كيف شكل “يوسف شريف رزق الله” نقطة تحول في علاقة الملايين
بالسينما؟
حاتم منصور
عشاق السينما اليوم أمامهم بحر هائل من المعلومات والأفكار،
لكن بالنسبة لجيل سابق تفتح وعيه على الدنيا في السبعينات والثمانينات، لم
تكن الأمور كذلك. كانت ببساطة عدد محدود من المجلات والدوريات الفنية،
وقناتان فقط على التليفزيون المصري.
وسط هذه المساحة المحدودة، شق يوسف شريف رزق الله نافذة
صغيرة لنا عبر برامجه السينمائية. نافذة لم نشاهد فيها فقط أفلام، لكن
تعلمنا منها أيضا الكثير والكثير عن “فن مشاهدة السينما”.
هذا الهوس بالسينما تلخصه ربما قصة الأستاذ نفسه كما
يحكيها. حلمه كان الدراسة في معهد السينما – الجديد آنذاك – لكن تفوقه
الدراسي ومجموع الثانوية العامة وضغوط الأسرة، انتهت بتغيير مساره إلى كلية
الاقتصاد والعلوم السياسية، ومنها لاحقاً إلى التليفزيون.
بدايته كانت في قسم الأخبار، لكن كتاباته في دوريات أخرى عن
السينما والأفلام لفتت الأنظار إليه كموسوعة سينمائية، ليبدأ وقتها مشواره
السينمائي التليفزيوني الحافل، مع برنامجه الأسبوعي نادي السينما الذي تولي
تقديمه مع زميلته درية شرف الدين لمدة أشهر معدودة، قبل أن يكتفي بمهمة
الإعداد فقط.
كل حلقة من البرنامج تتضمن فيلما، يسبقه تقديم ومعلومات
عنه، ونقاش سريع تمهيدي مع ضيف الحلقة، ثم استكمال للنقاش بعد انتهاء عرض
الفيلم.
الشىء المميز بخصوص هذا البرنامج، أنه لم يكن للحديث عن
السينما من منظور صُناعها بالأساس (مخرجين – ممثلين.. الخ)، بل كان ببساطة
للحديث عنها من منظور كل الناس.
خبراء نفس واجتماع.. أساتذة فلسفة أو تاريخ.. ضباط شرطة..
أطباء.. مهندسين.. هؤلاء وغيرهم كانوا قائمة الضيوف. وبفضل خلفيتهم
المعلوماتية وخبراتهم الوظيفية من ناحية، والأسئلة الذكية التي يعدها
الأستاذ لهم من ناحية أخرى، يحدث الدمج السحري عندما يلتقي فن السينما مع
العالم، ويصبح الفيلم أكبر من مجرد ساعتين تسلية. يصبح الفيلم جزء من
الحياة.
بحلول عام 1980 بدأ برنامجه الآخر (الأوسكار) الذي تولت
تقديمه المذيعة سناء منصور.
نقطة الاختلاف الأساسية عن نادي السينما، كانت اختيار فيلم
ترشح أو حصل على الأوسكار في فرع أو أكثر، وتقديمه من زاوية هذا الانجاز.
ما الذي جعل فيلمنا اليوم يربح أوسكار أفضل ملابس مثلا؟
قيمة السؤال واجابته، تتجاوز من جديد الفيلم نفسه، وتُحلق
بالمتفرج لملاحظات وطريقة تفكير ومشاهدة مختلفة للأفلام عامة وطرق صناعتها.
أما برنامجه تليسينما الذي قدمه بنفسه، فكان أقرب لدليل
أسبوعي مختصر يقدمه عصر كل جمعة، لنعرف منه ما ينتظرنا من أفلام أجنبية
طوال الأسبوع على التليفزيون.
ومن وقت لآخر كان يتحفنا بحلقة من برنامج ستار، وفيه يسجل
مع فنانين مصريين أسئلته لنجم ما عالمي، ثم يقوم النجم بتسجيل اجاباته أمام
الكاميرا في أمريكا، ونشاهد مونتاج نهائي يتضمن الفقرتين، قبل أن نبدأ
مشاهدة فيلم ما لهذا النجم.
