كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

فيلم تجريبي يقتنص "الدب الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي

كتب بواسطة أمير العمري

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الثامنة والستون

   
 
 
 
 

فيلم "المتحف" المكسيكي عمل سينمائي  ينتمي للواقعية السحرية مع لمسة واضحة من الميلودراما والتشويق البوليسي.

برلين – لم يكن مفاجئا، بالنسبة لكاتب هذا المقال، أن يفوز الفيلم الروماني الطويل “لا تلمسني” بجائزة “الدب الذهبي” في مهرجان برلين السينمائي الذي أعلنت نتائجه مساء السبت، فالفيلم، الذي يمكن بالطبع الخلاف بشأن مستواه الفني، كان الوحيد من بين أفلام المسابقة الـ19، الذي يخرج عن المسار التقليدي ويجنح إلى التجريب الفني في الشكل واللغة والأسلوب، بينما تلتزم أفلام المسابقة الأخرى بالتقليدية سواء في ما يتعلق بسياق السرد أو أسلوب الإخراج، مع ضرورة الإقرار ببراعة الكثير من مخرجي هذه الأفلام في رواية قصة تتضمن على نحو ما أفكارا إنسانية تثير الفكر.

يتضمن الفيلم الروماني المتوج بـ”الدب الذهبي” في مهرجان برلين السينمائي الـ68، المعنون بـ”لا تلمسني”، وهو من إخراج أدينا بنتيلي، قصصا لثلاثة أشخاص تتقدمهم امرأة في الخمسينات من عمرها، تروي علاقتها بالتلامس الجسدي وخشيتها منه، يقوم بتدريبها، أو بالأحرى، بمناقشتها رجل سبق أن مر هو نفسه بتجربة مماثلة، وربما أنه كان قد صدم في البداية من اكتشاف ميوله المثلية، ورجل آخر من المعاقين يعاني من ضمور عضلات الساقين والذراعين وتشوّه في الوجه، لكنه يتعلّم كيف يحب جسده ويتعامل معه، وهو يعبّر عن تشوقه لممارسة الجنس مع امرأة.

إنها شخصيات ترغب في التلامس الحميمي مع الآخر، تشعر بالرغبة والخوف في الوقت نفسه، وهذه المشاعر المتضاربة تتم مناقشتها عبر الفيلم التسجيلي-التجريبي، الذي يستغرق أكثر من ساعتين من الحوارات أمام الكاميرا داخل أماكن مغلقة، من خلال المواجهة المباشرة بين هذه الشخصيات وأقرانها أو قريناتها وهم جميعا على وعي بوجود الكاميرا وبأن اعترافاتهم وتعبيرهم عن هواجسهم يتم تسجيلها لكي يشاهدها الآخرون.

علاج جماعي

لا تلمسني” فيلم يقترح نوعا من “العلاج الجماعي” النفسي عن طريق البوح، والتدرّج في التعامل مع الحالة، مع اللمس والتلامس، ولا شك أن الفيلم يتضمن الكثير من الأفكار الفرويدية التي تتعلّق بالخوف من الجنس، لكنه يعكس شعورا حادا بالفراغ النفسي والعاطفي.

وصاغت المخرجة الرومانية فيلمها في أسلوب تسجيلي، لكن دون أن تخضعه لنسق مألوف في السرد، ودون استخدام الرسوم البيانية أو المعلومات أو التعليق الصوتي من خارج الصورة، بل يعتمد الفيلم أساسا على التصوير المباشر للشخصيات في مكان قد يكون عيادة طبية أو بيتا خاصا، مع حضور المخرجة باستمرار وراء الكاميرا، وجميع ما نراه من شخصيات في الفيلم هي شخصيات حقيقية تتحدّث وتستمع وتبوح بمشاكلها، ترغب في مواجهتها والتغلّب عليها.

