول التعامل مع الأمر كأنّه حدث عابر لا يستحق الوقوف عنده، والتمعّن فيه بأي طريقة.

الأجدى والأهمّ للأقلام الصحافية، التي تنقل أخبار المهرجانات، أنّ تتوجّه إلى ما يحدث، لأنّ قائمة الضحايا مرتفعة، والدموع غزيرة، والدماء في كلّ زاوية، والأحزان والفَقَد أذاقت كلّ بيت غزّي مرارتها. الأخطر من هذا كلّه، في حالة تنظيم مهرجان، أنّ مساحة التعاطف العالمي ستنكمش، لأنّهم سيعتقدون أنْ لا شيء يحدث يستحقّ التنديد. الدليل: مظاهر الفرح والرضا التي ستظهر في تلك المهرجانات المنظَّمة في رقعة جغرافية عربية.

انطلاقاً من وجهة نظر سياسية، سيُشحن الرأي العام، محلياً وعربياً، على الأنظمة السياسية، التي ستسمح بتنظيم المهرجانات. لأنّ المواطن العادي سيرى الأمر من وجهة نظره الخاصة، التي تفيد بأنّها محاولة واضحة للتغطية على المجازر، وستتوجّه مشاعر الكره إلى تلك الأنظمة، لأنّ مُنطلقه الأساسي خلق مقارنات عملية من بيئته البسيطة. وسيرى الأمر كتنظيم حفل زفاف فرد من عائلته، مع تحديد الموعد، ودفع معظم التكاليف. لكنْ، عندما يحدث أمرٌ جلل في عائلته، سيتمّ إلغاء الزفاف، لأنّه إنْ لم يفعل، لن يلقى منهم سوى النفور والابتعاد والمقاطعة، وسيجد نفسه وحيداً.

هذا معطى عملي ينطبق على الوضع الحالي بشكل كبير. بالتالي، لن تجازف تلك الأنظمة في فتح أبواب جحيمٍ جديدة على نفسها.

أما بخصوص الدعوة إلى تقليص مساحة المهرجانات، وحصر الأمر على العروض، مع إلغاء مظاهر الاحتفال، وتخصيص مساحة للسينما الفلسطينية، فأعتقد أن هذا لا يصحّ أيضاً، لأنّه من جهة يسقط على الحدث صفته الكبرى، التي يعتمد عليها، أي كلمة مهرجان بمعناها الواسع، انطلاقاً ممّا تحمله الكلمة من معنى، ومن مظاهر احتفالية، إضافة إلى محو كلمة "الإلغاء"، التي شكّلت خبراً ثقافياً رئيسياً في منابر إعلامية عالمية عدّة، لأنّ الصياغة تتطلّب ذكر السبب، أي الحرب على قطاع غزّة والضفة الغربية. بالتالي، إنّ أي محاولة في تقليص فعاليات المهرجان غير مُجدية إعلامياً، وفي خدمتها القضية الفلسطينية بشكل آخر. إضافة إلى أنّ الأمر سيتحوّل إلى مجرّد عروض أفلام، وهذا يُمكن أنْ يحدث يومياً، في أي قاعة سينما، أو موقع إنترنت، لأنّ المهرجانات السينمائية تكتسب قوّتها وبريقها من برامجها المتكاملة والمتراصة. كما أنّ قرار الإلغاء خبرٌ مهمّ، يوثّق حقبة زمنية دموية للأجيال المستقبلية، لأنّه سيبقى حيّاً، وسيتمّ دائماً ربطه بالحرب على فلسطين.

مهرجانات سينمائية، مُبرمجة في دول عربية، وجدت في قرار الإلغاء فرصة مهمّة، مُقدّمة إليها على طبق من ذهب. خاصة تلك التي كانت تعاني في الميزانية، وسوء التنظيم، كـ"أيام قرطاج السينمائية"، المُهدّدة بالإلغاء، بعد فشلها الذريع في دورتها الـ33 (29 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، برئاسة سنية الشامخي. لكنْ، بعد ضغط صنّاع السينما، بُرمجت الدورة الـ34 (28 أكتوبر/تشرين الأول ـ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2023) على مضض، خاصة أنّ تونس تعاني أزمة اقتصادية ومالية حادة، وهذا سيشحن الرأي العام ويؤلّبه على النظام.

