تبوّأ مهرجان «مالمو» في السويد مكانته منذ مطلع سنواته.
أُسس سنة 2011، وعرف سعي رئيسه الفلسطيني محمد قبلاوي لكي يضعه في الصف
الأمامي بين المهرجانات العربية المُقامة في أوروبا في تلك السنوات القريبة
الفائتة.
كانت الفرصة مُتاحة؛ فمهرجان «باريس للسينما العربية»
تعثّر، ومهرجان «روتردام للسينما العربية» توقّف، ثم جاء توقُّف مهرجان
«دبي» الذي كان بمثابة بيت للسينما العربية، كتمهيد لنجاح آخر ولو أن
قبلاوي كان قد أكد نجاح مساعيه حتى قبل توقف المهرجان الإماراتي.
الآن، وفي مناسبة المهرجان الحادية عشرة، وعلى الرغم من أنّ
العروض تُبثّ على الإنترنت لا في رحاب صالات السينما، فإنّ المهرجان يواصل
عمله ورسالته، وهذه المواصلة تدعم خيارات السينما العربية التي دوماً ما
تبحث عن شاشات تعرض عليها إنتاجاتها. «مالمو» ليس فقط مهرجاناً عربياً، بل
مهرجان عربي في مدينة أوروبية رئيسية.
فيلم بيتي
كأي مهرجان آخر، من الطبيعي حدوث ذلك التفاوت بين الأعمال
المعروضة. وكالعادة أيضاً، لا يملك الناقد سوى الإيمان بأنّ إدارة المهرجان
اختارت أفضل ما عُرض عليها. رغم ذلك، هذا الإيمان المبدئي يتعرّض للشك في
كل مرّة يُشاهد فيها الناقد فيلماً من مستوى مناقض لأفلام أخرى (كثيرة)
تتميّز بدرجات من الجودة والأهمية.
هذا يحدث، في الواقع، مع كل المهرجانات فيبقى السؤال حول ما
إذا كان المُنتخب من الأفلام المعروضة في هذا المهرجان أو ذاك هو -بالفعل-
أفضل ما كان متوفّراً.
«جزائرهم»
و«نحن من هناك» هما نقطتان في صلب ما نتحدّث فيه هنا. الأول فيلم فرنسي
(يمثّل الجزائر التي كثيراً ما تغيب عن دورات المهرجان) من تحقيق ليندا
سويلم، والثاني لبناني من تحقيق وسام طانيوس. يشتركان في عنصر آخر هو أنّ
كليهما عمل تسجيلي وأنّهما يتناولان موضوعاً عائلياً.
وتقدّم في صفحة السينما ليوم الجمعة الماضي، «نحن من هناك»
يتمحور حول المخرج السوري الذي كان قد لجأ إلى لبنان ثمّ فكّر في تحقيق
فيلم عن شقيقين من أقربائه يحلمان بالهجرة إلى أوروبا. يتابع استعداداتهما
ويوجّه الكاميرا إليهما لتلقي أسئلة عليهما بعضها مؤذٍ في بساطة فحواه. حين
يسأل أحدهما: «لماذا تريد الهجرة؟»، هل هناك من جواب عميق لا يمكن لأحد من
المشاهدين تخمينه وسط حرب رعناء تدور في سوريا حيث يعيشون؟
لا يخرج الفيلم بمفادات غير منظورة طوال مدّة عرضه لا قبل
مغادرة قريبَي المخرج سوريا ولا بعدها. أحياناً تكتشف فيه لمحة مثيرة
للاهتمام (مثل قرار الشقيقين حال وصولهما إلى ألمانيا العيش متباعدين)،
ولكن...
«جزائرهم»
يوازيه في كل ذلك لكن بحرفة أفضل. السر ليس في التقاط الكاميرا لوجه
المتحدّث إليها بل فيما لدى المتحدّث قوله وما لدى المخرج عرضه.
تقابل ليندا سويلم، المولودة في فرنسا، جدتها وجدّها وأباها
وتستعين في مطلع الفيلم بأفلام بيتاكام صوّرت سنة 1992 قبل أن تدلف إلى رسم
ملامح حياة عادية تربط العائلة، تتحوّل سريعاً، إلى ملامح غير أليفة. فبعد
نحو 60 سنة على زواج والدَي والدها (الذي تمّ في الجزائر قبل نزوحهما إلى
بلدة تقع في منطقة تتوسط فرنسا) قررا الانفصال. تشكو الجدة من أنّها اكتفت
من العمل «كل يوم أنظف البيت وأطبخ وأغسل الصحون».