وفي بناء الفيلم الكثير من التداخل بين القصص المختلفة والصور، لكي تعكس التشوّش الذهني أو التردّد القائم داخل هذه الشخصيات، كما يتضمن أيضا بعض المشاهد التي قد يراها البعض صادمة بجرأتها في التعامل مع الجنس، لكن فوز هذا الفيلم بجائزة الدب الذهبي في برلين لن يساعد كثيرا على رواجه أو عرضه على نطاق واسع ووصوله إلى الملايين، بل سيظل فقط حبيسا داخل دائرة المهرجانات الأوروبية التي تهتم بسينما الفن، دون أن يتجاوزها كثيرا.

وتكونت لجنة التحكيم من ستة أعضاء برئاسة المخرج الألماني توم تايكوير، وقد منحت اللجنة جائزة “الدب الفضي” لأحسن مخرج إلى الأميركي ويس أندرسون، مخرج فيلم الافتتاح “جزيرة الكلاب”، لبراعته في إخراج قصة إنسانية مشوّقة من خلال أسلوب التحريك والرسوم. ولا شك أن الفيلم تجربة بصرية ممتعة، خاصة وأنه ينتقل إلى البيئة اليابانية المميزة، ويستخدم عددا من الممثلين المرموقين في أدوار الكلاب بأصواتهم فقط، بالطبع.

جائزتا التمثيل

حصلت الممثلة أنا برون، كما توقعنا في مقال سابق، على جائزة أحسن ممثلة عن دورها في فيلم “الوريثات” (أو الوريثتان) من باراغواي، الذي تقوم فيه بدور امرأة في الخمسينات من عمرها، تتراكم عليها الديون فتضطر لبيع أثاث ومقتنيات منزلها الفخم، والعمل كسائقة سيارة تنقل صديقاتها من الطبقة الوسطى مقابل أجر.

أما جائزة أحسن ممثل فنالها الفرنسي الشاب أنتوني باجون الذي يقوم بدور المدمن الذي يلجأ إلى أحد الأديرة النائية لكي يتعالج من إدمان المخدرات من خلال التعبّد والصلاة، وذلك في فيلم “المصلي” للمخرج الفرنسي سيدريك خان.

وحصل كاتبا السيناريو المكسيكيان مانويل الكالا وألونسو رويزبلاسيوس عن فيلم “المتحف” الذي يروي قيام شابين بسرقة بعض المقتنيات الأثرية العريقة من داخل متحف مكسيكي كبير من دون أن تكون للسرقة علاقة بالبحث عن المال، ثم فشلهما في بيع هذه المسروقات، والنهاية المأساوية التي ينتهيان إليها بعد أن تتعقد جميع الخيوط وتنتهي جميع المغامرات الوهمية بالفشل، إنه عمل ينتمي للواقعية السحرية مع لمسة واضحة من الميلودراما والتشويق البوليسي.

ونالت المخرجة البولندية مالغورزاتا سموفسكا جائزة “الدب الفضي”، أي الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم عن فيلمها “الكوب” الذي يصوّر تحوّل عامل يصاب في حادث بعد سقوطه من فوق تمثال ضخم للمسيح، ثم ما أعقب ذلك من إجراء عملية تجميل له لتغيّر وجهه وبالتالي هويته، لكنه يواجه بعد ذلك نكرانا من الجميع تقريبا، ويحمل معاناته معه كما لو كان قرينا للمسيح نفسه الذي يحمل خطايا البشرية.

ولكن الفيلم مصنوع في سياق كوميدي مليء بالتأملات الفلسفية المعاصرة عن الدين، الحياة، التضحية والأخوة، بل في الفيلم أيضا جانب طريف حول “البريكست”، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومقاومتها المرتقبة لدخول العمال البولنديين.

أما جائزة التقدير الخاص التي منحتها اللجنة لأفضل مساهمة فنية في مجال الملابس والتصميم الفني، فنالتها الروسية إلينا أكوبانيا عن فيلم “دوفلاتوف” للمخرج ألكسندر جيرمان الصغير.

مسابقة متوسطة

بوجه عام يمكن القول إن مسابقة مهرجان برلين الـ68 كانت متوسطة المستوى، مع ملاحظة غياب التحف السينمائية والاتجاه الواضح لتشجيع أفلام المخرجات والأفلام الأولى لأصحابها، ومنها الفيلم الفائز بـ”الدب الذهبي”.

