كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان كان يعرض فيلما طال انتظاره رغم التهديدات

أمير العمري

كان السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 

فيلم "الرجل الذي قتل دون كيشوت" ختام كان السينمائي، لمخرجه البريطاني تيري غيليام، الذي أشار في بداية عرضه إلى أن المدة التي استغرقها إنجاز العمل ربع قرن.

بعد 25 سنة من المحاولات المتعثرة استطاع المخرج تيري غيليام صاحب “برازيل”، “الملك الصياد” و”12 قردا” أن يكمل تصوير فيلمه “الرجل الذي قتل دون كيشوت” The Man Who Killed Don Quixote وأن يأتي به للعرض في ختام مهرجان كان، رغم المشاكل القضائية التي يواجهها من قبل المنتج السابق البرتغالي للفيلم الذي يُطالب غيليام بدفع أربعة ملايين يورو على سبيل التعويض بدعوى إخلاله بشروط عقده معه، ولجوئه إلى غيره من المنتجين بينما يمتلك المنتج السابق، حسب قوله، حقوق الفيلم.

كان غيليام محقا دون شك في البحث عمن يمكنهم إخراج الفيلم من عثرته التي طالت بسبب المماطلة والتسويف والرغبة في فرض أشياء محددة، وقد أحسن مهرجان “كان” صنعا بالمضي قدما في عرض الفيلم، رغم الدعوى القضائية المستعجلة التي أقامها المنتج البرتغالي في باريس ضد المهرجان وخسرها واستمر في تهديداته، وقد أضيفت إلى بداية الفيلم لوحة تقول إن عرضه في المهرجان لا يقوّض حق المنتج البرتغالي في اللجوء للقضاء.

لكن النتيجة التي ظهرت على الشاشة أمامنا بعد أكثر من ساعتين، جاءت مخيبة للآمال، وكان هذا الفيلم الثاني الذي يشهد مغادرة قاعة العرض المخصصة للنقاد والصحافيين أكبر عدد منهم بعد فيلم المخرج الدنماركي المشاغب لارس فون تريير “المنزل الذي بناه جاك”، وإن كان هناك ما يمكن الاستمتاع به -سينمائيا- في فيلم فون تريير، في حين تغيب المتعة عن فيلم تيري غيليام المتعثر المرتبك.

للوهلة الأولى سوف يتصوّر المرء أن الفيلم يقدم معالجة جديدة لقصة دون كيشوت لثرفانتيس، ولو بشكل متحرّر قد يصل إلى أقصى درجات السريالية كما اعتدنا في أفلام تيري غيليام السابقة، وأفضلها في رأيي الشخصي، “مغامرات البارون مونكهاوزن” (1988).

لكنك سرعان ما ستكتشف أن الفيلم ليس عن دون كيشوت، بل عن ممثل تقمص دور دون كيشوت إلى أن صدق نفسه وجن جنونه، هذا الممثل الهاوي أصله صانع أحذية ريفي فقير عثر عليه مخرج أميركي محبط لا يمكنه تحقيق أحلامه الفنية، فيلجأ إلى إخراج الإعلانات التلفزيونية عن الفودكا وأشياء أخرى، لكنه يكتشف فجأة فيلما قصيرا أخرجه وهو يدرس السينما عن دون كيشوت، فيقرّر عمل فيلم طويل امتدادا له يذهب لتصويره في المواقع الحقيقية التي شهدتها أحداث الرواية الملحمية في إسبانيا.

وهذا هو “توبي” (آدم درايفر) الذي يسند إلى صانع الأحذية العجوز دور دون كيشوت في الفيلم الذي يعتزم تصويره، فيتقمص الشخصية ويتخيل نفسه فارسا مغوارا من فرسان العصور الوسطى، يخوض المغامرات التي لم يعد لها وجود في عالمنا، ويصبح وكأنه يعيش في الماضي معتقدا بإصرار أن توبي ليس سوى تابعه الأمين “سانشو”.

إلاّ أن سياق السرد في الفيلم لا يسير بحيث يمكنك أن تفهم منه شيئا أو تستخرج فكرة إنسانية أو فلسفية جديدة، هناك بعض الإشارات إلى المفارقة الكامنة بين الخيال القديم والواقع اليوم الذي تغلب عليه المادة والتدهور، ولكن حتى هذه الفكرة غير واضحة تماما في سياق الفيلم، وهناك تصوير كاريكاتوري هزلي في مجال نقد مشاكل الإنتاج السينمائي في أوروبا اليوم مع سخرية فجة من المنتجين السينمائيين، وكأن غيليام يوجه انتقاده الشخصي إليهم، ولكن دون حس كوميدي حقيقي.

ولا يحرص غيليام على التحكم في سياق السرد، بحيث يجعلك تتمكن من متابعة شخصية الممثل المتقمص لدور دون كيشوت، في جنونها وعالمها الذي يبدو كعالم الأحلام، بل يعود الفيلم دائما إلى الغمز على شخصية تيري غيليام نفسه وحيرته وتخبطه وعجزه عن استكمال مشروعه من خلال شخصية المخرج توبي.

يحاول توبي أولا إغواء زوجة المنتج “سارة”، ثم يقع في غرام “أنجليكا” الجميلة ابنة صاحب الحانة في القرية التي بدأ التصوير فيها، ثم يهرب مع بطله لينطلق في ربوع إسبانيا، لكن الممثل الذي يلعب الدور وهو بالغ الضعف وبدت عليه علامات الشيخوخة، يرتدي ملابس القرون الوسطى ويتسلح بسيفه ويركب حصانا، ويدخل في مغامرات عنيفة وتحديات يخرج منها سليما بمعجزة ما.

وفي ما بعد يجد توبي وبطله أنفسهما داخل قلعة أسطورية في الجبل، حيث يقيم ملياردير روسي حفلا باذخا بملابس القرون الوسطى، يحضره منتج فيلم توبي وزوجته التي تحاول مجددا إغواء توبي، لكنه يكون قد تعلق بحب أنجليكا التي أصبحت “محظية” لدى الملياردير الروسي بعد أن عرفنا من والدها من قبل أنها فرت من قريتها وذهبت إلى مدريد حيث أصبحت عاهرة محترفة، وقد أصبحت الآن -وفجأة- تخضع بالكامل للسيد الروسي الذي اشتراها.

لكن توبي سيقوم بتحريرها من العبودية، أما دون كيشوت أو صانع الأحذية المسكين، فيواصل العيش داخل أحلامه المجنونة متصورا أن أنجيليكا هي دولثينا التي أحبها في شبابه، يبارز طواحين الهواء التي يتصوّر أنها عمالقة تريد الفتك بها، يريد أن يثبت لها أنه يتمتع بالفروسية والشجاعة، لكن حماقته ورفضه الانصياع للواقع، يؤديان إلى موته. ويكون السبب في موته، من دون قصد، رفيقه مانشو أو توبي.

هذا الخليط العجيب الذي يدور في أجواء تقع بين الحلم والحقيقة والخيال على صعيد الكوميديا في سياق مفكك مرتبك، ومواقف وتعليقات ثقيلة الظل، لا ينجح في انتزاع ضحكاتنا، فطريقة الأداء عند كلا الممثلين الرئيسيين: جوناثان برايس وآدم درايفر، مفتعلة ذات طابع مسرحي خطابي، كما تفسد كثرة الحوار والانتقالات غير المفهومة الحبكة، ولا تتمكن الديكورات الباهظة والملابس والحيل السينمائية من إنقاذ الفيلم من السقوط في التكرار والمبالغات مع ضعف الأداء الكاريكاتوري.

والنتيجة أن تيري غيليام لا يتمكن من تجاوز “البارون مونكهاوزن” الذي كان يتمتع بخيال خصب بديع وحبكة محكمة، وشخصيات إنسانية لديها هدف واضح وفلسفة في الحياة. فما الذي يرمي إليه دون كيشوت في طبعته المتعثرة هذه على أي حال؟ لا أحد يمكنه أن يجيب عن هذا السؤال ولا أظن أن تيري غيليام نفسه يعرف الإجابة!

لا شك أن الفيلم يترك في النهاية شعورا بالأسى والشفقة تجاه منتجي الفيلم الذين أنفقوا ما يقرب من 24 مليون دولار في عمل لا نظن أنه سيجني لهم شيئا!

