على عبدالخالق صانع الحب والحرب والبهجة
كتب نسرين الزيات
منذ الصغر، كان حلمه أن يصير مخرجًا، تأثر بسينما «ألفريد
هتشكوك»، بينما حبه لأفلام المخرج «عز الدين ذو الفقار» جعله مولعًا
بالسينما.. جاء المخرج «على عبدالخالق» –الذى رحل فى الثانى من سبتمبر
الجاري- من أسرة متوسطة، كانت مهتمة بالثقافة والأدب، وأيضًا السينما.
عقب تخرجه من مرحلة الثانوية، قرر الشاب «على عبدالخالق»
دراسة السينما، وبالفعل تخرج منها قبل عام واحد من النكسة
(1966).
لم يكن الطريق ممهدًا فى السينما، مثل الكثيرين من أبناء
جيله، لم تكن لديه الفرصة فى العمل بسهولة فى مجال السينما، فالمحظوظ منهم
قد يعمل مساعد مخرج لكبار الأساتذة وكان وقتها يعتبر انتصارًا كبيرًا.
استمر حلمه بأن يصير مخرجًا، ويصنع أفلامًا لا ينساها
الجمهور، وتظل على قيد الحياة.. ظل «عبدالخالق» خمسة أعوام لكى ينجز فيلمه
الروائى الطويل الأول (أغنية على الممر) عام 1972، والذى تم تصنيفه ضمن
قائمة أهم مائة فيلم فى تاريخ السينما المصرية.
كان رجلًا دمث الخلق، لم يهاجم أى أحد، فى الوقت الذى كان
البعض من جيله دائم الهجوم على الأساتذة.. لم يعتد «عبدالخالق» على خلق
حروب ورد الإساءة أو النقد السلبى على أى من أفلامه. من بين الحكايات التى
يعرفها أبناء جيله، أن المخرج «حسن الإمام» كان قد شن هجومًا على فيلمه
(أغنية على الممر) وقتها كان «على» شابًا لم يبلغ الثلاثين من عمره.. وقد
التزم الصمت لما يقرب من عشرين عامًا، إلى أن قدم فيلمه (مدافن مفروشة
للإيجار) وللمرة الأولى تتصدر صورة المخرج حسن الإمام أفيش الفيلم.. كان
ذلك ردًا للسخرية من جيل لم يتذوق مرارة الهزيمة.
ما
بعد النكسة.. وجماعة السينما الجديدة
عقب النكسة، كان مثل غيره من رفقاء جيله، فى حالة من الصدمة
والغضب، ظل خمسة أعوام لكى يصنع رائعته (أغنية على الممر) والذى استغرق
تصويره عامين، وخلال الخمسة أعوام عقب التخرج من معهد السينما، والشعور
بالهزيمة، خلق حالة من الغضب والإحباط، لذا كان من الصعب -وقتها- التعبير
عن تلك الأفكار فى صور سينمائية، وقتها صنع عبدالخالق عددًا من الأفلام
التسجيلية منها (السويس مدينتى)، والذى نال الجائزة الكبرى فى مهرجان
«فيرساى للأفلام العسكرية» وقتها كان عبدالخالق شديد الفخر والسعادة، وفى
رصيد أفلامه التسجيلية صنع 17 فيلمًا، أنجزها على فترات وسنوات خلال فترة
عمله على أفلامه الروائية الطويلة.
عقب عام من نكسة 67، قام المخرج «على عبدالخالق» وعدد من
أبناء جيله مثل: رأفت الميهى، وخيرى بشارة، ومحمد خان، وداوود عبدالسيد،
بتأسيس جماعة السينما الجديدة عام 1968، وكان الهدف منها الرغبة فى إعادة
توزيع ميزانية مؤسسة السينما، ليحصل الجيل الجديد من السينمائيين على فرصة
لعمل أفلامهم. ضمّت جماعة السينما الجديدة والتى كان «عبدالخالق» من
روادها، مخرجين شبان فى ذاك الوقت لم ينجزوا أفلامهم الأولى الطويلة. وكان
أول إنتاج جماعة السينما الجديدة التى خرجت للنور هو فيلم (أغنية على
الممر).
فى لقاء كان قد أجراه «عبدالخالق» قبل أشهر من وفاته
لـ«روزا اليوسف» قال عن هذا الفيلم، إنه من أهم أفلامه وأكثر ما يعتز به فى
تاريخى السينمائى، وقد جاءت فكرته بسبب الاستفزاز العالمى فى هذا الوقت بعد
حرب 67، فالجيل الذى حضر هذه النكسة شعر بالمرارة الشديدة، فقد كان الجيل
كله مؤمنا بالزعيم الراحل عبدالناصر الذى يعيش فى قلوبنا حتى الآن، وقد
جاءت فكرة الفيلم حينما شاهد على غلاف مجلة التايم الإنجليزية صورة تصور
مصر صحراء وبها جندى مصرى عار، لتصور هزيمتنا أمام الجيش الإسرائيلى، ففكر
فى تقديم عمل يوضح الحقيقة ويؤكد أن الجيش المصرى لا يهرب أبدًا وجنوده
نموذج للبطولة والبسالة على مر العصور ولديه بطولات عظيمة لابد من تجسيدها.