وقد يكون فوزه قد جاء تحديدا للتأكيد على هذا الجانب، مع تجاهل أفلام أخرى ربما كانت أكثر منه جدارة بالفوز منها على سبيل المثال الفيلم الأميركي البديع “لا تقلق.. هو لن يتبعد كثيرا على قدميه” لجاس فان سانت، والفيلم الألماني “في الممرّات” للمخرج توماس ستوبر، والفيلم الإيراني الساخر المختلف تماما عن سائر الأفلام الإيرانية والذي يتميز بجرأته الكبيرة “الخنزير” للمخرج ماني هقيقي، والفيلم السويسري “الدورادو” للمخرج ماركوس إيمهوف، وهي أفلام تستحق أن نتوقف عندها من خلال مقالات نقدية مستقلة.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

27.02.2018

 
 

فاز بالدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي: «لا تلمسني» للرومانية أدينا بنتيلي ينفذ إلى عمق الروح عبر فهم الجسد

برلين ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:

في فيلمها «لا تلمسني»، الذي فاز بالدب الذهبي في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين في دورته الثامنة والستين (15 إلى25 فبراير/شباط الجاري) تقدم المخرجة الرومانية أدينا بنتيلي فيلما متطلبا لا يهادن، يخترق نفس مشاهده ويثير فينا الكثير من التساؤلات، لأنه يأخذنا إلى تلك المناطق في الذات، التي لا نحاول الوصول إليها، حيث يسير بنا صوب معرفة أنفسنا ونوازعنا الدفينة وإلى اكتشاف علاقتنا بأجسادنا وإلى معرفة من نكون خلف هذه الواجهة التي نقدم بها أنفسنا للآخرين.

في «لا تلمسني»، وهو الفيلم الأول لمخرجته التي فازت عنه أيضا بجائزة مهرجان برلين لأفضل فيلم أول، تقف بنتيلي بين الوثائقي والروائي، فالفيلم يخترق الحاجز بين العالمين لتطلعنا مخرجته على أن الحقيقي ما هو إلا متخيل أيضا، فأجسادنا واقعية ملموسة، ولكن صلتنا بها وفهمنا لها في كثير من الأحيان متخيل، تتداخل فيه عوامل كثيرة من بينها المجتمع والأسرة والعلاقة بالأبوين والألم والخجل.

وفي الفيلم لا تسعى بنتيلي فقط إلى فهم الشخصيات الرئيسية في فيلمها، أو إلى سبر أعماق علاقتهم مع أجسادهم، بل تسعى أيضا إلى فهم نفسها، حيث تشارك هي أيضا في فيلمها، وتواجه ذاتها. تختار لنفسها أن تكون شخصية من شخصيات فيلمها، نراها في معظم الأحيان عبر شاشة صغيرة للكاميرا التي تنفذ عبر عدستها إلى شخصيات فيلمها، ولكنها أيضا ترتضي أن تكون في محل شخصياتها، وأن يُنظر إليها عبر العدسة الفاحصة للكاميرا. فيلم ذكي في تناوله للجسد وعلاقتنا به، أصيل وجريء في طرحه وتناوله، ومتماسك وصلب في طرحه وتنفيذه.

الأبيض هو اللون الغالب على صورة الفيلم، حيث يعم اللون الأبيض الخلفيات، وهو اللون الأعم لملابس الشخصيات الرئيسية. الأبيض لون هادئ صاف يخفي الألم النفسي لشخصيات الفيلم، أو ربما هو لون يهدف إلى تهدئة ألمهم النفسي وما يمور داخلهم من ثورة.