الوضع غريب، لكنه ليس بالغرابة الكافية لكي تنصرف المخرجة
لتحويل مسألة عائلية إلى فيلم. مرّة أخرى، ما قد يبدو مهمّاً لصانع فيلم من
هذا النوع قد لا يكون مهمّاً على الإطلاق لسواه، هذا إلا إذا أُمسك جيداً
بقضية تدفع المشاهد إلى تقدير هذا الكشف الخاص. والقضية هنا تبقى أقل قدرة
على تحريك أكثر من اهتمام مرحلي يمتد لساعة و12 دقيقة. ربما لتسخين الموضوع
اختير عنوان يبدو كاتهام («جزائرهم») ومنح مشاهد في النصف الثاني من الفيلم
لكي يتحدّث فيه الجد والجدة عن الجزائر كما عرفاها قبل نزوحهما، ولاحقاً،
حديث الجد عن الموضوع ذاته مع أصحابه.
لكن لا شيء ثميناً ينبثق من هذا العمل على الرّغم من أنّه
أفضل حرفة من «نحن من هناك».
«ولا
قرش»
من حُسن الحظ أن هناك فيلمين لبنانيين آخرين «يرفعان
الرأس»؛ أحدهما يرفع الرأس كثيراً بالفعل. عنوانه «قلتلّك خلص» لإيلي
خليفة، الآخر «تحت السماوات والأرض» لروي عريضة.
«قلتلك
خلص» هو المفاجأة الأفضل ليس بين هذين الفيلمين فقط، بل على صعيد أفلام
الدورة كلها. فيلم «غير شكل» لجمهور «غير شكل»، بمعنى أنّ غالب الجمهور
السائد قد يكتفي بالإعجاب المتدرّج بين المقبول والجيد، لكن من يبحث في
الأفلام عن سمات الإبداع سيجد في هذا الفيلم مجالاً رحباً لم تعمد إليه من
قبل سوى حفنة من الأعمال اللبنانية.
إنه عن إيلي خليفة ذاته. هو المخرج وهو البطل وباسمه. رجل
بشعر رمادي منكوش وعينين حائرتين ووجه لا يحمل تعابير تواكب كلماته
ومشاعره. هو شبيه بالممثل الأميركي جون تورتورو وحركات جاك تأتي في حيرته
وملامح بستر كيتون التي يدور تحت جمودها كل ما يتفاعل داخلها صمتاً.
على المرء هنا معرفة شيء عن ماضي المخرج الذي هو ماضٍ
مختصر: قبل 11 سنة قدّم فيلمه الروائي الأول «يانوسك» (عرضه مهرجان دبي)
وبعد ذلك غاب. الفيلم الجديد عن بعض فترات هذا الغياب. يتحدّث فيه المخرج
عن سيناريو ما زال يكتبه منذ سنوات. يغيّر فيه. يتّخذه عذراً لعدم تواصله
مع الحياة ومع المرأة التي يحب. ما زال نحيف العود وعندما تغادره صديقته في
مشهد يكشف من البداية عمّا يشغل باله (يقود سيارته معها في طريق جبلي ثم
يتوقف فجأة تاركاً إياها في السيارة منشغلاً برؤية الطبيعة) يبقى وحيداً...
ليس وحيداً تماماً، فما نراه على الشاشة هي الشخصيات النسائية التي كتبها
في السيناريو الذي يحاول إنجازه بالكامل. والنساء في نصّه جميلات وحادات
ومتذمّرات من أنّه لا يفهمهن أو يمنح بعضهن مشاهد غير لائقة.
حين يقابل إيلي داخل الفيلم على المنتج (جورج كعدي) داخل
دكان حلاقة ليسأله رأيه في السيناريو الذي سبق وأرسله إليه يبادره ذاك
بالنقد: «إنت أفضل واحد يكتب سيناريوهات غير مُرضية». متسائلاً عن السبب في
أن شخصياته النسائية لا تتكلم. يرد إيلي بأنّ المنتج في نسخة سابقة شكا من
كثرة الحوار. يتقدم إيلي من أذن المنتج ويهمس له، فيصيح ذاك رافضاً: «ولا
قرش».
مشهد كوميدي آخر يقع عندما يعرض أستاذ مدرسة على التلاميذ
فيلماً من إخراج إيلي خليفة. الأستاذ كله تقدير وابتسامات ومودّة لكنّه
يقدّم المخرج الواقف إلى جانبه على أنه «إيلي خلّوف» ولا يعتذر حين يصحح له
خليفة بل يهز برأسه. غنيٌّ عن القول إن الأستاذ خطف من المخرج فرصة الإجابة
عن الأسئلة التي طُرحت من تلميذ أو اثنين.
بعد ذلك إلى نموذج ثالث: رجل (بزنس مان) يطلب إيلي خليفة
لمشروع عمل ويخبره بأنّه يريد التوسّع في أعماله. على إيلي (الذي ينظر إليه
صامتاً) تدبير مجموعة من الشابات الطامحات للعمل. يريد فيلماً نسائياً
و«تستطيع أنت الإشراف خلال التصوير... بس من بعيد».
