تأجيل المهرجانات السينمائية... لأنها إبادة ثقافية
عبد الكريم قادري
ما حدث ويحدث
حالياً في قطاع غزّة والضفة
الغربية مذبحة حقيقية، لا يُمكن غَضّ الطرف عنها، كأنّها غير موجودة لأنّ
مجرّد الانشغال عنها بمهرجانات كبيرة، أو أحداث معيّنة، تشجيعٌ ومشاركة في
تفاصيلها بطريقة ما. لذا، أرى أنّ إلغاء
المهرجانات السينمائية الكبرى في
العالم العربي، كـ"الجونة" و"القاهرة" و"قرطاج" وغيرها، قرارٌ صائب إلى حدّ
كبير، ويخدم الشعب الفلسطيني مع ما يتعرّض له من إبادة على أيدي المحتلّ
الإسرائيلي.
ففي حالة إقامتها، في ظلّ ما تناله من اهتمامات وتغطيات إعلامية، محلية
ودولية، سيتحوّل الأمر إلى تغطية واضحة على ما يرتكبه المحتلّ الإسرائيلي
من جرائم. كأنّنا نقول للعالم إنّ كلّ شيءٍ على ما يرام، وما يحدث في غزّة
مجرّد مناوشة بسيطة، لا تستحق منا الوقوف عندها، والتمعّن في تفاصيلها. كما
ستتقلّص المساحة من التغطية الإعلامية لمجازر المحتل، وبالتالي نساهم بشكل
واضح في تثبيت الرؤية الأخرى، التي تحاول التعامل مع الأمر كأنّه حدث عابر
لا يستحق الوقوف عنده، والتمعّن فيه بأي طريقة.
الأجدى والأهمّ للأقلام الصحافية، التي تنقل أخبار
المهرجانات، أنّ تتوجّه إلى ما يحدث، لأنّ قائمة الضحايا مرتفعة، والدموع
غزيرة، والدماء في كلّ زاوية، والأحزان والفَقَد أذاقت كلّ بيت غزّي
مرارتها. الأخطر من هذا كلّه، في حالة تنظيم مهرجان، أنّ مساحة التعاطف
العالمي ستنكمش، لأنّهم سيعتقدون أنْ لا شيء يحدث يستحقّ التنديد. الدليل:
مظاهر الفرح والرضا التي ستظهر في تلك المهرجانات المنظَّمة في رقعة
جغرافية عربية.
انطلاقاً من وجهة نظر سياسية، سيُشحن الرأي العام، محلياً
وعربياً، على الأنظمة السياسية، التي ستسمح بتنظيم المهرجانات. لأنّ
المواطن العادي سيرى الأمر من وجهة نظره الخاصة، التي تفيد بأنّها محاولة
واضحة للتغطية على المجازر، وستتوجّه مشاعر الكره إلى تلك الأنظمة، لأنّ
مُنطلقه الأساسي خلق مقارنات عملية من بيئته البسيطة. وسيرى الأمر كتنظيم
حفل زفاف فرد من عائلته، مع تحديد الموعد، ودفع معظم التكاليف. لكنْ، عندما
يحدث أمرٌ جلل في عائلته، سيتمّ إلغاء الزفاف، لأنّه إنْ لم يفعل، لن يلقى
منهم سوى النفور والابتعاد والمقاطعة، وسيجد نفسه وحيداً.
هذا معطى عملي ينطبق على الوضع الحالي بشكل كبير. بالتالي،
لن تجازف تلك الأنظمة في فتح أبواب جحيمٍ جديدة على نفسها.
أما بخصوص الدعوة إلى تقليص مساحة المهرجانات، وحصر الأمر
على العروض، مع إلغاء مظاهر الاحتفال، وتخصيص مساحة للسينما الفلسطينية،
فأعتقد أن هذا لا يصحّ أيضاً، لأنّه من جهة يسقط على الحدث صفته الكبرى،
التي يعتمد عليها، أي كلمة مهرجان بمعناها الواسع، انطلاقاً ممّا تحمله
الكلمة من معنى، ومن مظاهر احتفالية، إضافة إلى محو كلمة "الإلغاء"، التي
شكّلت خبراً ثقافياً رئيسياً في منابر إعلامية عالمية عدّة، لأنّ الصياغة
تتطلّب ذكر السبب، أي الحرب على قطاع غزّة والضفة الغربية. بالتالي، إنّ أي
محاولة في تقليص فعاليات المهرجان غير مُجدية إعلامياً، وفي خدمتها القضية
الفلسطينية بشكل آخر. إضافة إلى أنّ الأمر سيتحوّل إلى مجرّد عروض أفلام،
وهذا يُمكن أنْ يحدث يومياً، في أي قاعة سينما، أو موقع إنترنت، لأنّ
المهرجانات السينمائية تكتسب قوّتها وبريقها من برامجها المتكاملة
والمتراصة. كما أنّ قرار الإلغاء خبرٌ مهمّ، يوثّق حقبة زمنية دموية
للأجيال المستقبلية، لأنّه سيبقى حيّاً، وسيتمّ دائماً ربطه بالحرب على
فلسطين.