هم ثلاث شخصيات رئيسية، اثنان منها من الممثلين المحترفين، ولكنهما يبدوان كما لو كانا من شخصيات فيلم وثائقي تقدم شهادتها أو تكشف عن ذاتها. هو لبس متعمد بين الروائي والوثائقي، علّه يقصد إلى إطلاعنا على أننا جميعا في علاقتنا مع العالم نؤدي دورا ونرسم صورة نخفي بها ما يعتمل حقيقة في الداخل. وكما قال توماس، إحدى الشخصيات الرئيسية في الفيلم، إنه اكتشف أثناء التصوير أنه يقيم حاجزا بينه وبين العالم، ليس لصد العالم عن نفسه، ولكن لأن في داخله من الهشاشة الكثير، فلا يود أن يكشف هشاشته للخارج.

الشخصية الرئيسية الأولى في الفيلم هي «لورا»، التي تلعب دورها الممثلة لورا بنسون. ونظرا لهذا الشد والجذب في الفيلم بين الوثائقي والروائي، لا نعرف حقا ما إذا كانت بنسون تكشف شخصيتها الحقيقية، أو ما إذا كانت تلعب شخصيتها في الفيلم. لورا، كما تكشف لنا شخصيتها في الفيلم، امرأة خمسينية، نراها في مستهل الفيلم تنظر إلى شاب وسيم معها في الغرفة تتأمل جسده وتتأمله وهو يستمني دون أن تشاركه. تتأمله فقط وتسأله عن وشم يحوي كلمات بلغة لا تفهمها. ولكنه يرفض الإفصاح لها عن أهمية ما خطه على جسده بالنسبة له، فهو أمر شخصي.

يمثل هذا المشهد، حسبما نراه المغزى الرئيسي في الفيلم، فالفيلم يتناول الحميمية، ليس بمفهومها الجسدي فقط ولكن بمفهومها الروحي. قد لا يجد البعض غضاضة في الكشف عن أجسادهم للآخر أو مشاركتهم في فعل حميمي جسدي، ولكن هذا لا يعني أنهم يسمحون له بأن يكتشف أسرار روحهم أو النفاذ إلى أعماق نفسيتهم. وعلى النقيض، يمكن للبعض الآخر أن يشاركك في تفاصيل روحه ويأخذك إلى تفاصيل نفسيته، ولكنه يخشى التواصل الجسدي والتقارب الحميمي. وقد يكون لدى البعض مشكلة في التعاطي مع الجانبين الجسدي والنفسي من العلاقة مع النفس والآخر.

هذه العلاقة الملتبسة مع الجسد وبين الجسد والنفس والآخر هي محور فيلم «لا تلمسني». لورا تخشى القرب، القرب بجميع معانيه، القرب الجسدي والنفسي. تشعر بالخوف المصحوب بالغضب إن حاول شخص الاقتراب منها جسديا. في محاولة لفهم الذات تستعين لورا بمعالج جنسي وبامرأة من المتحولين جنسيا، يحاول أحدهما التصدي لخوفها من لمس الآخرين لها، بينما يحاول الآخر مساعدتها للوصول إلى تفضيلاتها الجنسية وما قد يشبعها. لا يسعى الفيلم إلى التلصص على الحياة الجنسية لأبطاله ولا يصورها بدافع الاقتحام أو التطفل أو إرضاء لفضول، بل يحاول فهم الإنسان وعلاقته بجسده. قد لا ينفذ الفيلم بنا إلى أعماق الغضب الكامن داخل لورا أو إلى أسباب خوفها من الحميمية، ولكنه يُلمح إلى أن ذلك الغضب له صلة بوالدها. قد يرى البعض أن الفيلم يركز على الأعراض ولا يركز على الأسباب النفسية، ولكن بونتيلي اختارت لفيلمها أن يركز على الجسد ويفهم صلتنا به.

