على عبدالخالق مخرج متعدد الأنغام عابر للتصنيف
طارق الشناوي
عندما قدم أول أفلامه (أغنية ع الممر) عام 1972 باكورة
إنتاج ما كان يعرف بـ(جماعة السينما الجديدة) سخر المخرج الكبير حسن الإمام
من الفيلم قائلا لماذا لم يغير اسمه إلى (أغنية ع المُر)؟، وبرغم أن
عبدالخالق وقتها لم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره، فلم تأخذه حمية الشباب فى
الرد، ترك المسؤولية للشريط السينمائى الذى حصل على أكثر من جائزة فى
المهرجانات التى مثل فيها السينما المصرية مثل (كارلوفيفارى) و(طشقند)،
ولايزال الفيلم قادرا حتى الآن على الدفاع عن نفسه وعن السينما المصرية.
تفهم على عبدالخالق دوافع أستاذه حسن الإمام، الذى كان
يدافع ليس فقط عن حسن الإمام، ولكن عن جيل وجد نفسه بعد هزيمة 67 تحت مرمى
نيران المتطاولون على تاريخهم المرصع بعشرات من الأيقونات السينمائية،
وكثيرا ما كانوا يعتبرون أفلامهم أهم أسباب ما أطلقنا عليها على سبيل
التخفيف (نكسة).
بعض المخرجين والنقاد ممن ينتمون إلى (جماعة السينما
الجديدة)، كان يحلو لهم فتح النيران على الأساتذة الكبار، وحسن الإمام،
بطبيعة تكوينه الشخصى، لا يتورع عن الدخول فى معارك، لو اقترب منه أو جيله
أحد، كما أن حسن الإمام كان يقصد ما هو أبعد من مجرد السخرية، يريد توجيه
نصيحة، يعتبرها أساسية فى الشريط السينمائى، من الممكن إيجازها بضرورة أن
يتخلل العمل الفنى، مهما بلغت جدية القضية التى يتناولها ملمحا مبهجا،
التزم عبدالخالق، بالصمت، متأملا ما وراء سخرية الأستاذ، ولم يفعل مثل بعض
من ينتمون إلى جيله فى مواصلة الهجوم على أكثر مخرج جماهيرى عرفته السينما
العربية قاطبة، ولهذا أطلقوا عليه لقب صار لصيقا به (مخرج الروائع).
بعد مرور نحو 12 عاما على سخرية حسن الإمام، قرر عبدالخالق
أن يسند إليه بطولة فيلمه الاجتماعى (مدافن مفروشة للإيجار) مع محمود ياسين
ونجلاء فتحى، وكانت صورة الإمام تتصدر (أفيش) و(تترات) الفيلم.
عادة ما يرتبط المخرج بنوعية محددة من الأفلام، عبدالخالق
مخرج متعدد الأنغام الدرامية عابر للتصنيف، قدم كل النوعيات، حتى الكوميديا
والفانتازيا، ناهيك عن تلك التوأمة الفنية التى جمعته مع رفيق الرحلة
الكاتب الكبير الراحل محمود أبوزيد فى ثلاثية (العار) و(الكيف)، (جرى
الوحوش)، ويلحق بها أيضا فى نفس السياق (البيضة والحجر) و(عتبة الستات)،
لتصبح خماسية، حيث تلمح فى الشريط السينمائى اتساعا للدائرة الجماهيرية، مع
رؤية أخلاقية تسيطر على ملامح الفيلم، ولا يخلو الأمر من رؤية كوميدية.
محمود أبوزيد من كتاب السيناريو الذين لديهم سطوة طاغية على
العمل الفنى، يمنح الشريط رائحة مميزة، دائما لديه رسالة فيها الكثير من
الموعظة الحسنة، يمررها داخل نسيج السيناريو، فهو صاحب أشهر عبارة التصقت
بالحشيش فى الثقافة المصرية (إذا كان حلال أدينا بنشربه، وإذا كان حرام
أدينا بنحرقه)، عبدالخالق من هؤلاء القادرين على تقمص روح الكاتب، وهكذا
نجح فى التعبير عن عالم أبوزيد برؤية بصرية عميقة، وفى مثل هذه الأمور إذا
لم يمتلك المخرج تلك المرونة فى التلون الإبداعى تشعر على الفور بتناقض بين
المكتوب والمرئى.
