المكتبة السينمائية تفقد أحد رموزها برحيل الناقد والإعلامي
المصري الذي كان أفضل من ترجم في مجال الثقافة السينمائية ولعب دورا بارزا
في معالم واضحة في النقد السينمائي.
كان يوسف وظل دائما، هاويا عظيما للسينما
غادرنا مؤخرا الصديق والأستاذ ورفيق الدرب الطويل منذ
السبعينات الناقد والإعلامي المصري يوسف شريف رزق الله الذي لعب دورا بارزا
في إرساء معالم واضحة في النقد السينمائي عن طريق مساهمته الهائلة في نشرة
نادي السينما التي كانت تصدر عن نادي سينما القاهرة، وعن طريق ما أعده
وقدمه من برامج سينمائية في التلفزيون المصري.
توفي يوسف شريف رزق الله بعد رحلة طويلة مع العلاج من مرض
عضال ألمّ به في السنوات الأخيرة وبعد رحلة عطاء لم تنضب أبدا في عالم
الثقافة السينمائية.
كان يوسف موسوعة معلومات سينمائية، كما كان شعلة من النشاط
والحركة، كان يسافر ويحضر مهرجانات السينما في العالم، وقد أصبح أيضا
مسؤولا عن برامج الأفلام في مهرجان القاهرة السينمائي، ثم مديرا فنيا له.
وعندما عرض عليه أن يرأس المهرجان اعتذر وفضّل البقاء في
منصب المدير الفني الذي يتعامل مع الأفلام، وليس مع الأفلام والأرقام. لكنه
كان أيضا وراء ترشيح ماجدة واصف ثم محمد حفظي الذي يرأس المهرجان حاليا،
وهو اختيار صائب في الحالتين.
مترجم بلا كتاب
كان الراحل الكبير أفضل من ترجم في مجال الثقافة
السينمائية، رغم عدم صدور كتاب واحد له، وأظن أن الوقت قد حان الآن لكي
تصدر وزارة الثقافة المصرية مجموعة من الكتب لترجماته العديدة في هذا
المجال.
رغم البعد الجغرافي في ما بيننا، كنت دائما مطمئنا إلى أنه
هناك، يتابع ويقرأ ولا بد أنه كان يبتسم ويتذكر أيام “الشقاوة” والمشاغبات
في “نادي السينما” و”جمعية الفيلم”.
كان يوسف موسوعة معلومات سينمائية، كما كان شعلة من النشاط
والحركة، كان يسافر ويحضر مهرجانات السينما في العالم
وكنا نلتقي في مهرجانات السينما من أيام مهرجان فالنسيا في
الثمانينات مع أحمد صالح ورؤوف توفيق وسمير نصري ورأفت الميهي ومحمد خان
وعمالقة آخرين رحلوا، كما كنت التقيه سنويا في مهرجان كان الذي لم ينقطع عن
التردد عليه سوى هذا العام فقط، بعد تفاقم أزمته الصحية.
كان يوسف يترجم أسبوعيا لنشرة “نادي السينما” بالقاهرة في
عصره الذهبي، لمدة عشرين عاما، وكانت ترجمات يوسف من مقالات ومقابلات
وتقارير ومقالات نقدية ومعلومات وتحقيقات عميقة، متخصصة، عن الظواهر
السينمائية في فرنسا والعالم، تثرينا وتغذي ثقافتنا. وكانت تحتوي على كنوز
من المعلومات والتحليلات التي لم يوجد لها مثيل من بعد، بهذا الشكل
الأسبوعي المنتظم والشامل.