لكنْ، رغم هذا، كانت إدارة الـ"أيام" ماضية قدماً في تنظيمها، بشكل أقلّ زخماً، فقط لإرضاء فئات مجتمعية معينة. ومع بداية الحرب على فلسطين، وتزامن الـ"أيام" مع "مهرجان الجونة السينمائي"، وتطابقاً معه بعد التأجيل، باتت الـ"أيام" مُهدّدة بالمحو. لذا، جاء الإلغاء، وقدّم خدمة كبيرة للأطراف كلّها، رغم عدم رضا بعض المحسوبين على السينما في تونس.

هذا الإلغاء سيكون قراراً ثميناً لإعادة تحرير خطّ الـ"أيام"، التي حادت عن الأهداف التي وضعها المؤسّسون: الاحتفاء بالسينما العربية والأفريقية وصنّاعها. لكنْ، مع الدورات الأخيرة، أصبحت مرتعاً لصنّاع السينما الفرنسية والأوروبية، وللمتعاطفين والمتعصّبين لها، ممن ينظرون بدونيّةٍ إلى السينما العربية والأفريقية. كما تغلّبت المصالح الشخصية على الخيارات المهنية للـ"أيام"، ما جعل الأضواء الكاشفة والمهمّة، التي كانت مُسلّطة عليها، تضمحل وتتلاشى في كلّ مرة. عسى أنْ يكون الإلغاء معطى إيجابياً لإعادتها إلى سكّتها الصحيحة، التي سطّرها السينمائي الطاهر شريعة، ومن كانوا معه.

ليست "أيام قرطاج السينمائية" وحدها المستفيدة من قرار الإلغاء. كلّ مهرجان يملك عيناً نقدية، وطموحاً للتطوّر، سيرى هذا الأمر مناسبةً مهمّة للتطوير وإعادة قراءة الواقع والوقائع، كمهرجاني الجونة والقاهرة. هذا ما حدث أيضاً مع "مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي"، الذي كانت ستُنظّم دورته الرابعة بين الثالث والتاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، رغم أنّ الفترة الزمنية الفاصلة بين تعيين المحافظ محمد علال وإجراءات الفعاليات قصيرة، لا تسمح بتوسيع البرنامج، وتنويع الخيارات، وقنص أفلامٍ مهمّة. كما أنّ توقيت التنظيم جاء في زحمة المهرجانات السينمائية العربية الكبرى، وتقاطع مع أخرى. هذه معطيات كانت تهدّد الدورة الرابعة تلك، لذا سيكون قرار الإلغاء فرصةً مهمّة لإعادة ضبط تاريخ التنظيم، وترتيب الأوراق بشكل مُنسّق ومنضبط، والعمل بأريحية مطلقة. هناك من يرى أنّ أحسن فترة لتنظيم المهرجان، ستكون فترة الصيف، أو بعد مهرجان "كانّ" بقليل، خاصةً أنّ "عنابة" مدينة ساحلية، وأنّ تلك الفترة غير مزدحمة بالمهرجانات.

كما أنّه يُمكن لقرار الإلغاء أنْ يكون فرصة مهمّة لمهرجانات سينمائية عدّة، لإعادة رسم أبعادها من ناحية التنظيم والتوجّه والأيديولوجيا. فالعدوان الإسرائيلي على غزّة، وما يرتكب بحق أبنائها من مجازر على مدار الساعة، شكّلت فرصة مهمّة لخلق هذه الأبعاد، خاصة أنّ هناك مؤشّرات عدّة تدلّ على أنّ السينما الفلسطينية ستواجه أبواباً موصدة مستقبلاً في المهرجانات السينمائية العالمية.

الروائية الفلسطينية عدنية شبلي حُرمت من جائزتها في "معرض فرانكفورت للكتاب"، وهذا خير مثل على ازدواجية معايير العالم الغربي، الذي حرمها من حقّها وجائزتها، لا لشيءٍ إلاّ لأنّها فلسطينية. كما سحبت إدارة دار كريستيز لوحتين للفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي، كان مقرراً بيعهما في مزاد الدار لفنون الشرق الأوسط الحديث والمعاصر، يوم التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني في لندن، وذلك بعد "سلسلة من الشكاوى حول هذين العملين". ونشر "آرت نت" رسائل متبادلة بين دار كريستيز وصاحب إحدى اللوحتين، تشير إلى سحب اللوحتين بعد شكاوى، من دون الكشف عن طبيعة هذه الشكاوى. وفي بيان عقب عمليات الإزالة، صرحت دار المزادات: "تظل القرارات المتعلقة بالمبيعات سرية بين كريستيز والوسطاء". وهذا سيحدث، وسنسمع عنه كثيراً في فضاءات السينما. لذا، وَجَب على مهرجانات العالم العربي أن تصنع بصمتها الخاصة، وتحتفي بأبنائها لمواجهة الصَدّ والإبعاد.

