الجونة، يوماً بعد يوم
(3)
الجونة - هوفيك حبشيان
انطباعات شخصية، مشاهدات، على مدار الساعة، عن السينما
والمدينة وناسهما خلال مهرجان الجونة السينمائي، الطبعة الثالثة (١٩ - ٢٧
أيلول ٢٠١٩).
اليوم الخامس - الثلثاء ٢٤ أيلول
في اليوم الرابع من مهرجان الجونة، وبعد مشاهدة كمّ من
الأعمال السينمائية، لم يعد هناك أدنى شك في ان المبرمجين انتقوا لجمهور
الجونة "زبدة" الأفلام التي ظهرت منذ منتصف العام الحالي. أكثر من ٩٠ في
المئة من الأفلام المعروضة تراوحت بين الجيدة والممتازة. عدد من المشاهدين
الذين أعرفهم وجدتهم يخرجون من الصالات بفم دائري الشكل. علامات الرضى
والدهشة ترتسم على وجوههم فيلماً بعد فيلم في عام سينمائي لم يبخل علينا
بكلّ ما هو مستجد ومثير. أحياناً، يبدي أحد هؤلاء رغبة في الحديث عن فيلم
خرج منه للتو. لكن، بعض التفاصيل تفوتك عندما تكون قد شاهدتَ الفيلم المعني
قبل أربعة أو خمسة أشهر. في المقابل، يجب القول ان المهرجان يحتاج إلى
المزيد من الروح، وهذا شيء لا يأتي لا بتشكيلة الأفلام ولا بالبهرجة ولا
حتى بنوعية الضيوف ولا بكلّ أموال الأرض. هذا شيء يخلق نفسه بنفسه تدريجاً،
ويرتبط إلى حدّ كبير بالمكان الذي يجري فيه الحدث السينمائي. لا يزال
المهرجان يفتقر إلى هذه الروح الحماسية التي تميز أكبر التظاهرات
السينمائية في العالم عن غيرها. مهما يكن أداء المنظمين بارعاً ونياتهم
صافية وخبرتهم واسعة وخياراتهم صائبة، فبعض الأشياء تحتاج إلى بيئة ثقافية
حاضنة يحاول الحدث أن يستمد شرعيته منها، يتفاعل معها وينصهر فيها. شيء آخر
افتقر له المهرجان هذا العام: أعضاء أعلى شأناً في لجان التحكيم، وعدد أكبر
من السينمائيين الذين يرافقون أعمالهم إلى الجونة. أخيراً وليس آخراً:
العمل على دعوة قامات كبيرة اعتدناها في السنتين الأخيرتين. نذكر منها
أوليفر ستون وجان جاك آنو وفيكتور كوساكوفسكي وغيرهم.
بعد الظهر، شاهدتُ فيلم المخرج والكاتب الأفغاني الفرنسي
عتيق رحيمي الجديد، "سيدة النيل"، الذي يروي المناخ (انقسام طبقي، استعمار،
فروقات اقتصادية) الذي ساد في رواندا وهيأ للإبادة فيها. فيلم حميمي مقتبس
من رواية للكاتبة شولاستيك موكاسونغا صدرت في العام ٢٠١٢، يعاين فيه رحيمي
كيفية صعود التعصّب في بيئة شديدة الخصوصية، وصولاً إلى الارتماء في حضن
العنف القاتل. حتماً، هذا ليس أفضل ما أنجزه رحيمي، ولكن كلّ شيء في الفيلم
سليم، بدءاً من صورة الفرنسي الكبير تييري أربوغاست. في اليوم التالي لعرض
الفيلم، التقيتُ رحيمي في مقابلة صحافية. تذكّرني رأساً عندما رآني. فقد
كنت التقيته في المرة الأولى في الهند في العام ٢٠١٢، وعدنا التقينا ثانيةً
في أبو ظبي، يوم عرض "حجر الصبر". في الهند، كانت لقاءاتنا متقطعة؛ حيناً
حول مائدة طعام، حيناً آخر في صالة سينما، وأحياناً كثيرة في ردهة الفندق.
إلى أن فتح "علبة الباندورا" ونحن مستلقيان على كنبة من الجلد، فصارحني بما
كان يُمكن قراءته بين عينيه الحزينتين. في الجونة، تحدّثنا عن حياته كمتشرد
في بلدان عدة، عن مشروعه مع المنتج ماران كارميتز الذي أُلغي بعد الأعمال
الإرهابية التي كانت باريس ضحيتها عام ٢٠١٥، وعن مشروعه أفلمة رواية "موانئ
الشرق" لأمين معلوف. أخبرني انه كتب رواية كاملة وهو يصوّر الفيلم في
رواندا.
