اختار القائمون على الدورة الحادية عشرة لمهرجان مالمو
للسينما العربية فيلم "الرجل الذي باع جلده" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية
أن يكون فيلم الافتتاح وهو يستحق ذلك بجدارة كبيرة لما ينطوي عليه من
مضامين فكرية وفنية وإنسانية تؤهله لأن يكون في موضع الفيلم المُحتفى به
الذي يثير لدى المتلقين العديد من الأسئلة العصيّة والجريئة والشجاعة التي
تفتقر إليها في الزمن الذي تتغوّل فيه سلطات الأنظمة العربية وتزداد توحشًا
يومًا بعد يوم.
تسعى المخرجة التونسية كوثر بن هنية إلى خلق أسطورتها
الخاصة، فهي لا تتكئ على الماضي ولا تعود إليه. وبدلاً من أن تقول:"كان يا
مكان في قديم الزمان" تلتفت إلى الزمن الحاضر، وتحدّد المكان من دون خوف أو
وجل لتقول:"كان هنا لاجئ سوري غادر وطنه إلى بيروت بسبب الحرب المشتعلة كي
يلتقي بحبيبته عبير. وبعد أن باع ظهره، وحوّل جلدهُ إلى كانفاس حيِّ متنقلّ
يُعرض أمام الجمهور فقد حريته. وحينما حصل على المال ووصل إلى بلجيكا وجد
أنّ حبيبته عبير قد تزوجت!". ينطوي هذا الفيلم على قدرٍ كبير من التشويق،
والإثارة، وسلاسة السرد، وحيوية الثيمة الحسّاسة التي تهزّ المتلقي ولا
تدعهُ يشعر بالملل أو الضجر وذلك لهول الصدمة التي تفرض حضورها على مدار
الفيلم الذي بلغت مدته 104 دقائق.
استدعاء المخيّلة للنص الغائب
قد تبدو قصص الحُب، والهروب من الأنظمة القمعية، وطلب
اللجوء في البلدان الأوروبية عادية ومألوفة ما لم تسعفها تقنية جديدة،
ومعالجة فنية غير مطروقة من قبل. وفيلم "الرجل الذي باع ظهره" لكوثر بن
هنية يعتمد في بنيته الداخلية وهيكله المعماري العام على "النص البصري
الموازي" أو "النص الغائب" الذي نفّذه الفنان الأمريكي جيفري غودفروي على
ظهر اللاجئ السوري سام علي بعد أن تعاقد معه على شراء ظهره واستعماله كأي
سطح تصويري "حيّ" مقابل حصوله على تأشيرة شنغن التي تسمح له بحرية الحركة
في غالبية الدول الأوروبية المنضوية تحت شروط هذه الاتفاقية. هذا العمل
الفني الحيّ الذي نقشه الفنان جيفري غودفروي على ظهر سام علي يُحيلنا
مباشرة إلى العمل الفني الذي نفّذه الفنان البلجيكي فيم ديلفويَ على ظهر
المواطن السويسري تيم شتاينر الذي اقتناه تاجر الأعمال الفنية الألماني
ريك ريّنكنغ ودفع له ثلث ثمن العمل الذي بلغت قيمته 130 ألف يورو، وسوف
يظل جسد شتاينر إطارًا لهذا العمل الفني، وحينما يموت يُسلَخ جلده للاحتفاظ
بالعمل الفني الثمين الذي يعود لممتلكات ريّنكنغ.
فاوست باع روحه للشيطان من أجل المعرفة المطلقة
لا تكتمل هذه السردية البصرية ما لم نتذكر العقد الذي أبرمه
الدكتور يوهان فاوست مع الشيطان وسلّم له روحه مقابل الحصول على المعرفة
المطلقة والملذات الدنيوية. وأكثر من ذلك فإن المخرجة شحنت تضاعيف الفيلم
وبعض مَشاهده بطاقة فلسفية إذ تحوّل هذا اللاجئ السوري إلى سلعة باهضة
الثمن يتاجر بها الأوروبيون الأثرياء من جامعي التحف، والأنتيكات، والأعمال
الفنية الغريبة. وإضافة إلى التشيؤ والتسليع يطرح الفيلم سؤال الحرية الذي
نفتقده في عالمنا العربي الذي تقسّمهُ الحدود المصطنعة، وتقيّدهُ
التأشيرات التي دفعت الشخصية الرئيسة في هذا الفيلم لأن يكون شيئًا أو
سلعة قابلة للبيع والشراء من دون النظر إلى كرامة الإنسان، وقدسيته ككائن
بشري ينبغي أن يحظى بأعلى درجات الاحترام،ويعيش حياة كريمة لا يحتاج فيها
أن يبيع روحه للشيطان، وجسده لتجّار التحف الفنية.