 

العربي الجديد اللندنية في

07.11.2023

 
 
 
 
 

تضامنًا مع غزة.. إلغاء وتأجيل مهرجانات مصرية وعربية

محمود موسى

تعبيرا عن التضامن مع الشعب الفلسطينى ضد مجازرالاحتلال الإسرائيلى بحقه فى غزة وغيرها من المدن الفلسطينية المحتلة، تقرر إلغاء وتأجيل مهرجانات فنية وسينمائية عدة فى مصر، والعالم العربي.

بدأ أول القرارات بإلغاء مهرجان الموسيقى العربية الذى كان مقررا إقامته فى الفترة من 24 أكتوبر إلى 2 نوفمبر الحالي، وكان من المفترض أن تتضمن أيام المهرجان 38 حفلا يحييها 120 فنانا. كما اتخذت وزيرة الثقافة، نيفين الكيلاني، قرارا بتأجيل الدورة 45 لمهرجان القاهرة السينمائى الذى كان مقررا أن يُعقد فى الفترة من 15 إلى 24 نوفمبر الحالي.

وأوضح حسين فهمي، رئيس المهرجان، أنه تم إلغاء الدورة 45 هذا العام، مشيرا إلى أن المهرجان يحمل الصفة الدولية، ويرتبط بجدول دولي، ولهذا فهو ليس تأجيلا وإنما إلغاء. وأضاف: قمت بالاعتذار لأعضاء لجنة التحكيم ولكل من قام بجهد لإتمام هذه الدورة؛ لأن الأوضاع الحالية لا تسمح بإقامتها فى ظل الغضب الذى يعمنا كمصريين جميعا من الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.   كما تقرر تأجيل الدورة السادسة لمهرجان «الجونة» السينمائي، إلى أجل غير مسمي، «مراعاة للأحداث المأساوية فى غزة»، وأعلنت إدارته التبرع بخمسة ملايين جنيه لدعم جهود الإغاثة الإنسانية لأهالى غزة، وذلك بالتعاون مع مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية، والهلال الأحمر المصري، ليعكس المهرجان تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وتعاطفه مع أهالى غزة.

وفى السياق نفسه اتخذت وزارة الثقافة التونسية قرارا تضامنيا مع الشعب الفلسطينى بإلغاء الدورة 34 لمهرجان قرطاج السينمائي، وجاء فى بيانها أنه «بسبب الأوضاع الإنسانية الحرجة التى يشهدها قطاع غزة والأراضى الفلسطينية المحتلة كافة، جراء العدوان الصهيونى الغاشم، قررت الوزارة إلغاء تنظيم الدورة 34 من أيام قرطاج السينمائية». 

وعلى الصعيد ذاته، ألغت مؤسسة الدوحة للأفلام دورة هذا العام من مهرجان أجيال السينمائي، «تعبيرا عن التضامن مع الشعب الفلسطيني». وأكد بيان للمؤسسة أن «مهرجان أجيال ليس مجرد احتفال سنوى بفن سرد القصص، لكنه حدث مجتمعي، ركيزته المجتمع، وفى هذه الأوقات العصيبة، نؤكد تضامننا مع مجتمعاتنا فى المنطقة، ونشاركهم مشاعر الحزن والأسى جراء الخسائر اليومية الهائلة فى الأرواح البريئة». يُذكر أن القضية الفلسطينية لم تغب أبدا عن السينما المصرية، إذ تناولت فى أفلامها معاناة القضية الفلسطينية، والصراع العربي- الإسرائيلي، ومنها أفلام: أرض الأبطال، والسفارة فى العمارة، وباب الشمس، وصعيدى فى الجامعة الأمريكية، وهمام فى أمستردام، وأصحاب ولا بيزنس، وولاد العم.