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

25.05.2018

 
 

جون ترافولتا لـ«الشرق الأوسط»: مازلت منفتحاً على التجارب

كان: محمد رضا

الحفلة الليلية التي حضرها جون ترافولتا، والتي أقامتها «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب» على هامش مهرجان كان، أدت إلى لقاء تم على الرغم من صخب الموسيقى وزحمة المحيطين به وضيق الوقت. أوحى جون ترافولتا في البداية، عن طريق الهمس في أذن وكيلة أعماله، بأنه لا يود التحدث عن «بالب فيكشن». سمعته يقول لها «كل المحاورين ما زالوا يسألونني عن ذلك الفيلم»، وقبل أن تنقل لي ما بدا شرطاً للحديث هززت رأسي لها وقلت: «سمعت ولا مانع عندي».

المفاجأة هي أنه هو الذي تولى في غضون مقابلة استمرت عشر دقائق فقط العودة إلى فيلم كوينتن تارانتينو «بالب فيكشن». ابتسمت وتركته يتكلم، وفيما يلي نص الحوار:

·       أنت هنا كضيف في حفلة هذه الجمعية الأميركية وكنت حضرت حفلات توزيع جوائزها المسماة بـ«غولدن غلوب» أكثر من مرّة. أين تكمن أهمية هذه الجمعية بالنسبة لك؟

- أوه… تتحدث عن علاقة قديمة عمرها أكثر من عشرين سنة. هذه الجمعية هي أكثر من حفلة «غولدن غلوبس». هي مكان للفيف من الصحافيين السينمائيين المسؤولين الذين يواكبون العمل كل سنة لتقدير الأفلام وصانعيها بجدية. كما أنها مصدر لمنح توزعها سنوياً لجمعيات وأفراد يعملون جاهدين في سبيل تأمين حياة أفضل. هذه هي الجمعية تحديداً. وأنا سعيد دائماً بوجودي هنا. أنت عضو فيها أليس كذلك؟

·       نعم، منذ سنة 2000. كم مرّة حضرت مهرجان «كان» وهل تلاحظ فرقاً بين المرّة الأولى واليوم؟

- حضرته عدة مرات لكني أستطيع المقارنة بين المرّة الأولى عندما جئت إلى هذا المهرجان الحافل مع كوينتن تارانتينو بفيلم «بالب فيكشن» سنة 1994. تارانتينو صاحب السعي للاشتراك في مهرجان «كان» أما أنا فكنت واحداً من الممثلين المشتركين الذين صحبناه إلى هنا. ولا أستطيع أن أنسى الذهول الذي أصابني من حجم المهرجان الكبير وما يحدث فيه. كان اكتشافاً. اليوم ما زال يبدو لي أهم حدث سينمائي في العالم.

·       لا شك أن فوز «بالب فيكشن» بالسعفة الذهبية آنذاك كان مفاجئاً. أليس كذلك؟

- بلا ريب. حتى تارنتينو لم يكن واثقاً من أن فيلمه سيخرج بالسعفة. بالنسبة لي لم أفكر بهذا الموضوع لكني بالطبع كنت آمل أن يتحقق.

·       هل ما زلت تعتقد أنه الفيلم الذي أعاد تقديمك إلى الجمهور؟

- بكل تأكيد. نقل جون ترافولتا من نجم للجمهور الشاب (إشارة إلى بعض أفلامه الأولى ومنها «سترداي نايت فيفر») إلى ممثل ناضج.

·       ما المرحلة التي تمر بها اليوم بعد أكثر من 40 سنة على تحوّلك إلى ممثل؟

- يصعب علي تحديد ذلك على مستوى فني. أنا ما زلت الممثل المنفتح على التجارب والباحث عن أفلام لها قيمة فنية ومعنوية وتجارية، إذا أمكن الجمع بين هذه الجوانب فعليا. هي مرحلة جيدة بالنسبة لي والسبب في ذلك هو كل ما سبق لي وأن مثلته من أفلام خلال تلك السنوات. لم يكن كلها جيد ولا كلها ناجح لكنها ساعدتني على تكوين اسم جيد ومحط ثقة.

·       هل يقلق احتمال الفشل؟

- لا. لا أدعه يقلقني لأن القلق مضر يؤدي بصاحبه إلى فقدانه الحس السليم والتعامل مع الواقع. أنا فخور بما حققته رغم أنه من المستحيل على أي ممثل أن يتجنب فشل بعض الأفلام أو عدم رضا النقاد والجمهور عن بعض أفلامه. لكن ذلك لا يؤثر عليّ.

·       من هو المخرج الجيد في نظرك؟

- هو المخرج الذي يتركك تنفذ ما تراه صواباً. دعني أفسر هذه النقطة لأنها قد تكون منطقة شائكة. أحب العمل مع مخرج لديه خطّة واضحة ورؤية محددة لما يريد. وأحب أكثر العمل مع مخرج يتمتع بهذه الصفات وفوقها أنه يترك للممثل حرية أداء الدور كما يعتقد الممثل وليس تنفيذاً محدداً وضيقاً لرغبة المخرج.

·       من المخرجين منحك هذه الحرية؟

- كثيرون. لديك روبرت ألتمان وكوينتن تارنتينو وجون وو

·       هل هناك من ممثل أحببت طريقته في الأداء أو أثر فيك؟

- لا أريد أن أجامل لكن الحقيقة هي أن هناك أفلاماً أثرت في وممثلين أثروا في داخل هذه الأفلام. لكن لو حاولت التقليد لفشلت تماماً. لذلك ليس هناك من ممثل حاولت تقليد خطواته أو أثر في لدرجة أنني أردت أن أكون هو.

####

سينما جان ـ لوك غودار... كتاب من الصور والتجريب

أفلامه ألغاز تحيّـر النقاد وتقسم المثقفين

لندن: محمد رُضـا

إذ عاد جان - لوك غودار إلى التنفس من رئة السينما في فيلمه الجديد «كتاب الصورة»، عاد الوسط السينمائي بدوره إلى تداول مخرج كان اقترح على الممثل وورن بيتي ذات مرة أن ينقل أحداث الفيلم الأميركي المقتبس عن شخصيات وأحداث أميركية تماماً (هو فيلم «بوني وكلايد») إلى اليابان.

هذا حدث عندما توجه الممثل - المنتج بيتي إلى المخرج الراحل فرنسوا تروفو يسأله إخراج هذا الفيلم البوليسي عن العصابة التي شغلت عناوين الصحف في سنوات اليأس الاقتصادية أواخر العشرينات. تروفو هو الذي اقترح على بيتي أن يتوجه إلى غودار وغودار وافق على أن يتم نقل الأحداث إلى اليابان.

في النهاية، قام الأميركي آرثر بن بتحقيق هذا الفيلم الأساسي في بنية السينما الأميركية في الستينات، وبقي الفيلم أميركياً خالصاً بدوره. لكن إذا ما كان قدر كبير من الاستعجاب حل محل الإعجاب لدى بيتي، الذي سمع وتابع قيام تروفو وغودار بخلق سينما فرنسية جديدة في الستينات ما دفعه إلى محاولة العمل مع أحدهما، فإن كلا المخرجين أكملا شق طريق واحد سرعان ما تفرّع إلى اثنين.

- نشاط وانحسار

فرنسوا تروفو حافظ على منواله في تحقيق أفلام غزلية - رومانسية تستعير من تجاربه الشخصية حيناً وتلتزم بتجارب مكتوبة للسينما برهافة وحس فني جميل. غودار انصرف إلى العمل بمقتضى مفهوم مغاير تماماً: سينماه عبّرت عن نظرته الغاضبة على أحوال العالم وعن لجوئه حيناً للماوية وحيناً للفلسفة الفوضوية مع تفعيل غير سلس في سرده وعرضه لما يريد تقديمه.

ما بدأ لدى غودار علامةً رائعةَ قوامها تحقيق أفلام لا تُـدير ظهرها للجمهور المواكب، انتهى إلى تمرده حتى على سينماه الأولى وانتهاج سلسلة أعمال تحمل طابعاً تجريبياً محضاً. البداية كانت مع «نفس لاهث» سنة 1960 والفترة استمرت حتى عام 1968 بتحقيقه فيلم «واحد زائد واحد».