لم يأتِ الفنان المفاهيمي البلجيكي فيم ديلفويَ بفكرة النقش
على أجساد البشر والحيوانات من عندياته وإنما استوحاها من الفن الياباني
الذين يرسمون فيه على جلود البشر ثم يسلخونها بعد مماتهم ويحوّلون هذه
الجلود إلى سطوح تصويرية مسطحة تمامًا بفعل المعالجة التقنية المتطورة.
تسير أحداث ووقائع هذا الفيلم على وفق خطٍ زمني مستقيم
يركِّز، بادئ ذي بدء، على شخصية البطل سام علي الذي جسّده الممثل السوري
الشاب يحيى مهايني بكثير من المهنية والتوهّج والإتقان الأمر الذي دفع لجنة
التحكيم في الدورة السابعة والسبعين لمهرجان البندقية لمنحه جائزة أفضل
ممثل لتقمصه هذا الدور وتألقه فيه.
استعباد الإنسان من جديد بواسطة الفن المعاصر
تعود بنا الأحداث إلى انتفاضة الشعب السوري عام 2011 وسعي
الشباب الثائر إلى تحقيق حرية المواطن السوري مما يعرّض البطل إلى
الاستجواب والسجن والتعذيب حيث تنطلق بداية الأحداث من زنزانة يخرج منها
سام علي ليبحث عن طريقة ما للنفاذ بجلده، فتوصله شقيقته إلى الحدود
اللبنانية ثم يتسلل إلى بيروت التي تحتضنه بطريقة ما وتوفر له فرصة لارتياد
صالات الفن التشكيلي التي تقدّم الطعام والشراب مجانًا لروّادها وزبائنها.
وهناك يحدث ما لم يكن يتوقعه حتى في الخيال، إذ يلتقي بالفنان جيفري
غودفروي ويعقد معه اتفاقًا غريبًا وصادمًا وهو نقش تأشيرة شينغن على ظهره
تتيح له التنقّل والتجوال في غالبية الدول الأوروبية لكن هذه الاتفاقية سوف
تأخذنا إلى فكرة استعباد الإنسان من جديد بواسطة الفن، ومع ذلك يوافق سام
على هذه الفكرة من دون أن يخبر أحدًا من أهله وذويه، كما يخبّئ هذا الخبر
الصادم عن حبيبته عبير ويكتفي بالقول بأنه قد وجدًا عملاً في أحد صالات
الفن التشكيلي الذي يدّر عليه بمبالغ مادية جيدة لكن هذا الأمر سيؤلب بعض
السوريين الذين يرون في هذا العمل إهانة لسمعة سوريا، وازدراءً لإنسانية
المواطن السوري.
الحضور الآسر للنجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي
يُعدّ وجود النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي عامل دفع،
وعنصر قوة في هذا الفيلم فهي التي تلتقي سام علي في الغاليري وتقترح عليه
أن تزوده بالطعام والشراب المجاني، ثم تكمل معه اشتراطات الاتفاقية بوصفها
المسؤولة عن هذا المعرض الذي ترّوج للوحاته وتبيعها لجامعي التحف والأعمال
الفنية النادرة. وقد أضفى حضورها متعة جميلة وآسرة في مَشاهد غير قليلة من
الفيلم. أما عبير التي كانت تنتظر منه أن يتقدّم لخطبتها قد فقدت الأمل
لأنه تأخر بعض الشيء الأمر الذي دفعها للموافقة على قبول الزواج من
دبلوماسي سوري بعد أن يئست من سام علي الذي كانت تتلاعب به الأقدار.
البعض لا يعتبر التاتو عملاً فنيًا
يأخذ الفيلم مسارات سردية متعددة تبدأ من موافقة سام علي
على مشروع غودفروي بنقش تأشيرة شينغن على ظهره لنكتشف عبودية جديدة من
نوعها اسمها عبودية الفن المعاصر في القرن الحادي والعشرين التي تستدعي إلى
الأذهان عبودية الإنسان واسترقاقه في القرون المنصرمة. يحتاج هذا العمل
النقشي على ظهر سام علي إلى بعض الوقت كي يُستكمل بشكله الفني الذي يوافق
ذائقة تجّار الفن، فالبعض لا يعتبر التاتو عملاً فنية، ومع ذلك فإن البعض
الآخر يرون فيه عناصر جمالية تغري الآخرين على متابعته والاستمتاع فيه.