ومن الأفلام العربية التى تناولت القضية الفلسطينية: «المخدعون» للمخرج توفيق صالح، و«الجنة الآن» للمخرج هانى أبو أسعد، و«الصدمة» للمخرج زياد دويري، و«200 متر»، و«فرحة «للمخرجة دارين سلام التى قالت - فى تصريحات سابقة لـ «الأهرام»- إن أحداثه مأخوذة عن قصة حقيقية حول فتاة فلسطينية تتمنى أن تتم دراستها، وقبل أن تحقق حلمها تنقلب حياتها رأسا على عقب، بحدوث نكبة عام 1948، فتتبدل الأحلام إلى مآس وألم نظرا لما تعرض له الشعب الفلسطينى منذ ذلك الوقت على يد الاحتلال من قتل وتهجير ومذابح.

 

####

 

لمقاومة الاحتلال «صرخات» فلسطينية على الشاشة العربية

سيد محمود

لم تحل الحرب الدائرة رحاها على أرض فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلى مستهدفا المدنيين، دون أن تعبر السينما الفلسطينية عن نفسها عبر شاشات العالم، لا سيما العالم العربي، وبرغم ما حدث لبعض المهرجانات فى المنطقة من تأجيل وإلغاء، إلا أن الأفلام الفلسطينية لا تزال تقوم بدورها كمحفز قوى للجماهير العربية والعالمية على دعم القضية الفلسطينية، ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

هكذا أصر القائمون على مهرجان «أيّام فلسطين السينمائية» على أن تُوزع العروض على أكثر من مائة شاشة سينمائية فى العالم، وأن تقام فى مدن ومساحات تنتشر عبره فى هذا الشهر، بعد أن كان مقرّرا إقامته بين 24 أكتوبر وحتى 2 نوفمبر الحالي، فى خمس مدن فلسطينيّة بغزّة والضّفة الغربيّة المحتلتين، لكنه تأجل بسبب العدوان الأعمى الذى مارسه الاحتلال الاسرائيلى بحقّ المدنيين الفلسطينيين، فى غزة تحديدًا، وفى سائر المدن الفلسطينية.

وبالتّزامن مع ذكرى «وعد بلفور» بإقامة دولة لليهود فى فلسطين المحتلة، بدأت العروض فى عدد من دور العرض العربية والأجنبية من خلال مؤسسة «فيلم لاب فلسطين» على شركائه، من جمعيات ثقافية ومساحات مجتمعية محلية وصالات سينمائية وناشطين، بحيث تعرض ثمانية أفلام وثائقية وروائية تتناول مواضيع مختلفة عن فلسطين، والحياة الصعبة تحت الاحتلال.

فيلم «علم»

من موضوعات هذه الأفلام: قضية الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال الإسرائيلى من خلال فيلم «اصطياد أشباح» لرائد أنضونى وهو نفسه ضحية سجون الاحتلال، وناجٍ منها، وحياة وشهادات وقصص 12 امرأة فلسطينيّة فى فيلم «خيوط السرد» لكارول منصور، والقصة الحقيقية لشباب يمارسون رياضة ركوب الأمواج فى فيلم «نادى غزة لركوب الأمواج» لمخرجَيه ميكى يمين وفيليب جنات، والقصّة الحقيقيّة لصديقين يمارسان الرّياضة البهلوانية فى غزّة، فى فيلم «قفزة أخري» لإيمانويل جيروسا، وإعادة تمثيل لمجزرة ارتكبها الاحتلال بحق عائلة فلسطينية خلال نكبة 1948، فى فيلم «فرحة» لدارين سلّام، وتدمير الاحتلال الإسرائيليّ لمدينة النّاصرة عام 1948، كما يصوره فيلم إيليا سليمان الرّوائى «الزمن الباقي»، وتجارب عائلة تعيش فى مخيّم لاجئين بغزّة فى ظلّ حظر تجوّل يفرضه الاحتلال، فى الفيلم الرّوائى «حتّى إشعار آخر» لرشيد مشهراوي.

وغير بعيد، حرصت السينما التونسية على أن تقوم بدورها، إذ قررت إقامة تظاهرة «أسبوع السينما الفلسطينية» فى مدينة الثقافة التونسية، بدلاً من مهرجان أيام قرطاج السينمائية فى دورته الـرابعة والثلاثين التى ألغيت تضامناً مع الشعب الفلسطيني. وتعرض التظاهرة ثمانية أفلام تعقبها حلقات نقاش بحضور مخرجين فلسطينيين.