عصراً، جرت محاولة للدخول إلى عرض "حلم نورا" للمخرجة
التونسية هند بوجمعة في "مسرح المارينا"، لكن التذاكر كانت قد نفدت تماماً.
هذا هو الفيلم الوحيد الذي لم أستطع مشاهدته بسبب نفاد التذاكر، ولكن تناهى
إلى مسامعي ان بعض العروض كانت كاملة العدد. هذه حال "٣٧ ثانية" للمخرجة
اليابانية هيكاري الذي فاز بجائزة الجمهور في مهرجان برلين الأخير. ماي
(يوما تاكادا) رسّامة "مانغا" شابة مصابة بشلل دماغي تسعى إلى تحقيق ذاتها
وطموحاتها وتحاول اشباع رغابتها الجنسية، في مجتمع ذي قيود أخلاقية صارمة.
السرد يوفّر امتاعاً كبيراً. وعليه، فإن الاقبال على الأفلام في الجونة جد
متفاوت. كلّ شيء يتوقف على العمل نفسه والرغبة التي تنشأ حوله، وأيضاً
توقيت عرضه. في هذا الصدد، كتب المدير الفني للمهرجان أمير رمسيس على صفحته
الفايسبوكية انه يشعر أحياناً باليأس والاحباط، لكن مشهد الناس وهم يركضون
من فيلم إلى فيلم، يستحق المعاناة.
في الليل، قررتُ مشاهدة "المرأة الباكية" للمخرج
الغواتيمالي خايرو بوستامانتيه، بعدما سمعتُ الناقد العراقي قيس قاسم يكيل
له المدائح، معتبراً اياه "تحفة سينمائية". قد لا أعتبره كذلك بالضرورة،
ولكن يجب الاعتراف بأننا حيال عمل ملهم على أكثر من صعيد، مشغول بصدق
وعناية وابتكار وحساسية، ضمن اسلوب شديد الخصوصية، اذ ننغمس حرفياً في
الأجواء طوال ما يقارب الساعة ونصف الساعة. الايقاع المرهون بوتيرة مشدودة،
يتلف الأعصاب لا محالة، وهذا ما يقصده المخرج. أما الحكاية فتعيدنا إلى
تاريخ غواتيمالا الدموي. الجنرال المتقاعد انريكه مونتيفيردي مسؤول عن
ابادات جماعية. البيت الذي يقيم فيه محاصر من الناس. نسمع عويلهم ونحيبهم
طوال الفيلم. الأرواح الانتقامية تطارده حتى بعد ٣٠ سنة. بعد الفيلم، دار
نقاش مع الممثّلة ماريا مرسيديس كوروي.
اليوم السادس - الأربعاء ٢٥ أيلول
لسبب أجهله، النهوض الباكر في الجونة أمر سهل. الساعة
الخامسة والنصف من صباحات كلّ الأيام تقريباً كنت جالساً أتفرج على الشروق
من شرفة الغرفة في فندق "موفمبيك". الذباب كان منتشراً بكثرة هذا العام.
وكنت على اقتناع راسخ غير منطقي بأن الذبابة التي تحلّق حولي، أينما جلستُ،
هي ذاتها دائماً، وتنتقل معي بالسيارة.
من أجل كتابة هذه اليوميات، قررتُ منذ بداية الطريق الا
أسجّل ملاحظات في دفتر صغير. وددتُ أن أترك الأشياء التي أحاول استذكارها
إلى لحظة جلوسي أمام الكومبيوتر، كي تخضع لامتحان الزمن، لأرى اذا كانت
ستصمد أمام النسيان. هذا شيء تعلمته من كاتب مكسيسي، قال لي مرةً ان
الأشياء التي تستحق أن تُكتَب، تتذكّرها حتماً عند رغبتك في الكتابة عنها،
أما التي تنساها، فهي، في النهاية، لا تستحق سوى أن تُطوى.