بعد ذلك هو سينمائي يخرج من تجاربه الأولى مع المونتاج والكتابة والتحقيق إلى داخل سينما وجودية متأثرة بسينما المخرج الروسي دزيغا فرتوف. سينما مركّـبة بدأت بفيلم «حكمة مرحة» (1968) واستمرت بضع سنوات رفض فيها العمل ضمن «النظم البرجوازية». مثل فرتوف، وصف غودار العمل مع التقاليد السائدة بالأمر الشائن وتطلع إلى وقت يستطيع فيه فرض سينما تهم الناس وتتعامل مع التزاماته السياسية بصدق. ألّف وجان - بيير غوران جماعة «دزيغا فرتوف غروف» وأعلن أن أفلامه ستقوم على «صنع أفلام ثورية بأسلوب ثوري».

كان طبيعياً، إذن، أن ينقطع المخرج عن العمل مع سينمائيي الصناعة الفرنسية بالكامل واعتبارهم سبباً في تخلف الوعي الاجتماعي وعدم قدرة السينما التي يقدّمونها على معالجة مشكلات الحياة على الأرض.

تبع ذلك، في السبعينات، نقلة أخرى انقلب فيه غودار حتى على بعض أعماله السابقة. أسس شركة اسمها «بلا صورة» (Sonimage) وقام، وزوجته (الثالثة) آن ماري ميافيل بالانتقال لبلدة غرينويل. هذه الفترة كانت نشطة في مطلع السبعينات ثم انحسرت عن أعمال أقل عدداً في النصف الثاني من العقد. في النصف الأول أنجز أشياء قلما شوهدت من بينها «فلاديمير وروزا» (1971) الذي ما زال يحمل فكرة مثيرة بحد ذاتها. فهو عن لينين وكارل روزا. هو لعب الدور الأول وغوران لعب الثاني في حكاية أريد لها أن تنتقد المجتمع الفرنسي. ليس تمثيلاً كذاك الذي قد يقوم به جان - بول بلموندو أمام ألان ديلون، مثلاً، بل محاورة بين الاثنين تتعرض لمساوئ المجتمع الفرنسي وتاريخ ثورته السابقة.

«كل شيء على ما يرام» (1972) كان نظرة غودارية على بنية السينما من خلال الرغبة في تثويرها. هناك جين فوندا (في قمة معارضتها للحرب الفيتنامية) لجانب إيف مونتان، ومرّة أخرى، يضع ممثليه في حالة حوار طويل أكثر من مرّة ويلعب بأدوات التوليف بحيث يفشل المشاهد، كالعادة منذ فيلم غودار الأول، في التأكد مما يرى والانكفاء عن التوقع لما سيحدث خلال الفيلم.

- سيد أسلوبه

بعد ذلك شاهدناه مخرجاً لسيناريو شاركت زوجته في وضعه لجانب السيناريست الفرنسي المأثور جان - كلود كارييه هو «كل رجل لنفسه» مع إيزابيل أوبير ونتالي بأي وجاك دوترونك. فيه نظرة على العلاقات العاطفية التي يعيشها الناس. لا تخلو هذه النظرة من النقد، لكن الحال هو أنه لم يعد نقداً على بساط واسع من العرض، بل بات أكثر تحديداً.

خلال الثمانينات لم يتوقف غودار عن امتطاء حصان الموضوع النقدي والتحليلي للمجتمع بعين لم تعد ماوية، لكنها بقيت يسارية النزعة، وآخر تشكيلي. «فيلمه «تحري» (مع جان - بيير ليو وكلود برسور وجوني هاليدي وجولي دلبي، سنة 1985) كان عودة إلى سينما مروية جيداً تذكر بمطلع سنواته وتتجاوزها في النتائج الفنية. هذا تكرر مع «مرحى يا ماري» (1985 أيضاً) وكلاهما أفضل ما أنجزه غودار في تلك الفترة.

المرحلة الجديدة لا يمكن إلا تقديمها مرحلةً فنيةً متكاملةً. هو المفكر الذي جرب وتعلم من تجاربه فازداد يقيناً، ولو أن هذا اليقين فردي التوجه. لا بأس، من حق المبدع أن يؤمن بما يريد طالما أن النتائج المرتسمة كلوحات أو كمقطوعات موسيقية أو على شاشات السينما، تؤمّن ما يريد توفيره لجمهوره بنجاح.

هو ما زال سيد السينما التجريبية. أفلامه، بما فيها هذا الأخير: «كتاب الصورة»، هو لقاء توسطي بين الوثيقة والتجريب. في أفلامه القريبة الأخرى (مثل «جسور إلى ساراييفو» و«وداعاً للغة») هو لقاء توسطي آخر بين الحكاية والتجريب. وهو اليوم مثار إعجاب ملحوظ. هناك نقاد لا يطيقون أعماله ولا يرغبون في فك ما يعتبرونه ألغازاً، لكن هناك أكثر منهم ممن تعلم كيف يرى أعمال غودار من منظور المخرج نفسه ويقدرها. طبعاً كل أعماله ما زالت مثار حيرة مشاهديها، نقاداً وجمهوراً، لكن الرجل، وقد بلغ الثمانين، صلب في اختياراته وأعماله وأفكاره. حين يرحل لن يستطع أحد أن يقول عنه إنه خان ذاته على الإطلاق.

الشرق الأوسط في

25.05.2018

 
 

أنا حرة

حمد الله ع السلامة

بقلم: رانيا الزاهد

شهدت الدورة الـ71 من مهرجان كان السينمائي، عودة قوية للسينما العربية بمشاركة »كفر نحوم» لنادين لبكي والذي فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، وفيلم » يوم الدين» للمخرج ابو بكر شوقي وفاز بجائزة »فرانسوا شاليه»، بينما نالت المخرجة المغربية مريم بن مبارك، جائزة أفضل سيناريو عن فيلمها »صوفيا » الذي شارك في قسم» نظرة ما»؛هذه الجوائز التي اقتنصها العرب من اعرق مهرجانات العالم ليست الشاهد الوحيد علي التمثيل المشرف للعرب في المهرجان، ولكن ايضا اختيار ادارة المهرجان للفلسطينية لآن ماري جاسر لعضوية لجنة تحكيم قسم »نظرة ما»، له دلالات اخري كثيرة..هذه الدورة ايضا شهدت اقامة أول جناح للسينما الفلسطينية ليرتفع علمها وسط اعلام اكثر من 30 دولة في القرية العالمية بـ»كان» بالإضافة لجناح الأفلام السعودية المشارك في المهرجان، والذي اصبح مؤشرًا علي توجه المملكة نحو تطوير صناعة السينما، وأخيرًا اطلاق إدارة مهرجان الجونة لعدد من الفعاليات واللقاءات التي جعلت الجونة حديث صناع السينما العالمية.. »حمد الله ع السلامة يا عرب»

أخبار اليوم المصرية في

25.05.2018

 
 

"قماشتي المفضلة" فيلم عن هواجس الذات والحالة السورية

أمير العمري

ضعف سيناريو "قماشتي المفضلة" وخوائه وعدم قدرة كاتبته غايا جيجي، وهي المخرجة نفسها، على تطويره جعل الفيلم يبدو أكثر إثارة لاهتمام المشاهد.

أرادت المخرجة السورية غايا جيجي أن تصنع من فيلمها “قماشتي المفضلة ” الذي عرض في مهرجان كان الأخير، عملا جريئا يستند إلى “سينما المؤلف”، يعبّر عن فكرها الخاص باعتبارها تنتمي إلى التيار النسائي الفكري المعروف بـ”الفمينزم”، ففيلمها يدور حول شخصية فتاة سورية شابة تدعى “نهلة” تعيش مع أسرتها المكونة من الأم وثلاث شقيقات (لا وجود للأب فقد توفي) في عمارة سكنية في دمشق، وهي تعمل في محل لبيع الفساتين والأقمشة في دمشق، علما وأن التصوير تم في تركيا وباريس، كما أن الفيلم من الإنتاج المشترك الفرنسي التركي الألماني.

إلا أن المشكلة الأساسية في الفيلم تتمثل في ضعف السيناريو وخوائه وعدم قدرة كاتبته وهي المخرجة نفسها، على تطويره ودفع مواقفه وأحداثه بحيث يبدو أكثر إثارة لاهتمام المشاهد.