مهرجانات سينمائية، مُبرمجة في دول عربية، وجدت في قرار
الإلغاء فرصة مهمّة، مُقدّمة إليها على طبق من ذهب. خاصة تلك التي كانت
تعاني في الميزانية، وسوء التنظيم، كـ"أيام قرطاج السينمائية"، المُهدّدة
بالإلغاء، بعد فشلها الذريع في دورتها الـ33 (29 أكتوبر/تشرين الأول ـ 5
نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، برئاسة سنية الشامخي. لكنْ، بعد ضغط صنّاع
السينما، بُرمجت الدورة الـ34 (28 أكتوبر/تشرين الأول ـ 4 نوفمبر/تشرين
الثاني 2023) على مضض، خاصة أنّ تونس تعاني أزمة اقتصادية ومالية حادة،
وهذا سيشحن الرأي العام ويؤلّبه على النظام.
لكنْ، رغم هذا، كانت إدارة الـ"أيام" ماضية قدماً في
تنظيمها، بشكل أقلّ زخماً، فقط لإرضاء فئات مجتمعية معينة. ومع بداية الحرب
على فلسطين، وتزامن الـ"أيام" مع "مهرجان الجونة السينمائي"، وتطابقاً معه
بعد التأجيل، باتت الـ"أيام" مُهدّدة بالمحو. لذا، جاء الإلغاء، وقدّم خدمة
كبيرة للأطراف كلّها، رغم عدم رضا بعض المحسوبين على السينما في تونس.
هذا الإلغاء سيكون قراراً ثميناً لإعادة تحرير خطّ
الـ"أيام"، التي حادت عن الأهداف التي وضعها المؤسّسون: الاحتفاء بالسينما
العربية والأفريقية وصنّاعها. لكنْ، مع الدورات الأخيرة، أصبحت مرتعاً
لصنّاع السينما الفرنسية والأوروبية، وللمتعاطفين والمتعصّبين لها، ممن
ينظرون بدونيّةٍ إلى السينما العربية والأفريقية. كما تغلّبت المصالح
الشخصية على الخيارات المهنية للـ"أيام"، ما جعل الأضواء الكاشفة والمهمّة،
التي كانت مُسلّطة عليها، تضمحل وتتلاشى في كلّ مرة. عسى أنْ يكون الإلغاء
معطى إيجابياً لإعادتها إلى سكّتها الصحيحة، التي سطّرها السينمائي الطاهر
شريعة، ومن كانوا معه.
ليست "أيام قرطاج السينمائية" وحدها المستفيدة من قرار
الإلغاء. كلّ مهرجان يملك عيناً نقدية، وطموحاً للتطوّر، سيرى هذا الأمر
مناسبةً مهمّة للتطوير وإعادة قراءة الواقع والوقائع، كمهرجاني الجونة
والقاهرة. هذا ما حدث أيضاً مع "مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي"، الذي كانت
ستُنظّم دورته الرابعة بين الثالث والتاسع من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي،
رغم أنّ الفترة الزمنية الفاصلة بين تعيين المحافظ محمد علال وإجراءات
الفعاليات قصيرة، لا تسمح بتوسيع البرنامج، وتنويع الخيارات، وقنص أفلامٍ
مهمّة. كما أنّ توقيت التنظيم جاء في زحمة المهرجانات السينمائية العربية
الكبرى، وتقاطع مع أخرى. هذه معطيات كانت تهدّد الدورة الرابعة تلك، لذا
سيكون قرار الإلغاء فرصةً مهمّة لإعادة ضبط تاريخ التنظيم، وترتيب الأوراق
بشكل مُنسّق ومنضبط، والعمل بأريحية مطلقة. هناك من يرى أنّ أحسن فترة
لتنظيم المهرجان، ستكون فترة الصيف، أو بعد مهرجان "كانّ" بقليل، خاصةً أنّ
"عنابة" مدينة ساحلية، وأنّ تلك الفترة غير مزدحمة بالمهرجانات.
كما أنّه يُمكن لقرار الإلغاء أنْ يكون فرصة مهمّة
لمهرجانات سينمائية عدّة، لإعادة رسم أبعادها من ناحية التنظيم والتوجّه
والأيديولوجيا. فالعدوان الإسرائيلي على غزّة، وما يرتكب بحق أبنائها من
مجازر على مدار الساعة، شكّلت فرصة مهمّة لخلق هذه الأبعاد، خاصة أنّ هناك
مؤشّرات عدّة تدلّ على أنّ السينما الفلسطينية ستواجه أبواباً موصدة
مستقبلاً في المهرجانات السينمائية العالمية.
الروائية الفلسطينية عدنية شبلي حُرمت من جائزتها في "معرض
فرانكفورت للكتاب"، وهذا خير مثل على ازدواجية معايير العالم الغربي، الذي
حرمها من حقّها وجائزتها، لا لشيءٍ إلاّ لأنّها فلسطينية. كما سحبت إدارة
دار كريستيز لوحتين للفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي، كان مقرراً
بيعهما في مزاد الدار لفنون الشرق الأوسط الحديث والمعاصر، يوم التاسع من
نوفمبر/تشرين الثاني في لندن، وذلك بعد "سلسلة من الشكاوى حول هذين
العملين". ونشر "آرت نت" رسائل متبادلة بين دار كريستيز وصاحب إحدى
اللوحتين، تشير إلى سحب اللوحتين بعد شكاوى، من دون الكشف عن طبيعة هذه
الشكاوى. وفي بيان عقب عمليات الإزالة، صرحت دار المزادات: "تظل القرارات
المتعلقة بالمبيعات سرية بين كريستيز والوسطاء". وهذا سيحدث، وسنسمع عنه
كثيراً في فضاءات السينما. لذا، وَجَب على مهرجانات العالم العربي أن تصنع
بصمتها الخاصة، وتحتفي بأبنائها لمواجهة الصَدّ والإبعاد. |