بعد الفطور، التقيتُ المخرج المغربي نبيل عيوش الموجود في
الجونة بصفته منتج "آدم" لزوجته المخرجة والممثّلة مريم التوزاني. أخبرني
انه هنا ليعمل وليرتاح في الحين نفسه. سبق أن قابلته مرتين في معمعة كانّ،
بشكل سريع. هذه المرة، كان اللقاء أطول، واللغة بسيطة وهادئة، والجلسة
عميقة في وقار بعيد من التكلف. تحدّثنا عن ثقافته السينمائية التي تأسست في
ضواحي باريس في السبعينات، عن كوزموبوليته، فهو من أمّ يهودية وأب مسلم،
تربى في بيت عروبي يناصر القضية الفلسطينية. أثناء اللقاء، عبّر لي عن
انزعاجه من استخدام بعض المشاهدين للهواتف المحمولة خلال العروض في هذا
الجزء من العالم.
ظهراً، عُرض "الحقيقة" للياباني كوريه إيدا، الذي افتتح
مهرجان البندقية الأخير. الفيلم عن كاترين دونوف أكثر ممّا هو عن أي شيء
آخر. انه رسالة حبّ وتقدير لممثّلة شاهدناها في أفلام كبار السينمائيين.
يعتمد الفيلم في جزء كبير منه على دونوف بمساعدة من جولييت بينوش. هي تجسّد
نجمة فرنسية اسمها فابيان، صاحبة سلطة ومكانة. لئيمة، متعجرفة، صاحبة إيغو
ضخم، تعتقد ان الوجود كله يدور في فلكها. في مناسبة نشرها كتاب مذكراتها،
تجتمع بعائلتها الصغيرة في منزلها. بعض المقرّبين منها سيكتشفون انها لم
تذكرهم في كتابها. باقي الأحداث يتوالى بوتيرة لطيفة، دون بلوغ أي ذروة.
في الخامسة والنصف، توجهتُ إلى "الجامعة الألمانية"،
فالتقيتُ هناك مشاهدين يخرجون من "باكوراو" للمخرجين البرازيليين كليبير
مندونسا فيلو وجوليانو دورنيليس. هناك مَن يبدو شديد التأثر بما شاهده.
يسارية مخضرمة، تقول لي: "يجب تطبيق هذه التجربة في مصر، واسقاطها على
الاخوان المسلمين". "باكوراو" فيلم غريب اللهجة، متطرف، لا يساوم، يذهب إلى
أبعد نقطة في الطريق الذي يسلكه، وذلك بخطى ثابتة وأكيدة. نشأت الفكرة من
التمييز المناطقي الذي يعاني منه سكّان جنوب شرق البرازيل، مسقط رأس كلٍّ
من فيلو ودورنيليس. بدلاً من الاشارة إلى هذا التمييز بشكل مباشر، ارتأى
المخرجان الاستعانة بأكثر السبل تعقيداً: الرواية الخيالية. نجد أنفسنا في
أحداث تجري في المستقبل القريب، في عمق الريف، حيث قرية معروفة باسم
باكوراو، تعيش فيها جماعة بشيء من التناغم مع حاضنتها البيئية. طبعاً، هناك
مشاكل بين أفرادها، وهم ليسوا بالملائكة في أي حال. يشتد الصراع عندما يدخل
إلى القرية بعض الغرباء، ليعكّروا صفو المكان.
ينتهي يوم مهرجاني طويل بعرض "خيال السبت" للو يي. غونغ لي
مدهشة في هذه الدراما التجسسية المطعّمة بالرومنطيقية. الممثّلة الصينية
الكبيرة تجيد كيفية الدخول في لعبة الأقدار والامساك بخيوط الحكاية، فتجمع
أجزاءها المشتتة. ألغاز كثيرة تنمو حول شخصيتها، لكنها صلة الوصل بين كلّ
أطراف هذا العمل الشائق. وجهها يضيء الشاشة على امتدادها، بصورتها ذات
اللونين الأسود والأبيض.
اليوم السابع - الخميس ٢٦ أيلول
"أفلفش"
بعض الصفحات الالكترونية لأطالع ما كُتب عن المهرجان في الأيام الماضية.
الحكي عن الفساتين والأشياء السطحية كان الغالب في الدورتين الماضيتين.
الصحافة المصرية، ومثلها العربية، مهمومة بالترهات كالعادة. في هذه الدورة،
زاد عدد المنشورات التي تتناول الأفلام، سواء في مقاربات نقدية أو عروض
سريعة. هذا ما يؤكده في أي حال، أحد المسؤولين في الجونة. مع ذلك، هناك
محاولات دائمة لتسخيف المهرجان وإلصاق تهم به والزجّ به في منطقة غير
مرغوبة، كالقول انه مرتع للعري والخلاعة، فالفنّ، من وجهة نظر أنصار "الفنّ
الهادف"، لا يُمكن أن يكون أنيقاً يولي الأهمية لمظاهر البهجة والاغواء.