عرض فيلم “قماشتي المفضلة” للمخرجة السورية المقيمة في باريس غايا جيجي، في تظاهرة “نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي الـ71، وقد انتظر الكثيرون مشاهدة الفيلم الذي يعتبر العمل الأول لمخرجته، كما أن ما سبقه من تصريحات للمخرجة أوحى بأن فيلمها يتجرأ على اقتحام ما يمكن اعتباره من “المسكوت عنه” في السينما العربية عموما

تندلع أحداث ثورة الغضب السورية في مارس 2011، وتتمدّد الأحداث التي نشاهدها من خلال لقطات تسجيلية، ويظهر الرئيس بشار الأسد مرات عدة، ثم نسمع صوته وهو يلقي خطابا من خطاباته الديماغوجية المألوفة التي يدين فيها الثورة ويؤكد على وحدة الصف، وتنفجر الحرب الأهلية، وعمليات القصف الجوي للمدن الآمنة، وترويع المدنيين بواسطة الجيش والميليشيات.

ومع ذلك، لا يجب أن يتوقع أحد أن يكون للفيلم أدنى علاقة بالثورة لا من قريب ولا من بعيد، فهي تظهر على فترات متقطعة خلال السياق، سواء من خلال لقطات لما تعرضه قنوات التلفزيون (غير السورية) مع مقاطع من أحاديث بعض أقطاب المعارضة أو ممثلي السلطة، ثم بعض اللقطات التي ألفناها في الأفلام التسجيلية عن الثورة للتعذيب وقمع الثوار على أيدي رجال الأمن، ثم القصف وتدمير المدن السورية.

أما علاقة نهلة بهذه الأحداث فلا وجود لها في سيناريو الفيلم، فهي تقريبا لا تغادر البناية التي تقيم فيها، إلاّ لكي تصعد إلى شقة في الطابق الأعلى تقيم فيها سيدة تدعى “مدام جيجي” حوّلت شقتها إلى بيت دعارة، حيث تعمل معها مجموعة فتيات وتستقبل الزبائن من الرجال ومن بينهم شاب تصنع منه نهلة في خيالها الخاص صورة عاشق ولهان، يحبها ويخضع لها خضوعا تاما في الفراش، ولكن من دون أي مشاهد للقاء الجنسي، فالفيلم يلمس الموضوع من على الأطراف رغم وجود بعض مشاهد العري.

نهلة إذن تعيش من البداية داخل عالمها الذي صنعته في خيالها، بكل ما فيه من أحاسيس ومشاعر جنسية مكبوتة، تريد أن تعبر عن نفسها لكنها تبدو مشلولة. أمّها تدبر لها زيجة من شاب سوري مهاجر في أميركا مع أسرته منذ أن كان صغيرا، لعله يتيح لنهلة وأسرتها فرصة الهجرة إلى أميركا، وبالتالي الفرار من الواقع الخانق في دمشق. وهذا هو “سمير” الذي يأتي مع أسرته لخطبتها، لكنها تعامله بنوع من التحدي، بل وتوجه له أيضا بعض الإهانات احتجاجا على قبوله هذا النوع من الزيجات المدبرة.

ورغم رفض نهلة له بوضوح من خلال الحوار الذي يدور بينهما، إلاّ أنها تشعر بالغضب الشديد والإحباط بعدما يقرّر سمير أن يخطب شقيقتها الصغرى “مريم” ويتخلى عنها وتحلم بأنه عاد إليها واعترف لها بخطئه، ثم تزداد عزلتها ووحدتها واستغراقها في أحلامها المليئة بالمشاعر الجنسية التي لا ترتوي قط، لدرجة أنها تستأجر غرفة في شقة مدام جيجي بدعوى أنها ستستقبل فيها حبيبها.

لكن الحبيب المنتظر لا يأتي أبدا بالطبع، وتكتفي هي بالاستلقاء فوق الفراش والعيش في أحلامها، بل وفي مرحلة ما سيحل محل الحبيب المجهول شاب آخر، جندي يرتدي ملابس الجيش السوري، عنيف وسادي وفظ، يطلب منها أن تقص عليه قصة سيدنا يوسف، فتأخذ في تكرارها مرارا دون أن تفلح في الربط بينها وبين خيالات نهلة والواقع السوري في الخارج.

ربما كانت غايا جيجي تريد أن تقول إن نهلة بكل إحباطها وعجزها عن التحقّق وممارسة حياتها كما تحب، هي نتاج لمجتمع القهر السوري، لكن هذه تبقى مجرد فكرة طموحة للغاية في سياق سينمائي غامض ملتبس على نحو يستعصي عن الفهم، ناهيك عن عدم القدرة على الاستمتاع.

وفي المقابل، هناك بعض اللقطات المتقنة بشكل جيد كتوزيع الضوء وزاوية الكاميرا وتنسيق المناظر والتكوين، ولكن الفيلم يبدو بشكل عام مقطوع الصلة بالأحداث التي تدور في سوريا اليوم، وهو موضوع يستغله الفيلم فقط من الخارج من دون أن تنجح المخرجة في جعله مرتبطا بشكل عضوي بشخصية بطلتها المحبطة.

ورغم ذلك، ومن بين الجوانب الإيجابية في الفيلم عنصر التمثيل، وهنا يمكن القول إن منال عيسى التي تقمصت دور نهلة استطاعت أن تعبّر عن جبال الحزن واليأس المبكر الكامن داخل الشخصية، لكن المشكلة أنها كانت مضطرة لتكرار التعبير عن المشاعر نفسها بسبب عدم تطوّر الشخصية في سياق السيناريو، كما تميز كثيرا أداء علا طباري في دور مدام جيجي، بحضورها القوي وقدرتها على التماهي مع الشخصية التي تؤديها، لكن أمام غايا جيجي الكثير لكي تتعلمه وتعمل عليه قبل أن تتمكن من إنجاز عمل أكثر تماسكا.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

26.05.2018

 
 

فلسطين تحضر بقوة في المهرجانات السينمائية الدولية

مبدعون يعرّون السينما الإسرائيلية

سليم البيك

باريس – «القدس العربي»: انتشر خبرٌ قبل بدء مهرجان كان الأخيراً، بأيّام، حول توقيع المخرج الفرنسي جان- لوك غودار، مع سينمائيين آخرين، عريضة تدعو لمقاطعة حدث خاص بالسينما الإسرائيلية.

وكلّما حضر اسم غودار ستتم الإشارة غالباً إلى مناصرته للفلسطينيين، في الصحافة الفرنسية وغيرها، حتى أثناء الحديث عن فيلمه المشارك في المهرجان، «كتاب الصورة» – وقد حصل ذلك- الذي نال سعفة ذهبية خاصة، استُحدثت خصيصاً في هذه الدورة لهذا المخرج الذي تصدّرت صورة لفيلم سابق له، «بييرو المحنون»، ملصق الدورة 2018، كما تصدّرت صورة أخرى ملصق دورة 2016 من المهرجان، وكانت من فيلمه «احتقار».

«طريق سمّوني»

لكن لنترك جانباً هذا الاحتفاء بأحد أبرز مناصري القضية الفلسطينية عالمياً، ونركّز على إشارات أكثر مباشَرة في ما يخص الحضور الفلسطيني في دورة هذا العام من المهرجان، نبدأها بفيلم «طريق سمّوني» للإيطالي ستافانو سافونا، الذي شارك في المهرجان ونال في تظاهرة «أسبوعَي المخرجين» جائزة «العين الذهبية» للأفلام الوثائقية.

يروي الفيلم عملية القتل الجماعي، التي تعرضت لها عائلة السموني عام 2009.حين قتل الجيش الإسرائيلي 29 فرداً من العائلة خلال الحرب الأخيرة على غزة.دمج الفيلم بين «الأنيميشن» والوثائقي، ونافس على الجائزة 16 فيلماً آخر، من بينها فيلم لفيم فيندرز عن البابا فرانسيس، وأفلام وثائقية أخرى عن المغنية ويتني هيوستن والسينمائي أورسون ويلز.

وفلسطين، التي لم تَحضر بفيلم هذا العام، حضرت قبل بدء الدورة بأيام، حين أُعلن عن اسم المخرجة آن ماري جاسر عضو لجنة تحكيم في مسابقة «نظرة ما»، وهي التظاهرة الموازية للمسابقة الرسمية، وقد ترأس اللجنة الممثل الإسباني الأمريكي بينيسيو ديل تورو، الذي رافق جاسر، مع باقي لجنة التحكيم، إلى جناح فلسطين في المهرجان للمشاركة في دقيقة صمت احتجاجاً على الجرائم التي مارسها جيش الاحتلال مؤخراً على المتظاهرين في غزّة، كما حضر رشيد مشهراوي ومحمد بكري.