ولعلّ أكثر شخصيات الفيلم تأثيرا وأكثرها تصالحا مع الجسد وفهما له ولتأثيره هو كرستيان بايرلين. كرستيان هو قلب الفيلم النابض، وهو الأقرب إلى قلوبنا كمشاهدين. وُلد كرستيان مصابا بضمور في العضلات، ذلك المرض الذي أقعده تماما عن الحركة، ولكنه لم يحد من قدراته الجنسية، ولا من تواصله الروحي مع الآخرين ولا من قدرته على الحب. يقول كرستيان إنه في طفولته كان يتخيل نفسه مجرد عقل بلا جسد، مجرد عقل يحمل من مكان إلى آخر وجسم ضامر مريض. ولكن هذه النظرة تغيرت عندما اكتشف الجنس، وأن لديه رغبات وقدرات جنسية. منحه هذا الاكتشاف تفاؤلا وتصالحا مع الحياة ومع الجسد وقدرة على التواصل مع الآخرين. مكنته رحلته مع جسده من اكتشاف أن الحياة منحة وأن جسده منحة. يتحدى الفيلم نظرتنا للجسد «المعاق» أو المختلف، فقد يبدو لنا كرستيان كما كان يرى نفسه في السابق، مجرد عقل بلا جسد، ولكننا نخرج من الفيلم بمنظور مغاير لكرستيان. نراه كما نرى أنفسنا جميعا، بعقل وجسد ومشاعر. 
ننظر إلى عيني كرستيان، فنرى فيهما الكثير من الجمال والهدوء والصفاء والاتساق مع الذات، ونسمع حديثه فتهدأ مخاوفنا نحن أيضا إزاء أجسادنا. نرى علاقته مع شريكته في الحياة وحبيبته، فنود لو أننا حظينا على علاقة على مثل هذا القدر من التفاهم والتناغم والإشباع.

الشخصية الرئيسية الثالثة في الفيلم هي توماس (الممثل الأيسلندي توماس لاماركيز). ولد لامركيز أمهق اللون والبشرة. فقد شعر رأسه تماما في الثالثة عشرة من العمر، ورغم تخطيه هذه الفترة من العمر بسنوات طويلة، إلا أن الألم النفسي الناجم عن اختلافه الجسدي وفقدانه لشعره في المراهقة، أحدثا فيه تأثيرا نفسيا بالغا، جعلاه يقيم الحواجز حول ذاته ويخشى الاقتراب من الآخرين. عبر رحلته في الفيلم وعبر لقائه بكرستيان، الذي كان شريكا له في جلسات للعلاج النفسي، يسير توماس في طريقه صوب التعافي النفسي، ويخطو خطوات حثيثة نحو العثور على من كان يحبها سابقا ولم يستطع التقارب معها قط.

لا يخشى الفيلم من اكتشاف الأجساد واستكشافها ولا استكشاف الجنس. وكما تقول المعالجة الجنسية للورا «لا يوجد ما يوصف بالعجيب أو السقيم في السلوك الجنسي الإنساني»، ويسعى بنا الفيلم إلى فهم ذلك، وإلى فهم أن ما نجده غريبا هو في الواقع سبيل البعض للتواصل مع أجسادهم وأرواحهم والتواصل مع الآخرين. هو فيلم يأخذنا في رحلة داخل عالم العلاقات الجسدية، ومن بينها العلاقات السادية والمازوكية، وعلاقات تعذيب الجسد، ولكنه لا يصورها بعين المتلصص أو المدين، بل بعين الراصد المتفهم. هو فيلم يدخل في سجال مع مشاهده ليجعله يتساءل عما إذا كان حقا يعلم ماهية نفسه ومدى تواصله مع نفسه ومع الآخرين من حوله. يدفعنا الفيلم إلى تغيير نظرتنا إلى أجسادنا وأجساد الآخرين، ويدعونا لإعادة تقييم كلمات مثل «جميل» أو «جذاب» أو «مرغوب».

القدس العربي اللندنية في

27.02.2018

 
 

مهرجان البرليناله ٢٠١٨

"خنزير".. الصوت المغاير في السينما الإيرانية

من أحمد شوقي

تعودنا من السينما الإيرانية في أغلب إنتاجها على نوعية بعينها من الأفلام هي أفلام الدراما الاجتماعية التي تحمل أحيانًا أبعادًا سياسية. صحيح إن هذا النوع أفرز أعمالًا رائعة وأسماء صار أصحابها من أهم صناع الأفلام في العالم، إى أن ظهور فيلم إيراني جيد ينتمي لنوعية مختلفة يظل دائمًا حدثًا يستحق الانتباه.