كل هذا وسواه ويد إيلي خبيرة في التقاط نَفَس مدينة من
السيارات والمباني في زحمة الحياة الهادرة مقابل طبيعة لا يلتفت إليها إلا
القلة أمام الكاميرا أو خلفها. فيلم خليفة توازيه أفلام غربية عديدة عن
تجارب مخرجين مع أفلامهم، لكن معالجة إيلي خليفة الممتعة والممعنة معاً
تجعله في مصافّ بعضها الأفضل.
صدام من طرف واحد
«تحت
السماوات والأرض» (الذي سبق وفاز بجائزة سعد الدين وهبة في دورة مهرجان
القاهرة الأخيرة)، هو تمويل فرنسي مع مشاركة «الصندوق العربي للثقافة
والفنون». متقن في تنفيذه وجديد في حكايته بالمقارنة مع معظم ما نراه من
أفلام لبنانية: روي عريضة يوفّر لمشاهديه دراما تشويقية عن مجموعة من
الغطّاسين تحت قيادة محترف اسمه «ألان» (يؤديه ألان نجم) يريد أن يتجاوز
عمق المائة متر تحت سطح الماء إلى الـ300 متر مع ما يحفّ ذلك من مخاطر جمّة.
لماذا؟ يسألونه فيجيب بأنّه يريد الغوص لذاته. يخبره أميركي
أنّه لا يفهم هذه الرغبة خصوصاً أن «ألان» لا يريد لا دخول «غينيس» ولا
تحويل المهمّة التي يقوم بها إلى مناسبة رابحة تجارياً تؤمّنها إعلانات
تجارية. هناك كذلك المرأة في حياته (الفرنسية نتالي جابيو) التي تؤمن
بقدراته وطموحاته، لكنّها تريد أن تأخذه معها إلى فرنسا. لا يرى في هذا
العرض أي مستقبل له ويفضّل البقاء.
بعد غطس «ألان» لنحو 150 متراً، على أن يقْدم على الغوص
الأعمق بعد أيام، يبدأ الشك يراوده فيما إذا كان يريد فعلاً تعريض حياته
للخطر. لم يعد يشعر بالثقة (خصوصاً بعد وفاة أحد أفراد طاقمه) وفي النهاية
يقلع عن المهمّة التي كان على وشك إتمامها.
يجد روي عريضة حكاية متينة كانت ستنتج فيلماً محدوداً تحت
يد مخرجين أقل طموحاً وإدراكاً. واضح أنّ المخرج درس السينما في معهد غربي
وتعلّم منه كيف يؤمّ العمل بتخطيط سليم ودراية شاملة وتنفيذ شبه متقن طوال
الوقت. ليست مهام سهلة خصوصاً أنّه يُكمل هذه العناصر بسحب الفيلم خارج
المعالجة اللبنانية في جمالياتها من ناحية ولغتها التعبيرية من ناحية أخرى
إلى فرنسية لا يخونها إلا تمثيل ولهجة لبنانيّان.
من تونس فيلم جيد بحدود. عنوانه باللهجة التونسية «الهربة»
وبالفرنسية «تسرّب» وبالإنجليزية «المأزق». اختر ما تريد فليس منها ما
يبدو متّصلاً بأهم مفادات الفيلم وهو المواجهة.
الفيلم من إخراج غازي زغباني مكتوب كما لو كان مسرحية:
شخصان في غرفة وثالثهما الكاميرا وحوار دائم ضمن وضع مثير في نصّه ومواقفه.
سلفي هارب من الشرطة (غازي زغباني) يلجأ إلى بيت مومس. عند هذا الحد هناك
ما يفتح عيني المُشاهد وذهنه على وضع يطفو فوق التناقضات. السلفيّ لا ينظر
إلى المرأة وهو يرجوها قبول لجوئه إلى غرفتها وهي لا ترفض له الطلب. سنُمضي
ساعة ونصف في سجال بينهما حول كل منهما وعمله ودوره وحياته.
تخون الكتابة الفيلم خصوصاً بعد أن أغوت المرأة الرجل (بدأ
الإغواء بتفّاحة حمراء) والفيلم يتبدّى كترتيب ذهني لوجهة نظر المومس
(نادية بوستة) وصاحب النص (حسن ميلي). كلاهما يمسك بزمام النقاش الدائر.
هناك منطقان متضادان، هي والمؤلّف يملكان المنطق الأقوى. في المقابل لا
يملك السلفي أي منطق بالفعل. هو على خطأ والمرأة التي يأوي إليها مستعيذاً
بالله طوال الوقت ستمنحه النظرة المختلفة للحياة، أو «ستلده» كما قالت له
في أواخر دقائق الفيلم.
كان من الأفضل للفيلم منح السلفي منطقه الذي يدافع عنه
تمهيداً لتحوّله، ما دامت هذه هي الرغبة. كان ذلك سيزوّد الفيلم بشحنة أعلى
من النقاش عوض أن يبقى السلفي قابعاً في صندوق قناعاته الضعيفة طوال الوقت. |