حضور المؤسسة الفلسطينية

ونشير سريعاً إلى أنّ فيلم جاسر، «واجب» نال قبلها بيوم ثلاثاً من «جائزة النقاد العرب» على هامش المهرجان، وكانت عن أفضل فيلم وأفضل سيناريو وأفضل ممثل.

بعدها بيومين، انتشرت صورة للممثلة اللبنانية منال عيسى تحمل لافتة على السّجاد الأحمر، مكتوبا عليها «أوقفوا الهجوم على غزة» وكان ذلك يكفي لتلتقطه الكاميرات بفلاشاتها ويضجّ بها الإعلام فرنسياً وعربياً وعالمياً.حملتها أثناء الصعود إلى العرض الأوّل للفيلم الذي أدّت دور البطولة فيه، «قماشي المفضّل».

كنتُ في جناح فلسطين، ظهراً، حين عرفتُ بالصّورة، فدعوت منال إلى الجناح وحكت لنا ما حدث: كانت قد أتت لوحدها إلى جناح فلسطين، سألت عن إمكانية استعارة العلم لرفعه على السجادة الحمراء، حاولت وأحد القائمين على الجناح الخروج بالعلم من ساحة أجنحة الدّول، فأوقفهم رجال الأمن قائلين بأنّ العلم للمهرجان ولا يحق لأحد إخراجه، فأُعيد مكانه.بحثوا عن لوحة وقلم، وجدوا الأولى ولم يجدوا قلماً تكون الكتابة به مقروءة من بعيد، فكتبوا على اللوحة بقلم الرّوج بخط عريض لتلتقطه الكاميرات جيّداً، طوت الورقة ووضعتها في جزدانها.

أمّا أهم ما في المهرجان هذا العام، فلسطينياً، فكان جناح فلسطين، منصوباً لأوّل مرّة، بتنظيم من مؤسسة وليدة هي «مؤسسة الفيلم الفلسطيني»، وبرعاية من وزارة الثقافة الفلسطينية.

ليس الجناح حضوراً عادياً لفلسطين في المهرجان، بل هو تأسيسي، أي لم يكن تمثيلياً بل تأسيسياً لعمل جماعي سينمائي فلسطيني، فحضر فلسطينيون مخرجون ومنتجون ومنظمو مهرجانات وعاملون في الصناعة السينمائية، إضافة إلى وزير الثقافة الفلسطيني، الذي أبدى دعمه التام للجناح، لاستمراريته، وللمؤسسة التي تسعى لأن تكون حاضنة وداعمة لصناعة الفيلم الفلسطيني.

للفلسطينيين حضور باكر وبارز عربياً، في المهرجان: «نشيد الحجر» لميشيل خليفي في 1990، «حيفا» لرشيد مشهراوي في 1996، «يد إلهية» في 2002 و«الزمن الباقي» في 2009 لإيليا سليمان، «ملح هذا البحر» لآن ماري جاسر في 2008، «عمر» لهاني أبو أسعد في 2013، وأخيراً الفيلم الجميل «أمور شخصية» لمها حاج في 2016.

الجديد اليوم هو أنّ لهؤلاء، ما إن عادوا بأفلام جديدة إلى المهرجان، ولآخرين يأتونه لأوّل مرّة، خيمة تحتفي بهم، جناح يجعل من عرض هذه الأفلام حدثاً.

كل ذلك، إلى أن يخرج الفيلم الروائي الرابع لإيليا سليمان «لا بدّ وأنّها الجنّة».هنا، سيكون الحدث المنتَظر.

القدس العربي اللندنية في

26.05.2018

 
 

"مربي الكلاب".. العودة إلى الواقعية الراسخة في السينما الإيطالية

أمير العمري

المخرج ماتيو غاروني يعود إلى مهرجان كان من خلال فيلمه الذي يعد أحد أفضل الأفلام التي عرضت في المسابقة.

كان الفيلم الإيطالي “مربي الكلاب” Dogman للمخرج المرموق ماتيو غاروني، أحد أفضل الأفلام التي عرضت في مسابقة مهرجان كان الـ71، وبه عاد مخرجه إلى المسابقة للمرة الأولى منذ أن شارك بفيلم مختلف تماما في أسلوبه هو “حكاية الحكايات” (2015). أما الفيلم الجديد فهو يستند إلى شخصيات وأحداث حقيقية وقعت في روما عام 1980.

في أحد مشاهد “مربي الكلاب”، يتسلق بطلنا النحيف، الضعيف، البائس “مارشيللو” جدارا ليصل إلى نافذة شقة في طابق مرتفع عن الأرض، يفتحها ويدلف إلى الداخل ليسرق شيئا، فهو يمارس السرقة وتوزيع المخدرات من وقت لآخر ليزيد من دخله كرجل يرعى الكلاب التي يعهد إليه بها زبائنه في تلك البلدة الواقعة بالقرب من نابولي في الجنوب الإيطالي.

 الواضح أن هناك من سبقوا مارشيللو إلى اقتحام الشقة، والواضح أيضا أنه يعرف أنهم سبقوه، كما يعرف عما يبحث ويريد سرقته من الشقة، فهو يسارع بعد أن ينتشل حقيبة صغيرة من داخل خزانة ما في المطبخ، فيفتح درج الثلاجة لينتشل كلبة صغيرة متجمدة منكمشة من الواضح أن اللصوص الذين سبقوه وضعوها داخل علبة درج التجميد في الثلاجة ليضمنوا ألا تنبح فتكشف أمرهم.

يضع مارشيللو الكلبة تحت الصنبور.. يترك الماء الدافئ ينساب فوق جسدها النحيل.. يأخذ في تدليك جسدها كله وساقيها ووجهها بيده الخبيرة الحنونة التي تعرف ماذا تفعل وهو يتمتم بكلمات لاهثة حزينة “ماذا فعلوا بك ياصغيرتي.. ياحبيبتي.. هيا.. عودي إلي.. ابقي معي.. لا تتركيني”. تذوب طبقة الثلج المتجمد على جسد الكلبة الصغيرة، تعود إليها الحياة تدريجيا، تفتح عينيها وتتحرك، يضعها مارشيللو على الأرض ويتركها وهي تتحرك وتبح نباحا ضعيفا، ثم تتجه ببطء معه ناحية باب الشقة، يخاطبها قائلا بكل رقة وعذوبة: “كلا يا حلوتي.. لا يمكنك أن تأتي معي.. يجب أن تبقي هنا”.

لا تكتمل واقعية الفيلم إلا من خلال الأداء التمثيلي المقنع والمعبر من دون أي مبالغات وخاصة أداء مارشيللو فونتي في دور مربي الكلاب. إنه يتماهى تماما مع الشخصية وينجح بشكل مؤثر في التعامل مع الكلاب بإقناع

هذا المشهد البسيط البديع، يكشف جانبا من سحر السينما الذي يكمن تحديدا في الخيال، في الصياغة البصرية للمشاهد واللقطات، والقدرة على نسج الصور كما يتخيلها الفنان الذي يقف وراء الكاميرا، وهو يقوم بتجسيد معالم سيناريو درسه جيدا، اشترك في كتابته مع خمسة من الكتاب طبقا لتقليد راسخ في السينما الإيطالية. لكن براعة المشهد ورقته لا تكمن فقط في تقنية الكتابة بل ترقى إلى مستوى الشعر بفضل التمثيل والتصوير والإخراج: لدينا هنا ممثل فريد هو مارشيللو فونتي في دور “مربي الكلاب”، هو شخص قصير، نحيل، ضعيف، منحني الظهر قليلا، ذو عينين واسعتين. وعندما يضحك يبدو أقرب إلى البلاهة بأسنانه البارزة ونظراته المندهشة وعينيه الواسعتين. نغمة صوته حادة غريبة، تجعله مع تفاصيل وجهه وجسده وفكه البارز، كما لو كان كائنا خرج لتوه من أحد أفلام التحريك.