وبدأت التظاهرة بعرض فيلم «عرس الجليل»، الذى تم إنتاجه وتصويره سنة 1988 للمخرج الفلسطينى ميشيل خليفي، ثم فيلم «غزة مونامور» لطرزان وعرب ناصر، الذى يُستمد من أحداث حقيقية، وفيلم «عيد ميلاد ليلي» لرشيد مشهراوي.

كما يتضمّن البرنامج عرض فيلمى «علم» (2022) لفراس خوري، و«عيون الحرامية» (2014) لنجوى نجار، وضم أيضاً قراءات بعنوان «سينما المقاومة» فى مكتبة «محمد محفوظ» بمدينة الثقافة، ومع عرض أفلام «فلسطين ستيريو» (2013)، و«كتابة على الثلج» (2016) لرشيد مشهراوي، و»جنين، جنين» (2002) لمحمد بكري.

وكان مهرجان «الجونة» السينمائى المصرى أعلن تبرعه بخمسة ملايين دولار دعما لأهل غزة ، مع حرصه على أن يكون على أهبة الاستعداد لإقامة الدورة السادسة المؤجلة حال عودة الهدوء إلى الأراضى الفلسطينية المحتلة.

ومن جانبه استبدل مهرجان «أجيال» السينمائى بالدوحة، ببرنامج دورته الملغاة ـ بسبب الأوضاع المأساوية فى غزة - برنامجا خاصا لفلسطين، حيث تقدّم مؤسسة الدوحة للأفلام سلسلة عروض سينمائية مُهداة إلى فلسطين، وتشمل فيلم «الزمن الباقي»، وهو من أبرز أعمال المخرج الكبير إيليا سليمان، وغيرها من الأعمال المتنوعة التى تتناول التجربة الفلسطينية بهدف تعزيز روح التآخى والتعاطف الإنسانى لدى كل من يشاهدها، إذ هى صرخة فى وجه الظلم، ونداء للإنسانية، ووسيلة للبوح بحكايات أولئك الذين يواجهون أبشع أنوع القهر والظلم، وفق بيان للمهرجان.

 

الأهرام اليومي في

05.11.2023

 
 
 
 
 

كلاكيت: المهرجانات السينمائية التأجيل أوالإلغاء

علاء المفرجي

بدءا يجب ان نعرف ان الدور المهم في إقامة المهرجانات السينمائية الدولية، يتمثل بكونها منبرا لا غنى عنه لعرض الأفلام الجديدة والمبدعة، والتي تسهم في إدامة التنوع الثقافي والحضاري، عدا كونها عنصرا مهما في موضوع التلاقح الثقافي بين الدول، وتسعى لجذبها مشاركين من مختلف أنحاء العالم.

والمهرجانات السينمائية ووفق ما تؤديه في دعم صناعة السينما وتوزيع الأفلام على نطاق واسع، تحرص على رعاية الإبداع والمواهب، ما يزيد من أهميتها في الأوساط الفنية.

فمنذ انتشارها العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين، لعبت المهرجانات السينمائية دورًا مماثلاً في الحياة الثقافية للسينما: ففي كل عام، يؤثر تقويم المهرجانات إلى حد كبير على إصدار الأفلام العالمية وتوزيعها وتكريسها في نهاية المطاف. والواقع أن المهرجانات السينمائية متأصلة بقوة في الأنظمة العالمية لإنتاج الصور المتحركة وتداولها واستهلاكها. تطلق المهرجانات رفيعة المستوى عناوين أفلام وتؤسس أسماء تجارية تجذب الجماهير العالمية: فهي بمثابة سلسلة توريد رئيسية للبرامج عالية الجودة في دور السينما ودور العرض الفني. وعلى نحو مماثل، فإن العديد من فعاليات المهرجانات الصغيرة والمتوسطة الحجم تسد الفجوات العديدة التي يخلفها التوزيع المنتظم: فهي تلبي احتياجات جماهير ومجتمعات محددة، وتتخصص في أنواع وموضوعات معينة، أو تركز على قضايا وأجندات معينة. وإلى جانب هذه القيم الاقتصادية والتنظيمية، تخدم المهرجانات السينمائية مجموعة متنوعة من مصالح أصحاب المصلحة، بدءاً من السياحة، والتنمية الإقليمية، وتسويق المدن إلى أهداف السياسة، والمثل السياسية، والقوة الناعمة.

