علي عبد الخالق: مخرج الإجابات الواضحة
عصام زكريا
كان السؤال الأول الذي تردد بعد رحيل المخرج علي عبد الخالق
(9 يونيو 1944- 2 سبتمبر 2022)، إن كان نال ما يستحقه من تقدير وتقييم،
مقارنة بغيره من المخرجين الذين اهتمت المهرجانات والنقاد بأعمالهم.
جاءت الإجابة قاطعة، ظُلم علي عبد الخالق ولم ينل ما يستحق.
واتهم البعض النقاد بالانحياز أو سوء التقدير، وراح غيرهم ينال من أسماء
مخرجين آخرين حظوا بالتقدير النقدي وجوائز المهرجانات الدولية والمحلية،
وكأنّ الفن مباراة كرة قدم تنتهي بالفوز أو الهزيمة يديرها حكام مطعون في
ذمتهم.
هذا النوع من الرثاء العاطفي قد ينصف الراحلين إلى حد ما،
على نحو مؤقت، لكنه لا يحل أو يربط، ويؤدي أحيانًا إلى ظلم وانحياز من نوع
آخر، والأكثر أنه لا يساعد على فهم قيمة هؤلاء الراحلين، أو طبيعة المجال
السينمائي وتعقيداته.
من معطف الهزيمة
علي عبد الخالق مخرج كبير ومتميز بالتأكيد، غير أن سمة
"الإجابات الواضحة" طغت على كثير من أعماله، وواجبنا أن نحلل ونقيم أفلامه
لنضعها في مكانها الصحيح على رفوف تاريخ الفن السينمائي.
خرج علي من معطف هزيمة 1967، ضمن جيل من المحبطين الغاضبين
كان لهم أن يغيروا شكل السينما المصرية. أسفرت الموجة الأولى منهم عن تأسيس
أول وآخر "جماعة سينمائية سياسية" في مصر، وهي جماعة السينما الجديدة التي
ضمت رأفت الميهي، وفؤاد التهامي، وممدوح شكري، ومحمد راضي، وأحمد متولي،
وسامي السلاموني، وغالب شعث، وغيرهم. وتأسست 1968 وكان أول نتائجها فيلم أغنية
على الممر (1972)،
أول أفلام عبد الخالق الروائية.
قبل ذلك بخمس سنوات تخرج عبد الخالق ضمن أول دفعة لمعهد
السينما 1966، ثمّ عيّن في هيئة الثقافة الجماهيرية، الوليدة حديثًا آنذاك،
فبدأ حياته المهنية كمُنشط ثقافي يصطحب الأفلام لعرضها في القرى والنجوع
لشعب كانت أحلامه وطموحاته تناطح السحاب، قبل أن يستيقظ فجأة على نكسة
الهزيمة المروعة.
مثل كثيرين من السينمائيين الشباب رفض عبد الخالق الهزيمة
وأصر على المقاومة. بعد الهزيمة بأسابيع كان في السويس مع مدير التصوير
رجائي عتيق ليصنع أول أفلامه التسجيلية السويس مدينتي.
وفي 1969 صنع فيلمه الثاني رشيد عن مدينة أخرى اشتهرت بالبسالة والمقاومة.
من المدهش والعجيب أن شباب ذلك الجيل عشقوا قائدهم المهزوم
حدّ العبادة، وتجسد ذلك في فيلم عبد الخالق الوثائقي الثالث أنشودة الوداع (1970)،
عن رحيل عبد الناصر، الذي حقق نجاحًا كبيرًا في المهرجانات المحلية
والدولية وفاز بالجائزة الثانية من مهرجان لايبزج في ألمانيا، أكبر مهرجان
للسينما التسجيلية في العالم.
أكبر من النجاح
كان أغنية على الممر، كما أسلفنا أول ثمار الجماعة الجديدة،
عمل يعبر ليس فقط عن عبد الخالق لكن عن زملائه أيضًا، كما ظهر في أعمالهم
اللاحقة مثل أبناء الصمت لمحمد راضي والظلال على الجانب الآخر وزائر
الفجر لممدوح شكري وغيرها.
حقق أغنية على الممر شيئًا أكبر من النجاح الجماهيري، وهو
التأثير. كان الجمهور يخرج من الفيلم باكيًا يغني "وتعيشي يا ضحكة مصر"،
حتى أن الجيش الذي سبق وأجرّ معداته لصناع الفيلم، أعاد قيمة الإيجار بقرار
من وزير الدفاع آنذاك، وتم حجز بعض الحفلات في دار العرض ليحضرها الجنود
والضباط، قبل أن تتحول زيارات هؤلاء الجنود في الثمانينيات من السينما إلى
ملاعب كرة القدم لتشجيع الفرق المصرية.
ويروي مدير التصوير سعيد شيمي في كتابه حكايات
مصور سينما، أنه أثناء تصوير فيلم عبد الخالق في سوريا أوقفهم الجيش وحقق
معهم، لكن عندما علم الضابط السوري بأن عبد الخالق مخرج أغنية على
الممر تغيرت المعاملة تمامًا، ورحبّ بهم وسهّل عملهم.