كانت ثقافة يوسف السينمائية الموسوعية، وإجادته التامة
للغتين، الفرنسية والإنكليزية، إلى جانب معرفته الممتازة باللغة العربية،
تساعده على تقديم هذه الترجمات الجميلة، السلسة، الواضحة، الثرية. فضلا عن
هذا كله، كان يوسف وظل دائما، هاو عظيم للسينما، ولولا حبه وإخلاصه للسينما
التي عشقها لما أنتج كل ما أنتجه، بزهد واضح، ودون رغبة في الادعاء أو
البحث عن الشهرة، فقد كان يكتفي بالنشر في نشرة “نادي السينما” ثم في مجلة
“المسرح والسينما” ثم مجلة “السينما” إلى أن توقفت بكل أسف كما تتوقف كل
مطبوعة جادة متخصصة في مصر.
كان يوسف من بين الأوائل الذين تولوا تعريفنا، من خلال ما
نقله إلى العربية، بعدد من أبرز وأهم السينمائيين في فرنسا وأوروبا عموما،
ليس فقط من الأجيال صاحبة التراث المؤثر، بل من التيارات الجديدة التي كانت
تظهر من وقت إلى آخر.
مقالات نقدية ومعلومات وتحقيقات عميقة متخصصة عن الظواهر
السينمائية في فرنسا والعالم
وقد كنا سعداء الحظ أن نشأنا ونشأ اهتمامنا بالسينما في تلك
الفترة من أواخر الستينات، عندما كانت حركة التجديد في السينما الأوروبية
وسينما القارات الثلاث، في أوج مجدها وانتفاضتها على السينما التقليدية
القادمة من هوليوود. وكانت فرنسا تحديدا، “كعبة” الحركات الجديدة في
السينما، من الموجة الجديدة إلى سينما الحقيقة، إلى السينما النضالية،
وغيرها.
كان يوسف أيضا جريئا جدا في ما ينقل لنا عن الفرنسية، عن
مخرجين لم نكن نعرف عنهم الكثير، مثل جورج كلوزو وجان بيير ميلفيل وأندريه
ديلفو (البلجيكي) وماركو فيراري (الإيطالي) وبرتران تافرينييه وكوستا
جافراس وبرتران بلييه وفرنسوا تروفو وكلود شابرول وكلود ليلوش، وغيرهم.
ولعل من أهم ما نقله لنا يوسف أيضا، الكثير من أدبيات سينما
التمرد والغضب التي ارتبطت بحركة التمرد المشهودة في مايو 1968 في فرنسا،
بل كان أول من كتب عن تأثير هذه الحركة على السينما، وقدم لنا سردا تفصيليا
دقيقا لتطور الأحداث في باريس منذ إعفاء مدير السينماتيك الفرنسية هنري
لانغلوا، من منصبه، ثم اندلاع غضب المثقفين والسينمائيين وانتفاضة الطلاب،
وانضمام العمال إلى الطلاب وإقامة المتاريس في باريس وتحويلها إلى ثكنة
عسكرية. وقد نشر هذه التفاصيل في مجلة “المسرح والسينما”، والتي كان عضوا
في هيئة تحريرها ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمره بعد.
وكان ما كتبه يوسف يأسرنا، أبناء جيلي وأنا، فقد كنا
مفتونين بقدرة السينمائيين الشباب على إشعال شرارة حركة ثورية في بلد من
أعرق الديمقراطيات في العالم. وكانت ثورة الشباب وقتها في قمة مدها في
أوروبا.
كان يوسف شريف وراء اختيار عدد من أهم الأفلام التي عرضت في
“نادي السينما”، وهي في معظمها فرنسية، وكانت بالنسبة لأبناء جيلي، الذي
جاء بعد جيل يوسف ورفاقه، اكتشافات حقيقية.
ثم واصل دوره بقدر ما سمحت به ظروف العمل في التلفزيون
المصري، في برنامج “نادي السينما” الذي كان يعده ثم برنامج “أوسكار” وغيره
من برامج السينما التي اختفت الآن.