مارشيللو نموذج للإنسان المسالم الذي يريد أن يتجنب المتاعب بكل الطرق. هو رقيق حنون مع الكلاب التي يرعاها، فهي كائنات بريئة، تفهمه ويفهمها، كما تتمتع بالكرامة والاعتزاز بالنفس. ومارشيللو لا يمانع من تناول الطعام مع أحد هذه الكلاب من نفس الصحن، بل وبنفس الملعقة، يصحب كلابه كل صباح بعد أن يقدم لها الطعام، في جولة على شاطئ تلك البلدة الفقيرة البائسة.

لدى مارشيللو ابنة صغيرة في الثامنة من عمرها تدعى “صوفيا”، تزوره بين وقت وآخر، فهي تعيش مع أمها المنفصلة عن مارشيللو، ويأخذها في جولات بحرية في عطلة نهاية الأسبوع. وهي تحب والدها كثيرا، تريده أن يأخذها معه إلى “كلابريا” موطنه الأصلي في أقصى الجنوب الإيطالي التي جاء منها ربما هربا من تفشي العنف هناك. لكن العنف موجود أيضا هنا في هذه البقعة حيث يوجد دكان مارشيللو الغريب الذي يضع فوقه لافتة تحمل كلمة واحدة بالإنكليزية هي Dogman أي “مربي الكلاب”.

مارشيللو يرتبط بصداقة مع مجموعة من رجال البلدة الذين يترددون على المقصف، يأكلون ويشربون ويثرثرون، إنهم يشكلون معا عصبة، تجمعهم همومهم المشتركة. وهو يلعب معهم أحيانا الكرة في ساحة تلك الضاحية التي تقع خارج البلدة. ومن بين هؤلاء “فرانكو” وهو صاحب محل ملاصق لمحل مارشيللو يحمل لافتة تقول “المال مقابل الذهب” أي أنه يشتري المصوغات الذهبية نقدا. يحمل إليه مارشيللو محتويات الحقيبة التي سرقها من الحلي المطعمة بالمجوهرات، متصورا أنه سيجني من وراء ذلك ثروة، لكنه لا يحصل سوى على 300 يورو فقط، فالرجل يقول له إن ما يهمه منها الأجزاء الذهبية فقط.

في البلدة شاب طفولي الوجه لكنه عملاق ضخم الجثة، مفتول العضلات، متجهم يذكرنا في ملامحه بالملاكم جاك لاموتا بطل فيلم سكورسيزي “الثور الهائج” الذي تقمصه ببراعة روبرت دي نيرو. يقطع سوني البلدة طولا وعرضا، بدراجته النارية التي تصدر صوتا مزعجا، لا يتورع عن الفتك بكل من يقف في وجه حصوله على المخدر الذي أدمن عليه، الكوكايين.

وهو يلجأ من وقت لآخر، إلى صاحبنا المسكين المغلوب على أمره “مارشيللو” يطلب منه أن يزوده بالمخدر، فمارشيللو يرتبط ببعض من يتاجرون بالكوكايين. لكن سوني لا يدفع ثمن ما يتعاطاه، وقد تراكمت عليه الديون بالآلاف. وإذا تجرأ مارشيللو أو التاجر الأصلي- كما نرى- على المطالبة بأن يدفع سوني الديون المستحقة عليه، أوسعه ضربا وكاد يفتك به. لكن مارشيللو يرتبط رغم كل هذا العنف، بصداقة مع سوني، يبدو منبهرا بشخصيته، فهو يخشاه لكنه في الوقت نفسه يكن له إعجابا ربما لأنه يمتلك ما يفتقده هو بتكوينه الضعيف.

مجموعة شباب البلدة، يجتمعون، ومعهم مارشيللو، يبحثون كيف يوقفون هذا العنف الجنوني الذي يهددهم جميعا، أي كيف يضعون حدا لحماقات سوني. يقترح أحدهم تصفية سوني لكن اقتراحه يلقى معارضة شديدة من جانب فرانكو. تفشل محاولة اغتيال سوني، فيصاب فقط برصاصة في كتفه، لكن من سخرية القدر أن يكون مارشيللو هو من ينقذه، ويحمله فوق دراجته النارية التي يقودها بنفسه إلى حيث تقطن والدته ويقوم هناك بنزع الرصاصة وتطهير الجرح. بعد مرور وقت يأتي سوني الباحث بشكل دائم عن المال إلى محل مارشيللو.. يقترح عليه أن يحدث فتحة في الجدار الفاصل بين دكانه ودكان تاجر الذهب المجاور.

 يرفض مارشيللو بقوة ويتشبث بالرفض. فهو يرى أن هذه الخطوة يمكن أن تؤدي إلى إنهاء علاقته بأصدقائه بل بالبلدة كلها. إنه يرفض تجاوز هذا الخط الأحمر الذي وضعه لنفسه في علاقته بالآخرين. لكنه سيضطر تحت التهديد، للرضوخ. وتكون النتيجة أن يدان هو ويفلت سوني بعد أن يرفض مارشيللو تحت الترغيب والوعيد من جانب ضابط الشرطة، أن يشهد ضده. يدخل مارشيللو السجن حيث يقضي عاما ثم يخرج ويعود إلى دكانه ليجده قد تحول إلى حطام وأصبح في حاجة إلى إعادة بناء وترميم. وهو بحاجة إلى المال، فيذهب إلى سوني يرجوه أن يفي له بوعده أي أن يعطيه نصيبه من سرقة الذهب. في حين أن سوني ليس لديه ما يعطيه. يحاول مارشيللو الانتقام بتدمير دراجة سوني النارية، لكي ينال علقة ساخنة من العملاق المدمن تتسبب في تشويه وجهه.

تستيقظ شهوة الانتقام، ويصبح هذا القصير الضعيف البنية قادرا على التخطيط والتدبير وإنفاذ قراره الخاص بالانتقام بأكثر الطرق بشاعة. يخرج أخيرا إلى شاطئ البحر مع مجموعة من كلابه وهو يشعر للمرة الأولى بالتحرر، لكنه أصبح أيضا وحيدا مقضيا عليه بالمغادرة، وينتهي أحد أفضل الأفلام التي خرجت من بلد الواقعية الجديدة في السنوات الأخيرة.

ماتيو غاروني (49 سنة) الذي أتحفنا من قبل بفيلمه الشهير “غومورا” (2008) Gomorrah عن عصابة المافيا الشهيرة ونال عنه “الجائزة الكبرى” في مهرجان كان، يعود هنا إلى أجوائه الواقعية التي يجيد تجسيدها ولكن من خلال دراسة شخصية رجل منسحق بائس يتحول إلى وحش كاسر، مع تصوير اجتماعي دقيق للبيئة المحيطة، فكل شيء في هذا الفيلم يبدو منقولا مباشرة من قلب الواقع؛ الأماكن والشوارع والبيوت والمقهى والمقصف والمحلات، الأركان المظلمة في البلدة، الساحة الخالية المليئة بالنفايات والقاذورات وعلى طرفها يوجد محل مارشيللو. أما الكلاب في الفيلم فهي تراقب وتشاهد المصير السيء الذي ينتهي إليه سوني في النهاية عندما يتم إدخاله أحد أقفاص الكلاب في محل مارشيللو، وما يعقب ذلك مما لا نريد الكشف عنه حتى لا نفسد الحبكة أمام من يريد أن يستمتع بمشاهدة هذا العمل البديع.

مدير التصوير نيكولاي برويل يستخدم مصادر الضوء الطبيعي، يتابع بطله في المشاهد الخارجية وهو يلهث وراء سوني بالكاميرا المحمولة المهتزة التي تخلق طابعا تسجيليا، يجعل من زوايا التصوير خاصة في المشاهد الداخلية لمحل الكلاب، أداة لتجسيد علاقة مارشيللو بكلابه، ثم علاقته بابنته عندما تزوره، وتصويره المميز لمشهد نقل مارشيللو لسوني على الدراجة النارية وهو لا يفتأ يتطلع إلى سوني الذي يسند رأسه على كتفه كأنما مارشيللو قد أصبح يشعر الآن بالسيطرة عليه بعد أن كان يستجديه ويتضرع إليه في المشهد الأول من الفيلم أن يغادر المحل بعد أن حصل على لفة من الكوكايين، لكن سوني يصر على أن يستنشق المخدر داخل المحل، في وجود ابنة مارشيللو.