أعني هنا فيلم "خنزير" للمخرج ماني حقيقي، والذي شارك في المسابقة الدولية لبرليناله ٦٨، فلفت الأنظار بموضوعه الطريف ومعالجته غير التقليدية لموضوعين مهمين هما غرور الفنان وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على علاقة الفنان بالجمهور.

المخرج والقاتل

المخرج حسن قسماي (يلعب دوره الممثل حسن مجوني بخفة ظل كبيرة) تمنعه السلطات من صنع أفلام جديد لأسباب غير معلنة. قسماي الذي تكشف ملابسه الشبابية وديكور غرفته الصبياني عن شخصية غير كاملة النضج، يبدأ فريقه وعلى رأسه زوجته الممثلة في البحث عن فرص عمل مع مخرجين آخرين فيثور ضدهم، وبينما ينشغل بأزمته ينشغل الرأي العام بلغز القاتل المتسلسل الذي يستهدف المخرجين فيقتلهم ويحفر على جبهتهم "خنزير"، حتى أن ضحيته الثالثة في بداية الفيلم تكون المخرج ماني حقيقي، مخرج الفيلم الفعلي.

الطريف أن قسماي عندما ينتبه للجرائم يسيطر عليه سؤال مدهش: لماذا لم يستهدفني القاتل حتى الآن؟ وكيف يجد ثلاثة مخرجين أفضل منّي ليقتلهم؟ هنا يكمن أفضل ما في الفيلم بنفاذه لنفسية الفنان، وغرور المخرجين ذوي التكوين التنافسي بغض النظر عن سياق التنافس. طبيعة يمكن سحبها على السواد الأعظم من مخرجي العالم بالمناسبة.

المتهم ووسائل التواصل

بسبب تطورات طريفة تحركها شخصية البطل غير الناضجة يجد نفسه فجأة قد صار متهمًا بكونه هو القاتل، ليس فقط أمام الشرطة وإنما الأهم هو اتهامه أمام الناس، ليتحول بسبب موقف غاضب تم تصويره وبثه على مواقع التواصل الاجتماعي (إنستجرام وتيليجرام غالبًا لمنع فيس بوك وتويتر في إيران)، ليتحول الأمر حملةً إلكترونية تطالب بإعدامه.

هنا ينعطف الفيلم لينشغل حتى نهايته بقضية تأثير هذه المواقع على علاقة الفنان بالجمهور، والتي يمكن أن تتغير في لحظة وبسبب فيديو لا يعرف أحد كيفية تصويره ليصير المتهم بطلًا والعكس، رأي ذكي وإن كان قد تسبب في فقدان الفيلم لاتجاهه الرئيسي بعدم إجابته عن سؤال ماذا حدث لقاسمي بعد النهاية الدموية للفيلم؟

لكنه "خنزير" يبقى عملًا مختلفًا في شكله، معاصرًا في موضوعه الذي يمكن بسهولة أن ينطبق على ثقافات مختلفة، وهذه دائمًا من سمات الأعمال المتميزة.

كاتب وناقد سينمائي مصري

حق النشر: معهد جوته القاهرة

مدونة معهد جوتة في

27.02.2018

 
 

"فضيحة" فوز "لا تلمسني" بـ"دبّ" برلين:

مدّعٍ، مستفزّ، قبيح، مملّ…!

هوفيك حبشيان - برلين

المصدر: "النهار"

آخر فيلم شاهدته في #مهرجان_برلين السينمائي (١٥ - ٢٥ الجاري)، مساء الأحد الفائت، أي في العروض المكرّرة غداة توزيع الجوائز، هو أسوأ شيء شاهدته طوال 11 يوماً من المتابعة.  