حيرة الانتصار
بعد الانتصار وجد ذلك الجيل نفسه حائرًا، ربما أكثر من
حيرته عقب الهزيمة. بداية من النصف الثاني للسبعينيات حتى بداية
الثمانينيات أخرج عبد الخالق أفلامًا عاطفية ميلودرامية راجت وقتها، وهي
أفلام متوسطة القيمة والنجاح. لكن مع التحول الذي شهدته السينما المصرية
باتجاه الواقعية ومناقشة القضايا الاجتماعية، صنع فيلم العار (1982)
الذي كتب له أن يكون واحدًا من أنجح الأفلام تجاريًا ونقديًا، وبداية مرحلة
ثالثة من مسيرته الفنية، شهدت أفضل وأنجح أعماله.
توفر لـ العار كاتب سيناريو موهوب هو محمود أبو زيد، زميل
دفعة عبد الخالق في معهد السينما، الذي يتميز ببراعة الحوار، وتوليف قصص
شبيهة بالحكايات الشعبية ذات المغزى الأخلاقي والتعليمي.
توفر للفيلم أيضًا فريق من الممثلين النجوم الذين يلتقون
لأول مرة معًا: نور الشريف، ومحمود عبد العزيز، وحسين فهمي. واستطاع عبد
الخالق مع شيمي أن يصيغا لغة بصرية "شعبية" تتناسب مع طبيعة الموضوع
والدراما، فكل شيء مشدد وتحته خط، ويصل الصراع إلى أقصى حدوده الممكنة،
الموت والجنون.
بعد النجاح الكبير الذي حققه العار عاد الثنائي عبد الخالق
وأبو زيد للعمل معًا في ثلاثة أفلام هي الكيف، وجري الوحوش، والبيضة
والحجر، وحققت النجاح بدرجات متفاوتة، لم يصل أحدها إلى ما حققه العار من
اتفاق جماهيري ونقدي، لكنها على نحو عام تعد، مع أغنية على الممر والعار،
أفضل أعماله.
صدى الأغنية الخافت
بالتزامن مع هذه الأعمال واصل عبد الخالق صنع أفلام متواضعة
ومتوسطة، وسلك خطًا آخر حاول أن يكون امتدادًا لأغنيته الوطنية الأولى،
كأفلام المخابرات والحرب، إعدام
ميت، بئر
الخيانة، الكافير ويوم
الكرامة، بالتزامن مع أفلام ونوعيات
أخرى، منها فيلم "زاعق" عن الجماعات الإرهابية بعنوان الناجون
من النار، وأعمال تجارية من بطولة
نادية الجندي ونبيلة عبيد وسمية الخشاب وهاني رمزي.
في هذه المسيرة التي تضم نحو أربعين فيلمًا يصعب أن تجد
قوامًا موحدًا أو أسلوبًا أو رؤية اجتماعية وفلسفية تجمعها، لكنها خليط غير
متجانس من أنواع ووجهات نظر ومستويات فنية متراوحة.
وعامة كان عبد الخالق في أفضل حالاته كمخرج عندما يحمل
الفيلم "إجابة": ضرورة المقاومة، التمسك بالأخلاق، التخلي عن الجشع، عدم
الاعتماد على العلم على حساب الدين..إلخ. وفي معظم الأحوال كانت هذه
"الإجابات" ذات طبيعة محافظة، كما يظهر في جري الوحوش مثلًا الذي يتخذ من
العلم موقفًا "شعبويًا" معاديًا.
الذين يكثرون الحديث عن المهرجانات والجوائز الدولية
"الظالمة" لا ينتبهون عادة لأهمية الأسلوب الخاص للمخرج واللغة الشاعرية
للفيلم، لأنّ المسألة ليست حرفية وتقنية فحسب. كما أنهم لا ينتبهون عادة
إلى أن النقاد ولجان تحكيم المهرجانات والجمهور صاحب الذائقة المدربة
والمصقولة، إنّما يميلون إلى الأعمال التي تطرح أسئلة أكثر من الأعمال التي
تطرح إجابات جاهزة، وإلى الأعمال التي تناقش "البديهيات" أكثر من الأعمال
التي تؤمن بحقائق مطلقة.
ينتمي عبد الخالق إلى أصحاب الإجابات الواضحة والقناعات
الجاهزة، وأنجح أفلامه هي التي تتوجه إلى الجمهور بإجابات لا لبس فكري ولا
التباس فني فيها، وتلتقي فيها قناعاته وأسلوبه بموضوع مناسب. لكن هذا لم
يحدث كثيرًا، فبعض أعماله أيضًا لا يحمل إجابات ولا أسئلة، وهي مجرد
"تعليب" لمنتجات السوق السينمائي والتليفزيوني التجارية، وبعضها تكرار فاتر
لإجابات سبق قولها في قصص وسيناريوهات أفضل.
في النهاية يبقى من عبد الخالق أعماله الممتلئة بالدراما
والعواطف الساخنة والشخصيات الممتلئة بالطاقة والممثلين الممتلئين
بالحيوية، والتمثيل الذي يميل إلى الأداء مرتفع الصوت والإيماءات، والحوار
المشبع بالحكمة و الإيفيهات.
هذه الأعمال التي تبرز قدرته على صياغة واستخدام لغة
سينمائية "مصرية" تناسب الذوق الشعبي، تعتمد على "بروزة" الصراع الدرامي
داخل كادرات محكمة التكوين، من زوايا تميل إلى الانحراف أفقيًا أو رأسيًا،
وأفضلها ما يلتقي فيها ذلك الأسلوب مع موضوع وسيناريو مناسب، يميل إلى
الحماسة والنزعة الإرشادية أو التربوية.. تلك الأعمال التي لبت حاجة
المشاهدين إلى إجابات وطنية أو اجتماعية واضحة في أوقات الشدة والأزمة. |