ستجد أيضا أن أفلام الكاتب الراحل إبراهيم مسعود الذى
يستلهم قصصا عديدة من أوراق المخابرات، احتلت مساحة مميزة على خريطة
عبدالخالق، مثل (إعدام ميت) و(بئر الخيانة)، وهناك أفلام أقل إبداعا مثل
(الكافير)، إلا أن على عبدالخالق من هؤلاء الذى يطبقون فى علاقتهم بالسينما
مبدأ المخرج الكبير هنرى بركات الذى يجيد التعامل مع كل النوعيات، بركات
كان يقدم (دعاء الكروان) و(الحرام) و(الخيط الرفيع) وغيرها، وفى نفس الوقت
تجد على خريطته أفلاما مثل (العسكرى شبراوى)، وهكذا عبدالخالق أحيانا تجده
يتألق محلقا مع سينما مثل (أغنية ع الممر)، إلا انه لا ينسى أبدأ أنه كمخرج
حرفى عليه أن يقدم أيضا فيلما قليل الطموح الفنى مثل (راندفو).
فى فيلمه الروائى الأخير (ظاظا) عام 2006 والذى كان يحمل فى
البداية اسم (ظاظا رئيس جمهورية) بطولة هانى رمزى وكمال الشناوى تأليف طارق
عبدالجليل قدم قالب (الفانتازيا)، وهو يحمل نقدا سياسيا بقدر ما تسمح به
الرقابة، وهكذا شاهدنا تلك الرؤية التجريدية التى تنضح بنقد لاذع، فى
اللازمان واللامكان، وهو لون مغاير لما تعود عليه، وقبلها ستجد على خريطته
الفيلم الكوميدى (بونو بونو) بطولة نادية الجندى.
حاول عبدالخالق أن يجد مساحة له مع جمهور الألفية الثالثة،
بعد أن أدرك تغييرا حادا فى أمزجة جمهور السينما، ولهذا ذهب للتليفزيون مثل
عدد كبير من المخرجين الكبار عندما ضاقت أمامهم المساحة المتاحة على الشاشة
الكبيرة، وذلك مع بزوغ عدد من المخرجين الشباب صاروا هم الأكثر طلبا، وهكذا
وجه البوصلة إلى مسلسلات تليفزيونية مثل (البوابة) و(نجمة الجماهير) ليظل
على الخريطة.
قطعا ستلمح تباينا فى المستوى، وهو ما تجده أيضا مع عدد من
الكبار مثل المخرجين أشرف فهمى، وحسين كمال، وسعيد مرزوق، لا أتصور أن على
عبدالخالق كان راضيا مثلا عن فيلم مثل (يوم الكرامة) أو (الناجون من
النار)، إلا أنه أيضا عانى دون جدوى فى انتظار سيناريو جيد، يعيده للسينما.
فى السنوات الأخيرة كان يتردد داخل الكواليس معاناة
عبدالخالق من المرض الشرس، وأنفق فى صمت ورضا كل مدخراته، رافضا تماما أن
يتبرع أحد بتكاليف العلاج، انتظر فقط أن تتحرك الدولة، وجاء القرار قبل
أسابيع قليلة بعلاجه، إلا أن المرض الشرس كان قد تمكن منه.
هل منحنا مخرجنا الكبير ما يستحقه من حفاوة وتقدير على قدر
إنجازه عبر نصف قرن؟ يقينا لا، لم يحصل مثلا على جائزة الدولة التقديرية
برغم كل هذا العطاء.
قبل نحو شهر تواصلت معه تليفونيا وكانت مكالمة دافئة، وجدته
قويا ومتماسكا، وشامخا، ورحل وهو مرفوع الرأس تسبقه العديد من إنجازاته،
التى كانت وستظل قادرة على أن تذكرنا بأنه كان يعيش بيننا مخرجا كبيرا، لم
يكن يجيد تسويق نفسه إعلاميا، وظل حتى اللحظة الأخيرة (نبض عروقه
كبرياء)!!. |