الفيلم المقصود هو "لا تلمسني" للمخرجة الرومانية أديتا بينتيلي (لا أعرف لها صلة قرابة مع المخرج الكبير لوسيان بينتيلي) الذي قرّرت لجنة التحكيم برئاسة الألماني توم تيكفر إسناده “الدبّ الذهب”، مفضّلة إياه على ١٨ فيلماً مرشحاً، ومتجاهلة أعمالاً أكثر رصانةً وروعةً وجمالاً كـ”في الممرات” للألماني توماس شتوبر (آخر فيلم عُرض في المسابقة). الواحد منّا يدعو دائماً إلى عدم تحميل المهرجان خيارات اللجنة المنفصلة والمستقلة تماماً. ولكن في مثل هذه الحال، إعادة الاعتبار إلى فيلم كهذا في واحد من أهم المنابر السينمائية “توريطة” لهذا الصرح الثقافي الذي يدخل دورته السبعين بعد سنتين. ولا أرى فيها سوى تمجيد للرداءة وانعدام الموهبة واستفزاز لمجرد الاستفزاز، الأمر الذي لم يعد عملة نادرة في زمننا الحالي.

قليلاً ما أستخدم كلمة “تافه” في مقاربة نقدية لفيلم، ولكن بينتيلي لا تترك لنا أي خيار لتدوير الزوايا. لو همّشت اللجنة الفيلم كما فعلت بأفلام أخرى، كالأميركي “دامسيل” للأخوين زلنر، لما تناولناه. ولكن، أن يتسلق فيلم بهذا الخواء إلى هذه المكانة، ويصبح أهم خبر يصدر من الـ”برليناله”، فهناك، فعلاً، ما يدعو إلى الاستياء

ناقد صحيفة الـ“غارديان” البريطانية بيتر برادشو شبّه الإعلان عن فوز هذا الفيلم بالبركسيت وبفوز دونالد ترامب. في مقاله كتب: “نعيش فعلاً زمن الكوارث”.   

الفيلم الذي قد يُحدث جدلاً عند نزوله إلى الصالات، يعبّر عن واقع معين فُرض على السينما في الفترة الأخيرة. فنحن أمام #سينما تحمل توقيع سيدة وتتحدّى القوالب الاجتماعية والجنسية الجاهزة وتأتي ببديل عن المفهوم السائد للجمال. بالأحرى، هناك سيدتان؛ واحدة قبالة الكاميرا وأخرى خلفها، يعترفن بأشياء خاصة كثر لم يألفوها. يا للأسف، هذا وحده أصبح علامة جودة، وبات رصيداً كافياً لنتحدّث عن عبقرية وفنّ طليعي وأشياء من هذا القبيل.

ينبغي التذكير لبعض من الذين يعيدون كتابة تاريخ السينما مرّة كلّ عقد ومع كلّ اكتشاف جديد، أنّ أعمالاً كثيرة تتجاوز جرأة بينتيلي أُنجزت قبل ٣٠ و٤٠ و٥٠ سنة، وليس هذا الفيلم سوى نسخة باهتة للبعض منها.

يصعب الحديث عن “لا تلمسني” وشرح ما يتضمّنه من قبح واستخفاف وسطحية وإسفاف ومحاولة غير أصيلة لإحداث صدمة، اذ لا يوجد حتى خيط يمكن الإمساك به والذهاب معه إلى النهاية، من كثرة عشوائية البناء وتخبّطه في سرد مبعثر. فالفيلم يبحر على موجة السينما التي لا هي وثائقية ولا روائية. لا مشكلة في خلط هذين الصنفين، لا مشكلة في أي شيء بالمطلق، فكلّ شيء يتوقف على الاسلوب والخيارات والقدرة الفنية. من خلال تأملات “نوعية” تدوم وتدوم لأكثر من ساعتين والإمعان في مَشاهد تجعلنا "نقرف" من الجنس، واستعراض لأجساد من كلّ الأشكال والأعمار، مترهلة أو مصابة بإعاقة، يحاول الفيلم في منحى ديداكتي الاتيان بأفكار يظنها جريئة وغير مسبوقة حول الجسمانية والحميمية والانجذاب والألم وكلّ هذه الأشياء التي استهلكتها السينما منذ زمن. كلّ ما تصوّره بينتيلي لا يتجاوز كونه أفكاراً مملة حول الفيتيشية والإشباع الجسدي وقبول الذات