قائمة ضيوف هذا البرنامج تضمنت أسماء عملاقة مثل كيرك
دوجلاس وميريل ستريب، وعلى عكس برامج التفاهة التي تُقدم حالياً باعتبارها
برامج فنية وسينمائية، وتتضمن بالأساس حفنة أسئلة سمجة روتينية مكررة تعكس
إفلاس طاقم التقديم والإعداد، من نوعية (ما هو أظرف موقف لك أثناء
التصوير)، كانت أسئلة ستار على مستوى الفرصة والضيف والفيلم وفن السينما.
برنامج سينما
في سينما الذي
بدأه في التسعينات، كان رغم روعته، مصدر معاناة للملايين من عشاق السينما
من أمثال كاتب هذه السطور! البرنامج كان مختصا بتقديم أخبار وتقارير عن
السينما العالمية والأمريكية بالأخص، على مدار ربع أو ثلث ساعة على الأكثر
في كل حلقة، ويقدمه الأستاذ بنفسه. لكن للأسف ظلمنا ماسبيرو وقتها، واختار
عرض هذا البرنامج في ختام سهرة الأحد أو الاثنين على القناة الثانية.
مع العشوائية المعتادة للتليفزيون المصري، كان من العادى أن
يبدأ البرنامج الثالثة فجرا مثلا، حتى لو كان موعده المعلن الواحدة! يمكن
طبعا تخيل حجم المعاناة التي يحتاجها طالب لمتابعة برنامج في هذا التوقيت
خلال شهور الدراسة!
لم تخلً الأمور من مقالب مؤلمة متكررة، مثل مقاومة النعاس
لمدة 3 ساعات كاملة من أجل البرنامج، لتنتهي سهرتنا السينمائية الموعودة
بمذيعة ربط تردد بابتسامة استفزازية: نعتذر عن عرض برنامج سينما في سينما
هذا الأسبوع أعزائي المشاهدين، نظراً لتأخر الوقت!
لكن آلام هذه المواقف المحبطة من وقت لآخر، كانت لا شىء
بجوار الجرعة السينمائية المحترمة، التي يقدمها لنا الأستاذ بانتظام.
كواحد من الجيل الذي تفتح وعيه أوائل التسعينات، يمكن القول
إن يوسف شريف رزق الله كان من أقلية أحبت السينما فعلا، ولم يستغلها كمجرد
حصان طروادة لترويج أفكاره السياسية والاجتماعية.
في هذه الفترة لم تكن أقلام مشاهير النقد السينمائي، تقدم
ما يمكن اعتباره نقدا سينمائيا فعلا، بقدر ما تقدم مقالات سياسية بائسة مع
كل فيلم وحدث سينمائي.
مع سيطرة الأهواء والميول الاشتراكية واليسارية والناصرية
والقومية على أصحاب هذه الأقلام، وعلى الصحافة المصرية والعربية عامة، كانت
مراجعات الأفلام في الصحف المصرية، أقرب لنكتة مبتذلة. الفيلم الذي يمجد
هذه الميول والأيدلوجيات، يحصل فورا على تصنيف (فيلم عظيم)، والفيلم المصري
الذي لا يمجدها، هو بالضرورة متواضع فنيا وسينمائيا!
أما بالنسبة لهوليوود فالأمور أسوأ وأسوأ، حيث الذبح ضروري
ومنتظم لكل فيلم بطله شخص باسم “ديفيد” لمجرد اختيار هذا الإسم. وحيث
الهجوم والرفض لكل ما هو مرتبط بالثقافة الأمريكية، اجراء ثابت باعتبارها
وباء يجب ابعادنا عنه!
ماذا عن الفنيات السينمائية في الفيلم؟ لا تهم فهى هامشية!
المهم لهذا النوع من النقاد والمقالات هو: هل هذا الفيلم أو الفنان متوافق
مع أجنداتي وتوجهاتي السياسية أم لا؟!