يتعمد السيناريو عدم إظهار أي شيء يتعلق بالفترة التي قضاها مارشيللو في السجن، رغم تحذيرات ضابط الشرطة له من أنه سيتعرض داخل السجن نتيجة ضعفه وجبنه، لشتى صنوف الاعتداءات في إشارة إلى الاعتداء الجنسي، من دون أن يثنيه هذا عن رفض “التورط” بتقديم شهادة ضد سوني من أجل إدانته وبالتالي يخرج هو من القضية تماما ويعود إلى بيته كما يعده الضابط. هل كان إصراره هذا نتيجة الخوف، أم بسبب الجشع والرغبة في الحصول على قسط من الغنيمة؟ أم للسببين معا؟

لكن يمكن للفيلم عبر الكاميرا إضهار تحول رجل جبان إلى الشدة والعنف بعد أن كان يحاذر أن يتجرأ ويرفع صوته في وجه سوني، هل أصبح العنف في هذه البلدة البائسة بحياتها الرتيبة الفارغة، قدرا لا فكاك منه؟ ليس المهم هنا أن نضع أيدينا على تفسير نفسي للدراما التي نراها فهناك الكثير من الأمور الخفية في النفس البشرية، وكل هذه التفسيرات ممكنة، لكن المهم هنا هو ذلك التصوير البارع المؤثر للشخصية في علاقتها بالعالم، بعالمها الضيق المحدود الخانق، حيث يصبح العيش في السجن الصغير ربما أكثر ضمانا من الحياة في السجن الكبير.

لا تكتمل واقعية الفيلم إلا من خلال الأداء التمثيلي المقنع والمعبر من دون أي مبالغات وخاصة أداء مارشيللو فونتي في دور مربي الكلاب. إنه يتماهى تماما مع الشخصية وينجح بشكل مؤثر في التعامل مع الكلاب بإقناع. وقد وصفه المخرج غاروني بأنه “بستر كيتون الإيطالي” فهو قادر على التعبير الصامت بوجهه وحركاته الجسدية، وقد سبق أن ظهر في دور ثانوي في فيلم “عصابات نيويورك” لسكورسيزي، وقال إنه ظل يتدرب لمدة ثلاثة أشهر في بيت مخصص لتربية الكلاب إلى أن أصبح يجيد التعامل معها ويعرف كيف يكتسب ثقتها، قبل أن يبدأ تصوير أول بطولة سينمائية مطلقة له في هذا الدور الذي أخرجه من الظل إلى دائرة الشهرة بعد فوزه بجائزة أفضل ممثل في مهرجان كان.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

27.05.2018

 
 

"3 وجوه" للإيراني جعفر بناهي: أفلام سريّة

نديم جرجوره

يُصرّ الإيراني جعفر بناهي على تحدّي المخاطر، لتصوير فيلمٍ سينمائيّ في بلده. منذ 10 أعوام، يُعاند قرارًا سلطويّا يقضي بمنعه من التصوير، بتّهمة الترويج لأفكار تناهض إيران وجمهوريتها الإسلامية وسلطاتها الحاكمة. ففي الانتخابات الرئاسية في دورة عام 2009، يتّخذ بناهي موقفًا مُعارضًا للرئيس محمد أحمدي نجاد، يؤدّي به (الموقف) إلى اتّهامات ومحاكمات، ينتج منها قراراتٍ قاهرة: إقامة جبرية (تمّ تخفيفها لاحقًا)، ومنعه من تحقيق أفلامٍ لـ20 عامًا.

منع سينمائيّ من تحقيق أفلامٍ يُشبه حكمًا بالإعدام. ينتفض جعفر بناهي على قراراتٍ كهذه بهدوء. يستعين بوسائل، ويتعاون مع أصدقاء وزملاء مهنة، ويُنجز أفلامًا، بعضها لن يبلغ المرتبة البديعة لآخر أفلامه "3 وجوه" (2018)، الفائز بجائزة السيناريو في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ"، مناصفة مع الإيطالية أليس روهرواشر عن "سعيدٌ كإلعازار". 

يتسلّل السينمائيّ إلى خارج منزله. يلتقط وقائع مستلّة من نبض الشارع الإيراني. "يُهرِّب" أفلامه إلى خارجٍ توّاقٍ إلى مقارعة الحكم الإيراني بشتّى الأدوات. يُقال إن "هذا ليس فيلمًا" (2011)، أول أفلامه المنجزة "سرًّا"، مُهرَّب عبر "مفتاح USB" مخبّأ في قالب حلوى.

الخارج محتفلٌ به، خصوصًا في مهرجانات برلين و"كانّ" والبندقية. يختار منطّموها ما يصنعه لعرضه في مسابقة رسمية أو في برنامج اختيار رسمي. يريدونه عضوًا في لجان تحكيم، وعندما يعجز عن السفر بسبب منعه منه، يبقى مقعده شاغرًا أمام عدسات الفوتوغرافيين والتلفزيونيين. مع هذا، يستمرّ في بلبلة سلطة غير متمكّنة من تحقيق مُرادها. فمنذ عام 2010، يُحقّق بناهي 4 أفلام، بدءًا من "هذا ليس فيلمًا": هناك "بَرْدِه" (2013) و"تاكسي" (2015)، قبل "3 وجوه".

يتبلور المشروع السينمائي الجديد لجعفر بناهي، إنْ يصحّ تعبيرٌ كهذا، في "3 وجوه"، لكنه يبدأ في "تاكسي" تحديدًا: تحويل الكاميرا إلى عينٍ لاقطة، وأحيانًا إلى شخصية أساسية في البناء الدرامي لحكايات متفرّقة، يتناولها من أفواه أفرادٍ عاديين، يعكسون عبرها مواجع وأحلامًا معطّلة واختناقًا مدوّيًا. غليان الشارع، مثلاً، مادة غنيّة بوقائع عيشٍ على حافة الانفجار (تاكسي)، ومع كلّ انفجارٍ أو محاولة انفجار متمثّلة بحراك مدني شعبي، يزداد بطش السلطة، فيزداد لاحقًا الضغط والموانع والرفض. 

يُعتبر "تاكسي" بداية عملية لمشروعٍ كهذا، سيكون المخرج نفسه أحد وجوهه البارزة أمام الكاميرا. ففيه، يقود بناهي سيارة أجرة واضعًا فيها كاميرات تصوير صغيرة الحجم، في أمكنة عديدة، ويُقلّ ركابًا مختلفي الانتماءات الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية، ومالكي قصص واقعية عن أحوال عيش وانفعال ومسالك. المشروع قائم على جمع تلك الحكايات البسيطة لكن العميقة، وتلك الحالات العامة لكن الفردية والذاتية والمتشابهة في حجم خرابٍ يعتمل في نفوس وبيئات واجتماع. والحكايات كثيرة، منها تلك التي يجعلها نواة جوهرية لـ"3 وجوه"، الذي يصنعه كتحية حبّ للسينما وللتاريخ التمثيلي في إيران، ولعباس كياروستامي (1940 ـ 2016)، الذي سيكون بناهي مساعدًا له في أعمالٍ مختلفة.

القصّة الأصلية بسيطة: تستلم الممثلة المعروفة بهناز جعفري (تؤدّي دورها الحقيقي في الفيلم كممثلة تلفزيونية مشهورة) فيديو مُصوَّر بواسطة جهاز خلوي لشابّة أذريّة تُدعى مَرْزييه (مَرْزييه رضائي)، تطلب منها الإسراع في القدوم إليها في بلدتها الريفية في الشمال الغربي لإيران، لإنقاذها من بطش أهلها، الذين يمنعونها من دراسة التمثيل. لن تكون الرحلة طويلة، لأن الحدث سيكون داخل البلدة. الناس يتعرّفون سريعًا إلى الممثلة، وبعضهم غير منتبه إلى السينمائيّ. سطوة التقاليد واليوميّ المنغلق على نفسه في تلك البلدة يقفان حائلاً دون معرفة ما يريدان معرفته. رغم هذا، سيتمكّنان من كشف المسألة، ومن ترطيب الأجواء، ومن "إنقاذ" مَرْزييه من مصير قاتم.