ولأن المهرجانات السينمائية معنية بزيادة الوعي بالمشاكل والتحديات التي تواجهها البلدان، أضافة الى مهمات أخرى، فأننا نرى أن موجة التأجيلات والالغاءات التي عصفت بالمهرجانات السينمائية العربية، بسبب الحرب الإسرائيلية الجديدة على قطاع غزّة والضفة الغربية، وتداعياتها، في المحيط الإقليمي، عملا يشوبه الكثير من التسرع والارتجال، من منطلق الفهم الحقيقي لأقامة هذه المهرجانات السينمائية. أو الأسباب التي دعت لقيام مثل هذه المهرجانات.

لايزال الالتباس في فهم مهمة هذه المهرجانات هو السائد لدى اغلب القائمين عليها، وقبل أن اخوض في موضوع (تأثر) المهرجانات السينمائية بوصفها مهرجانات فنية، إن سلبا أو إيجابا، في الأحداث الكبرى التي تتعرض لها الأمم، يجدر ان نتناول دور السينما نفسها في ذلك.

فالسينما كما هو معلوم من أكثر وسائل الاتصال تمثلا للأحداث التي يتعرض لها البلد، من حيث استلهامها واقتراح المعالجة لها، درجة تنفعل السينما بهذا الحدث، وتمارس بث الوعي المطلوب للمتلقي، وينسحب ذلك على طبيعة المهرجانات السينمائية بمختلف أنواعها.

فهمنا للمهرجانات السينمائية الحالية وإدارة المهرجانات السينمائية الدولية المعاصرة يرتبط بمعرفتنا بتاريخ المهرجانات. فقد أبقت المصالح الجيوسياسية الموجة الأولى من المهرجانات السينمائية (الأوروبية) في قبضة محكمة حتى منتصف الستينيات. تحلل تاريخ هذه المهرجانات بالتفصيل، مثل التأثير الفاشي على مهرجان البندقية السينمائي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وأجندة الحرب الباردة لمهرجان برلين السينمائي والممارسات (البرمجية) ذات المنطلق السياسي في أوروبا الشرقية). على الرغم من أن الأجندات السياسية تتم مناقشتها كقوى مؤثرة تقود وتشكل المهرجانات، إلا أنها تظهر أيضًا أنها تتقاطع مع الأهداف الثقافية والمصالح الاقتصادية والظروف التاريخية الوطنية المحددة.

من هنا فان إجراء التأجيل أو الإلغاء للمهرجانات السينمائية العربية، كرد (وطني) على طبيعة الحدث السياسي الحاصل، لا يستند برأينا الى مبررات واقعية، إلا في حدود الفهم الخاطئ لهذا المهرجان أو ذاك، بوصفه – أي المهرجان-مناسبة فنية واستعراض للأزياء وفرصة للترفيه والراحة.

والتباس القصد في مهمة المهرجانات ودورها، جعل من السهولة اتخاذ مثل هذه القرارات كونها تستغل بالضد من طبيعة الحدث السياسي، في الوقا الذي يجب أن تكون فيه هذا المهرجانات، كحدث ثقافي من شأنه أن يمثل هذا الحدث ويعمق الوعي فيه، مثلا باستحداث قسم خاص لعرض أفلام انتصرت لهذه القضية، أو استضافة مخرج كان له دور في صناعة أفلام من هذا النوع. ومن الممكن طبعا تشذيب برنامج المهرجان مما يتنافى وطبيعة الحدث المعني.

فالمهرجانات السينمائية العالمية لم تتوقف إلا لأسباب قاهرة عمت البشرية جميعها، مثل الحرب الكونية، بل وحتى انتشار وباء كورونا لم يعطل عمل بعض المهرجانات التي استحدثت إجراءات معينة لتفادي خطر الوباء، مثل مهرجان الجونة.

ونرى مثل هذا الالتباس من المكن تجاوزه في إعداد النظر ببرامج العديد من المهرجانات بما ينسجم وتوافقها مع المهرجانات العالمية. وللأمانة نشير أن عددا من المهرجانات العربية سيما الحديثة منها، حرصت على أن تتوافر برامجها على العديد من الإجراءات التي تصب في مصلحة صناعة السينما لا الوطنية حسب بل السينما العالمية، ومن ضمنها استحداث منصات لصناع السينما المحترفين، وتضمين برامجها على افتتاح أسواق لعرض مشاريع صناع الأفلام على الشركات والمؤسسات المعنية بدعم المهرجان ورسالته. وأيضا تخصيص كل امكانات التسويق والدعاية عبر الكثير من وسائل التواصل.

 

المدى العراقية في

08.11.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004