من
الهزيمة إلى سينما الواقعية
كان لدى المخرج «على عبدالخالق» مفهومًا مختلفًا عن
الواقعية فى السينما، تحدث عنه فى لقاء تليفزيونى نهاية الثمانينيات فقال:
«الواقعية ليست أن تقوم كمخرج بتصوير الحارة الشعبية، لكن يجب أن يكون
حقيقيًا، ويهم عددًا كبيرًا من جمهور السينما، ويخاطب عقول جميع الطبقات
الاجتماعية المختلفة فى مصر.. لا يوجد افتعال، بمعنى آخر لا يحمل فيه
التركيبات الدرامية غير المنطقية والمعقدة للشخصيات.. فكلما كان الفن
جيدًا، وقريبًا للجمهور كلما كان أكثر واقعية».
فى فترة الثمانينيات والذى كانت أعماله السينمائية أكثر
كثافة، ركز «عبدالخالق» على صناعة أفلام تناقش قضايا اجتماعية تشغل الناس،
وتعكس واقعًا ملموسًا لما كان يشغل المجتمع المصرى فى ذلك الوقت. بالإضافة
للتغييرات التى طرأت على المجتمع عقب الانفتاح الاقتصادى، والتى ظهرت بشكل
واضح فى فيلم (الحب وحده لا يكفى) 1980، وكذلك الفيلم الذى ناقش وقتها أزمة
السكن (مدافن مفروشة للإيجار) عام 1986. لكن نجد معظم أفلامه مغلفة بطابع
الكوميديا السوداء.
ومن بين القضايا التى كانت تشغله فى فترة الثمانينيات،
تجارة المخدرات وتأثيرها على الشباب والمجتمع وجاء ذلك فى فيلم (الوحل) عام
1987، والبيروقراطية التى تواجه المواطنين فى منظومة العمل الحكومية فى
فيلم (أربعة فى مهمة رسمية) عام 1987. وكان «على عبدالخالق» من أوائل
المخرجين الذين ناقشوا قضية سرقة الأعضاء البشرية، وقدم تلك القضية فى فيلم
(الحقونا) عام 1689، وفى نفس العام ناقش قضية التحرش بالفتيات فى الشارع
المصرى، فى فيلم (اغتصاب) عام 1689، وفى فيلم (البيضة والحجر) عام 1990 قدم
الصراع الذى كان سائدًا لفترة طويلة ولايزال حتى الآن هو الصراع بين الدجل
والخرافات مقابل العلم والمنطق.
هذا النوع من تناول مثل هذه القضايا فى سينما «على
عبدالخالق»، ساعد كثيرًا فى غلق المسافات بين الجمهور وصانع الفيلم، بقربه
بجدية وخفة من واقعهم الذين يعيشون فيه. وهذا ما جعل «عبدالخالق» واحدًا من
أهم مخرجى جيل سينما الواقعية الجديدة.
من الأفلام التجارية إلى ثلاثية الأخلاق
فترة الثمانينيات كانت بمثابة الانطلاقة السينمائية
الحقيقية للمخرج «على عبدالخالق». قدم فيها عددًا كبيرًا من الأفلام التى
تناقش الحرب والجاسوسية والصراعات السياسية التى أعقبت حرب أكتوبر مثل فيلم
(إعدام ميت) عام 1985، و(بئر الخيانة) عام 1987، والذى ناقش فيه عن قرب
قصصًا حقيقية منها واحدة من واقع سجلات المخابرات المصرية.
أما ثلاثية (العار، الكيف، وجرى الوحوش) فهى الثلاثية
السينمائية الشهيرة فى فترة الثمانينيات، أفلام مغلفة بصورة احترافية
عالية، منسوجة بذكاء الحس التجارى، وبها محاولة لكسر جدية القضايا التى
يناقشها.
فى تلك الفترة، أطلق النقاد على تلك الأفلام الأشهر والأهم
التى قدمها «على عبدالخالق» ثلاثية الأخلاق، والتى ركز فيها على مفهوم
الحلال والحرام، الممنوع والمرغوب، والنتيجة لأبطال شخصياته تكون الجنون،
وهو ما يعتبر إسقاطًا غير مباشر على الوضع الاجتماعى فى مصر، وانهياراته
النفسية والاجتماعية.
هكذا كانت سينما «على عبدالخالق»، وحتى الآن لا يمكن نسيان
أى من أفلامه، التى مهما تكرر عرضها بعد سنوات على شاشات التليفزيون، إلا
أننا جميعًا، نجلس متربصين أمام الشاشة، نشاهد سينماه بكامل الشغف، وكأنها
المرة الأولى. |