وحينما يُنجز التاتو يتم عرض ظهر سام علي كعمل فني في أحد المعارض
البلجيكية الذي يستقطب عددًا كبيرًا من الزوّار ومتذوِّقي رسومات التاتو،
وقد رأينا كيف تحوّل سام علي إلى قماشة رسم وهو جالس لساعات طوالاً أمام
المتفرجين الذين لا يصدقون أن الشخص الجالس أمامهم قد تحوّل إلى إطار
للعرض، فبعضهم يحاول لمسه، أو التصوير معه، أو الاحتجاج عليه، فإهانته بهذه
الطريقة هي إهانة لإنسانية كل إنسان يراه ويُحتمل أن يكون بديلاً له.
بيع الجسد إهانة للشعب السوري وإذلالاً لكرامته الشخصية
تتطور الأحداث فتأتي حبيبته عبير صحبة زوجها زياد عبدالله
الذي يتشفّى بغريمه سام علي ويعتبر ما يقوم به إهانة كبيرة للشعب السوري
وإذلالاً لقيمته الإنسانية إن كان يتوفر عليها غير أن الدبلوماسي السوري
يفقد أعصابه ويدمر عملاً فنيًا قيمته أحد عشر مليون دولار يفضي به إلى
السجن لكن ثمة اتفاقية تُعقد بين الطرفين تتيح للدبلوماسي الخروج من السجن
مقابل السماح بعودة سام علي إلى سوريا مُجددًا. فرغم حصوله على مبالغ مادية
طائلة إلاّ أنها لم تعوّضه عن حُب الوطن وضرورة التواجد في مدينة الرقّة
التي أحبها وتعلّق بها.
ربما تتجسّد ذروة انفعال سام علي حينما يُعرض في صالة لبيع
الأعمال الفنية ويأتي التجار والمضاربون من مختلف أنحاء العالم ليقتنوه
بوصفه عملاً فنيًا، وبينما كان يستمع لهم ويرى كل شيء بعينيه يسحب سماعتيه
بقوة وعنف وكأنه يفجّر حزامًا ناسفًا فيخرج الحضور بفزع كبير لكن التفجير
لم يكن سوى خدعة صنعتها مخيّلة المخرجة كوثر بن هنية.
مات البطل برصاصة داعشية لكنه ظلّ حيًا في مخيّلة المخرجة
يعود سام علي إلى الرِقّة ليظهر لنا في بدلة برتقالية وإلى
جواره شخص داعشي يطلق عليه النار ويرديه قتيلاً في الحال لكن المخرجة لم
ترد له أن يموت وإنما ظل حيًّا برغم الرصاصة الداعشية التي استقرت في رأسه
حيث يلتقي عبير مجددًا بعد أن تخلى عن العرض الاستعبادي لجسده، وبات يمتلك
حريته الشخصية التي ضحّى بها من أجل الوصول إلى حبيبته التي سبق وأن
رأيناها معه في القطار وهو يطلب من أحد الشيوخ أن يعقد قرانه عليها، وبما
أنّ العربة كانت خالية من رجال الدين فقد تطوّع أحد المطربين للقيام بهذه
المهمة وإتمام عقد الزواج وسط أغانيه الصادحة، ورقصات بعض المسافرين الذين
تماهوا مع هذا الحدث المبهج وأندمجوا فيه في إشارة واضحة لأن ثيمة الفيلم
تنتصر للحب والحياة والأمل الذي يتسلح به غالبية المواطنين السوريين.
عناصر مؤازرة لاكتمال الفيلم الذي مرّ مثل طيف خاطف
ثمة عناصر أخرى ساعدت على اكتمال الفيلم وتألقه من بينها
براعة التصوير الذي تبناه كريستوفر عون، والموسيقى الجذابة التي اختارها
أمين بوحافة، والمونتاج السلس الذي قامت به ماري هيلين دوزو بحيث مرّ
الفيلم مثل طيف خاطف من دون أن نشعر بثقل الوطأة الزمنية التي تُحدثها
الأفلام ثقيلة الظل.
فاز هذا الفيلم بجائزة أفضل فيلم عربي في الدورة الرابعة
لمهرجان الجونة وقيمتها 20000 دولار أمريكي، وسبق للمخرجة أن حصلت قبل
عامين على منحة قدرها 10000 دولار أمريكي من "منصة الجونة" التي تدعم
الأفلام العربية في مرحلتي التطوير وما بعد الإنتاج. |