التعريف بعدد من أبرز وأهم السينمائيين في فرنسا وأوروبا
عموما
كتابات مثيرة للجدل
رغم ما كانت تثيره من جدل كتابات يوسف شريف رزق الله
ومقابلاته التي يجريها مباشرة مع السينمائيين الأجانب، وما يترجمه عن مجلات
السينما الفرنسية في عز اشتعال ثورة شباب السينمائيين في العالم، إلاّ أن
يوسف نفسه لم يشأ أن يكون من “الغاضبين” أمثالنا، الذين كانوا يعبرون عن
رغبتهم في “تغيير العالم” بالسينما بشكل مباشر من خلال مقالات تمزج بين
السينما والسياسة، فقد كان يميل للتأمل من مسافة ما، وكان يهتم أكثر
بالمعلومة وهو ما يرجع إلى عمله في قسم الأخبار بالتلفزيون المصري بعد
تخرجه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وربما كان يعبّر عن غضبه من خلال
ما يختاره ليترجمه وينقله لنا من مواد شديدة السخونة.
لكنه كان أيضا عضوا فاعلا في كل التجمعات التي كوّنها
السينمائيون والنقاد الشباب مثل جماعة السينما الجديدة ثم جمعية نقاد
السينما المصريين، كما ترأس لسنوات أقدم تجمع سينمائي في مصر، أي “جمعية
الفيلم” التي لعبت وما زالت تلعب دورا كبيرا في مجال الثقافة السينمائية.
وعن طريق شبكة علاقاته مع شركات التوزيع الأجنبية في
القاهرة كان يستطيع أن يأتي لنا بالأفلام الفنية الجيدة قبل توزيعها في
مصر، للعرض في “نادي السينما” و”جمعية الفيلم”. وكان الكثير من هذه
الأفلام، إما يواجه مشاكل رقابية ويمنع من العرض كما حدث مع فيلم “كلاب
القش” لسام بكنباه، ثم مع فيلم “زد” لكوستا غافراس، و”الحرب انتهت” لآلان
لارينيه، وإما ترى الشركة الموزعة أن الفيلم لن يحقق دخلا حقيقيا من السوق
المصرية فكانت تعيده إلى الشركة الأم في أميركا، وكان يوسف يحصل لـ”نادي
السينما” على حق عرضه قبل إعادته، ومن دون أي رقابة بالطبع.
اكتشافات حقيقية
أتذكر من الأفلام التي كان يوسف سعيدا بوجه خاص بأنه أتى
بها وعرضها علينا في “جمعية الفيلم” قبل العرض العام، فيلم “كباريه” (1972)
لبوب فوس، ثم فيلم “الصفحة الأولى”
(1974) The Front Page
لبيللي ويلدر.
وبعد عرض “الصفحة الأولى” غادرنا الجمعية فاقترب مني وسألني
عن رأيي باعتباري كنت أمثل جيلا آخر وقتها، كان مشتعلا في خضم الحركة
الطلابية في الجامعات المصرية. وكأن يوسف كان يريد أن يقول لي “ها هو فيلم
من الأفلام اليسارية التي تحبونها.. فما رأيك”؟، لكني لم أبدِ حماسا كبيرا
للفيلم، فقد اعتبرته عملا “تقليديا” فيه من التسلية أكثر مما فيه من
“الفكر”. ولكنني غيّرت رأيي في ما بعد بالطبع، فالفيلم رائع!
تأثر يوسف عندما كتبت عن ذلك العصر، ثم عندما نشرت ذكرياتي
عن أفلام جيمس بوند التي لم تكن “ثورية” بأي حال، بل كانت شديدة الرجعية،
لكننا كنا نحبها. وعلّق على ما كتبته وأبدى سعادته به، فلا بد أنه أعاده
بدوره إلى ذلك الزمن البديع.. زمن شبابنا وحماسنا وعشقنا للسينما الجميلة.
الحديث عن يوسف شريف رزق الله وما أنجزه يمكن أن يمتد صفحات
وصفحات، ودوره البارز في تطوير الوعي السينمائي محفور في ذاكرة أجيال من
تلاميذه ومحبيه.
رحمه الله ألف رحمة ويرحمنا جميعا.
كاتب وناقد سينمائي مصري |