هذا مفتوحٌ على تفاصيل كثيرة: هناك كلامٌ عن ممثلات منتميات إلى أجيال مختلفة، وهناك تعبير عن علاقة الناس بالتلفزيون، وهناك سلوك وثقافة ودقائق أمور تبدو هامشية لغير المنتمين إلى تلك البلدة. هذا كلّه يظهر عاديّا وبسيطّا، لكن الأهمّ كامنٌ في كيفية سرده بالكاميرا، وفي آلية كتابته وتحويل المكتوب إلى صُور تتيح للكاميرا تلك فرصة اختراق المبطّن في نفوس وأرواح: لقطات قريبة، وأخرى تُخفي أفرادًا يتكلّمون لتركيزها على لقطة أوسع يتمدّد فيها الكلام، أو يتناقض.

"في هذا الفيلم، نعثر مجدّدًا على السحر النقيّ كلّه للسينما الإيرانية. حازمًا برسالته الخاصّة بحرية الاختيار، يعيد "3 وجوه" مُشاهديه إلى أفلام كبيرة منتمية إلى سينما الحقيقة، كـ"الريح التي تأخذنا" لكياروستامي. هنا أيضًا، مدينيّ مُرسَل في مهمّة، يتوجّه إلى قرية بعيدة في الجبل، وهذه مناسبة لتوغّل في المعتقدات التقليدية المثبِطة للعزائم"، كما في تعليق نقدي لـ"هوليوود ريبورتر"، يختزل النص السينمائي بكامله. أما "راديو فاردا" (موقع إيراني ناطق باللغة الفارسية، مقرّه في براغ)، الذي يصف الفيلم بكونه "عملاً بسيطًا"، فيُشير إليه ـ في الوقت نفسه ـ كأحد أفضل الأفلام السجالية الانتقادية (للمجتمع الإيراني) في الأعوام القليلة الفائتة" ("لو كورييه أنترناسيونال"، 17 ـ 23 مايو/ أيار 2018).

العربي الجديد اللندنية في

28.05.2018

 
 

أندره زفياغينتسف لـ"النهار": عندما كنتُ في الرابعة تركنا والدي ولم يعد ولكني لستُ أليوشا

هوفيك حبشيان - محمد الميسي

المصدر: "النهار"

أندره زفياغينتسف كان عضواً في لجنة تحكيم الدورة الحادية والسبعين لمهرجان كانّ السينمائي التي انتهت قبل أيام، بعد عام على مشاركته في مسابقة المهرجان نفسه بفيلم "بلا حبّ" الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم. منذ "الاستبعاد"، عام ٢٠٠٧، يشقّ هذا الروسي طريقه في السينما بأفلام اشكالية تستعرض روسيا المعاصرة، آمالها وهمومها وانحطاط مجتمعها بعد سقوط الإتحاد السوفياتي

لقراءة هذا الخبر، إشترك في النهار Premium بـ1$ فقط في الشهر الأول

النهار اللبنانية في

28.05.2018

 
 

فيلم «فتاة» للبلجيكي لوكاس دونت: عنوان بسيط لهوية صعبة المنال

كان ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:

كل ما ترغب فيه لارا (فيكتور بولستر) في أداء بديع متميز هو أن تصبح فتاة. ولكن على لارا، الصبية ذات الخمسة عشر عاما، وعلينا نحن أيضا، أن نتساءل ترى ما الذي يجعل الفتاة فتاة؟ هل الأمر تركيب جسماني وأعضاء بيولوجية؟ هل الأنوثة صوت رقيق وحركات اصطلح الناس على أنها أنثوية؟ هل هي نظرة مجتمعية تحدد ما يجب أن تكون عليه المرأة؟ أم هل الأمر برمته شعور داخلي وقناعة بالهوية الأنثوية؟ هذه بعض من الأسئلة والمشاعر الملتبسة التي تواجهنا وتواجه لارا، الشخصية المحورية في فيلم «فتاة» للمخرج البلجيكي لوكاس دونت، الفيلم الحائز جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان في دورته 71، والذي حصل فيكتور بولستر عن أدائه البديع لدور لارا فيه على جائزة أفضل ممثل في تظاهرة «نظرة ما» في مهرجان كان 71.

«فتاة» فيلم حميمي يدخلنا بسلاسة إلى عالمه، ولكنه في الوقت ذاته فيلم لا يخشى المواجهة ولا طرح الأسئلة الصعبة، ولا يخشى معالجة قضايا صعبة تتعلق بالهوية الجنسية والهوية الجسدية وصورة الجسد. لارا فتاة متحولة جنسيا، ولدت صبيا ولكنها تريد أن تحيا حياتها كفتاة، وهي تعمل جاهدة لتحقيق ذلك بالعلاج الهرموني أولا، ثم المرحلة التي تليه وهي الجراحة. وللارا حلم كبير جميل آخر تبذل كل الجهد لتحقيقه: أن تصبح راقصة باليه، بكل ما يتطلبه ذلك من تدريب، وألم جسدي، خاصة أنها ولدت ببناء عضلي لجنس آخر.

إنها قصة إدراك وبزوغ وتحول، قصة فهم لهوية نفسية وجنسية وجسدية وكل الألم المصاحب لها. لارا تحيط بها أسرة محبة متفهمة. انتقلت أسرتها، المكونة من والدها ماتياس (أرييه فورتالتر) وشقيقها الصغير (أوليفار بودارت) إلى مدينة جديدة حتى تتمكن لارا من تحقيق حلمها في الانضمام لواحدة من أفضل أكاديميات الباليه في البلاد. للوهلة الأولى تبدو كما لو أن حياة لارا تخلو من التعقيد، أو من أي نظرات أو همسات قد تواجه المتحولين جنسيا. في البيت تلقى لارا كل الدعم من والدها الذي يصحبها بحب إلى جلساتها الطبية ويدعمها في تحولها الجسدي والهرموني. في المدرسة يبدو الحال مستقرا أيضا، فمدربة الباليه الصارمة تتعامل بعادية تامة مع كون لارا متحولة جنسيا وكل ما يعنيها هو أن تتدرب لارا بجد واجتهاد لتحقق التقدم المرجو منها. أما زملاء الصف، فيبدو أنهم متقبلون للارا في وسطهم كمتحولة جنسيا بدون الكثير من الأسئلة. لحظات توتر وجيزة فقط حين يطلب الأستاذ من لارا أن تغمض عينيها، بينما يطلب من الطالبات رفع أيديهم إذا استشعروا الحرج من استخدام لارا لدورة مياه وحمام الفتيات. لحظات حرج تمر سريعا، وتحسم لصالح لارا، انتصار صغير في وقت تحتاج فيه لارا لكل دعم ممكن.
لكن على الرغم من الأجواء المرحبة غير الصدامية المتقبلة لتحول لارا، ليست رحلة الفتاة باليسيرة وليس تحولها بالأمر الهين. قد تبدو الأمور كما لو كانت تسير جميعا في هدوء صوب هدف لارا أن تصبح فتاة، ولكن الرحلة النفسية والعاطفية لهذه الصبية أمر مضن وشاق للغاية. في جلسة معه، يسألها طبيبها النفسي المشرف على تحولها، إن كانت تشعر بأنها فتاة، فتجيبه بأسى بهز رأسها نفيا.

تعيش لارا فترة المراهقة بكل ما تحمل مــــن عــــدم يقين وقلق وتوتر ورغبات في النضــــج، ورغبات في فهم الهوية الجنسية والجسدية، تعيشها بيقين أنها فتاة وتريد لتحول هذه الفتاة أن يكتمل.

ولكن السؤال النفسي والإدراكي الملح الذي تعيشه لارا يوميا هو ما هي ماهية الأنوثة، أو ما الذي يجعل من الفتاة فتاة: هل الأمـــــر نظرة الآخــرين لها وتعرفهم على صوتها وجسدها على أنهما لأنثى؟ إن كان الأمر كذلك، فهي كما يراها الآخرون جميلة، تتلقى نظرات الإعجاب التي تلحظها حين تسير في الشارع، أو حين تستقل المواصلات، ولكن ما هي سمات الجسم الأنثوي في المقام الأول؟ أم هل الأمر نفسي داخلي يكمن في رؤية لارا لنفسها أنها فتاة. حين يثني والدها على شجاعتها، وحين يثني عليها الطبيب لإقدامها ومثابرتها، تجيب لارا ببساطة تسحق القلب أنها لا تريد أن تكون مثلا يحتذى ولا تريد أن تكون بطلة.

القدس العربي اللندنية في

29.05.2018

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)