لم ينزلق يوسف شريف رزق الله لهذا الفخ، وكان رمزا
للموضوعية في برامجه. والأهم أنه لم ينزلق أيضا لأي صراعات أو ضجيج عن
حياته الشخصية، وعاش رغم كل شهرته دون أن نراه خارج نطاقه المهني نهائيا.
ليس من المبالغة بمناسبة الحديث عن جيله وعن الأجندات
السياسية والأيدلوجية، أن نعتبره ضمن أقلية لم تسعى لزرع (كراهية الآخر
والغرب) في قلوبنا ونحن أطفال، بقدر ما سعت لمد جسور بيننا وبين ثقافات
الآخرين.
لسنوات طويلة تساءلت: هل كان مجرد شخص محظوظ بفرصة
استثنائية في التليفزيون المصري؟ هل فاتتنا إبداعات ومجهودات لآخرين أكثر
وعياً وعشقاً للسينما من نفس جيله؟ هل نال شعبيته لمجرد كونه البائع
الأساسي وشبه الحصري لسلعة نعشقها وقتها؟
اليوم وبعد متابعات عقود للوسط الاعلامي المختص بالسينما،
تبدو الإجابة واضحة. في الحقيقة كنا نحن المحظوظين بحصوله على هذه الفرصة.
المقارنة بين المحتوى السينمائي الذي كان يقدمه، والمحتوى البديل لنفس
أبناء جيله في الصحف والكتب، يلخص الفارق.
المقارنة حالياً أيضاً بين ما قدمه من عقود، وما يُقدم الآن
باعتباره برامج سينما وفن على الفضائيات واليوتيوب، يلخص فارقا آخر.
لدينا حالياً دفعات جديدة من أنصاف الموهوبين – وأحيانا
عديمي الموهبة – القادمين لوسط اعلامي وصحفي وتليفزيوني، تسيطر عليه منظومة
التوريث والشللية. لدينا مرحلة الاستوديوهات الفخمة والـ 20 كاميرا، وطاقم
الفنيين المهول، المخصصين جميعاً لخدمة محتوى فقير بائس، تقدمه مذيعات تنفق
ثروات شهرياً على ملابسها وشعرها، لكن لم تستثمر شىء يذكر في عقلها.
اليوم نحيا في عالم جديد بفضل القنوات الفضائية والانترنت.
عالم لم نعد فيه مضطرين للنظر من نافذة صغيرة واحدة على ثقافات وأفلام
غيرنا، ولم تعد فيه أخبار السينما العالمية، عملة نادرة تستوجب منا السهر
للثالثة فجرا، في يوم طوارىء أسبوعي.
جيل جديد أصغر يشق طريقه حاليا للكتابة أو لعمل فيديوهات عن
السينما. جيل لم يحضر عصر الأستاذ ولم يتفاعل معه مباشرة، لكن مع كل ريفيو
أو مقال جيد يقابلك لناقد مصري ثلاثيني أو أربعيني حالياً، أو كل إصدار
سينمائي متميز يصدر عن هذا الجيل، تأكد أن هناك غالباً بصمة ما تركها
الأستاذ. بصمة ستمتد بالتأكيد لأجيال وأجيال قادمة.
بذرة نجاحه الرئيسية قد تكون أوضح الآن. على عكس الكثير من
العاملين في هذا المجال سابقاً وحالياً، فعلاقة يوسف شريف رزق الله
بالسينما، لم تكن علاقة شخص متسلق يريد فرص ووظائف وشهرة، بقدر ما كانت
علاقة عشق صادقة. وأكبر إنجازاته على الإطلاق أنه نقل هذا العشق والشغف
بالسينما لملايين آخرين من المتفرجين.
والأحزان الصادقة على السوشيال ميديا مع إعلان خبر وفاته،
خير دليل على أن عشق السينما والذكريات الغالية التي حفرها في ذاكرتهم،
ستظل خالدة للأبد. |