هناك في مصر هوسٌ بما يسمّى حفلي الافتتاح والختام اللذين تميل الصحافة
الصفراء التي لا تُشاهد الأفلام ولا تهتم بها إلى تقييم كلّ شيء انطلاقاً
منهما. هذه الصحافة بتركيزها البليد على كلّ شيء سوى الأفلام، تغذّي اعتقاد
الناس الخاطئ بأن المهرجان غير جدي. السجّادة الحمراء كثيراً ما تمد هذا
الاعلام بعناوين سطحية وفاضحة تشغل هواة النميمة، من مثل: "أكثر فساتين
صدمت السوشل ميديا"، و"اختلال توازن عادل إمام في حفل افتتاح الجونة".
عندما كانت المناسبة سانحة ظهراً لمشاهدة "عذراً، لم نجدكم"
لكن لوتش، سارعتُ إلى الصالة التي تعرضه. الفيلم كان قد فاتني في كانّ، ولن
يفوتني مرة أخرى. لا حاجة في الدخول إلى تفاصيل جديد المخرج البريطاني
الكبير. إنه الإنسان داخل المنظومة التي تسحقه وتذلّه. لعل ما يزعجني في
لوتش اعتقاده المتواصل بأن العالم أجمع مهموم بمتاعب موظف يعيش في بلد
كبريطانيا. الأمر الأكثر ازعاجاً هو ان لوتش محق، اذ ينتهي بنا الأمر أن
نهتم بما يعيشه ويعانيه، لتصبح فجأة متاعبه متاعبنا. لعله سحر السينما
والتضامن الذي تصنعه بين البشر.
خرجتُ من العرض منفعلاً، لا بسبب لوتش، بل لأن الشباب
المتطوعين في المهرجان قرروا ان يقطعوا الجنريك ليدخلوا الصالة ويخبروا
المشاهدين بأنه يجب عليهم التصويت للفيلم لـ"جائزة الجمهور". حركة رعناء
جعلتني أشعر بأن الفيلم سُرق مني. كأن أحدهم سحبه من يدي.
لحسن الحظ، في مصر، لا يستمر الانفعال طويلاً، هناك دائماً
شخص ينسيك الشخص الذي سبقه. سائقو التاكسي من هؤلاء. ففي السيارة التي
قادتني من "سي سينما" إلى الفندق، دار بيني وبين السائق الحوار الآتي:
-
بتشتغل ايه؟
-
حالياً سوّاق. بس أنا محاسب متجمّد.
-
متجمّد؟
-
آه. يعني عاطل عن العمل.
-
دي كلمة مستخدمة بمصر يعني؟
-
لا، أنا اخترعتها لتوصيف حالتي.
لاحقاً، خلال جلوسي في باحة الجامعة الألمانية، التقيتُ
سيدة مغربية خفيفة الدم، من عشّاق السينما. أخبرتني بأنها تلفّ المهرجانات
العربية حبّاً بالمشاهدة النهمة. هي ليست ناقدة ولا سينمائية، بل مشاهِدة
تتابع الجديد وتلتقي بالصنّاع. كنت أعرفها من الـ"فايسبوك" ولطالما لفتني
لديها استعمالها المفرط للنقاط. بعد كلّ كلمة تضع سطراً من النقاط. كلّ
كلمة خلفها نقاط. ما إن رأيتها حتى طلبتُ منها الكفّ عن هذه الممارسة
الشنيعة. تحدّثنا عن الأفلام التي شاهدناها خلال الاسبوع، عن المغرب الذي
بات يصعّب على اللبنانيين الحصول على تأشيرة، عن أي شيء وكلّ شيء، ثم أحدهم
التقط لنا صورة.
عند تمام الثالثة، كان عرض "بارانزا الأطفال" للمخرج
الإيطالي كلاوديو جيوفانّيزي. كان يمكن لهذا الفيلم أن يغدو مجرد فيلم آخر
عن المافيا النابوليتانية، الا ان وجود الروائي روبرتو سافيانو خلفه أنقذه
من هذا المصير. فسافيانو، الصحافي الشهير المطارد من المافيا الذي أدهشنا
بـ"غومورا" في العام ٢٠٠٨، هو الحجر الأساس لهذا الفيلم، علماً ان إخراج
كلاوديو جيوفانّيزي يقوم بالواجب على أكمل وجه. العنف والضغائن والكيد
والتصفيات الجسدية بين مختلف العصابات التي تهيمن على المدينة، هذا كله
يصوّره المخرج من وجهة نظر شلة من الصبيان، هم صنّاع العنف ومشاهدوه في آنٍ
واحد، وهذه ظاهرة حقيقية في نابولي. لا يوجد في قلوب هؤلاء ما يكفي من الشر
لنتمنى معاقبتهم. هم ولدوا في المكان الخطأ وسلكوا الطريق الخطأ نظراً إلى
عدم توافر البدائل.
أما ختام اليوم ما قبل الأخير، فكان مسكاً: "استراتيجيا
العنكبوت" (١٩٧٠) لبرناردو برتوللوتشي، المعروض في اطار استعادة الأفلام
القديمة. التحفة المقتبسة من بورخيس أحد أجمل أفلام المخرج الإيطالي الذي
رحل العام الماضي. انها محاولة موفّقة للتطرق إلى جانر سينمائي برع فيه
الإيطاليون: التراجيكوميديا. سكّان بلدة تارا يعتزّون بمناضلهم السياسي
الذي اغتاله الفاشيون في العام ١٩٣٦. يبدأ الفيلم مع وصول ابنه إلى البلدة
لمعرفة المسؤولين عن مقتله وصون ذكرى هذا الأب الذي لم يعرفه يوماً. بيد
انه يكتشف ان معرفة الحقيقة ليست بتلك السهولة التي كان يعتقدها. يفهم ان
التحقيق الذي يجريه، غير مرحّب به، قبل ان يصطدم بجدار من الصمت
والميثولوجيات. صوَّر برتوللوتشي الفيلم (للتلفزيون) في مسقطه، ما يعطيه
طابعاً أوتوبيوغرافياً، وخصوصاً ان صورة الأبّ، والتماهي الملتبس معه الذي
يعبر معظم أفلامه، حاضرة فيه بقوّة.
اليوم الثامن - الجمعة ٢٧ أيلول
مقابلة صباحية تجمعني بالمخرج السوداني صهيب قسم الباري،
صاحب فيلم "التحدّث إلى الأشجار"، المتزوج حديثاً. روى لي ان أحدهم بعث
إليه برابط المقال الذي كتبته عن فيلمه، قائلاً له بسعادة ان "ناقداً
ألمانياً أحبه جداً". اعتقد المسكين، بسبب اسمي غير المألوف، بأن أنغيلا
ميركل وأنا نحمل جواز السفر نفسه. اعترف المخرج الشاب بأنه شعر بالذنب ان
أمه لمّحت له عن رغبتها في حضور الجونة، لكن ذلك لم يحصل. فهي ساعدته
كثيراً في إنجاز الفيلم، ولا سيما في أمور لوجستية، والأرجح انه سيحتاجها
مجدداً في أفلامه المقبلة. فور الانتهاء من قسم الباري، كانت لي جلسة مع
هاني أبو أسعد، الموجود هنا مع زوجته. استعدنا تجربته الهوليوودية الأخيرة،
"الجبل بيننا". أقر بأن الأمور في عاصمة السينما الأميركية بدأت بالتحسن
بالنسبة إلى العرب، لكن أبوابها لا تزال مفتوحة للمطبّعين (مع إسرائيل) على
وجه الخصوص.
بعد صراع داخلي طويل، قررتُ التغيب عن حفل الختام وتوزيع
الجوائز، والبقاء في الغرفة للعمل. زميلة بدأت ترسل إليَّ النتائج تباعاً
من مسرح المارينا. فرحتُ لفوز الفيلمين السودانيين، "ستموت في العشرين"
و"التحدّث إلى الأشجار". نال الأول نجمة الجونة الذهب للفيلم الروائي
الطويل، أما الثاني فاستحق نجمة الجونة الذهب لأفضل فيلم وثائقي. الأناقة
السودانية فعلت فعلتها على السجادة الحمراء. هند صبري حبست دموعها وهي
تتسلم جائزة التمثيل عن دورها في "حلم نورا". جوائز بقمية ٢٢٤ ألف دولار
وُزِّعت على المشاركين. أما ستيفن سيغال فأُعطي جائزة تكريمية. جاء مرتدياً
ملابس يابانية، ودخل المسرح وسط حراسة مشددة. |