يلاحق الفيلم لورا (لورا بنسون)، سيدة خمسينية تعاني ما تعانيه من عقد نفسية ورهاب وتروما وبؤس جنسي وأشياء متصلة بوالدها الذي يرقد في المستشفى (علماء النفس قد يجدون هذا الفصل مثير للسخرية). تتكلّم لورا وتستمع إلى الآخرين. تنطق بكلمات ولكن لا تقول شيئاً مهماً. نعلم إنها ترغب الجنس، ولكن تعاني فوبيا لمس الجسد. لورا ذريعة درامية كي ندخل في تماس فكري مع آخرين، ومنهم كريستيان المُصاب بضمور العضلات الشوكي الذي يتحدّى الأفكار المسبقة حول الجسد ويدعونا إلى النظر أبعد من الغلاف الخارجي، ويروي لنا أي جزء من جسده يفضّله. توظيف هذا الرجل الذي يقول بأنه لطالما اعتقد بأنه “عقلٌ يحمله جسد” في إطار جنسي فيه شيء مزعج واستغلالي.

من بين مجموع الشخصيات التي يحفل بها الفيلم، نجد أيضاً رجلاً متحولاً يقدّم فرماناً طويلاً يجعلك تشعر بالنعاس (“لا شيء غريباً في الجنس”)، وغيره من الذين يثرثرون طوال الفيلم في سياق ما يمكن تسميته ورشة بيداغوجية ارتقائية طبية. فوق هؤلاء كلهم: المخرجة نفسها التي تظهر وهي تصوّر فيلماً عن لورا، لتقول ما لديها وتصبح صلة وصل بين الأشياء وتوجه الفيلم إلى ما يمكن جعله “مانيفستو يصلح للعلاج”، في حين يخفي هذا الخيار هنّات واضحة في تركيب الحكاية. هذا كله يقع بعد مرور نصف ساعة من بدء الفيلم في الملل والادّعاء والخطابية، ليدور بعدها على نفسه للفترة المتبقية، وذلك بنرجسية قلما رأينا مثلها في السنوات الأخيرة. فـ“لا تلمسني” يشي بولادة مخرجة لا تبحث في النهاية الا عن لفت الانتباه، وهي نفسها تفاجأت من فوز فيلمها بـ”الدبّ”!

ادعاءات بينتيلي كانت لتثير السخرية مكسيموم، لولا وقوعها في ما تحاول ان تقف ضده. فنراها تربط تحرر الجسد بالجنس على نحو غير واع، والمتعة بنادٍ للمضاجعة، كأن المؤمن لا يستطيع ان يصلي إلهه إلا في كنيسة. والأنكى أن الفيلم يترجم إلى صورة ما يُقال بالكلام، في صوغ بصري يُعتبر الدرجة صفر للسينما، رغم خيارات تكوينية تبدو طليعية لوهلة (مدير تصوير: جورج شيبر ليلمارك). في النهاية، يفضح الفيلم لاوعي المخرجة و”ميديوكرية” فكرها أكثر من أي شيء آخر.

النهار اللبنانية في

27.02.2018

 
 

فيلم «وجه» للبولونية مالغورجاتا شوموفسكا: ملامح متغيرة تكشف تحاملات مجتمع بأسره

برلين ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:

في فيلمها «وجه» الحائز جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين للعام الحالي، وهي ثاني أهم جوائز المهرجان، تقدم المخرجة البولندية مالغورجاتا شوموفسكا نظرة ساخرة لاذعة قاتمة للمجتمع البولندي، بكل تحاملاته وتنافصاته. ولكن الفيلم، رغم أجوائه البولندية الواضحة، يتخطى كونه فيلما عن مجتمع بعينه أو بلد بعينه، فهو يقدم صورة ناقدة نافذة إلى أعماق البلدة الصغيرة ومجتمعها في أي مكان في العالم، خاصة في المجتمعات التي تلعب فيها المؤسسة الدينية دورا كبيرا في المجتمع وتشكيله.

حادث مأساوي هو ما يدفع أحداث الفيلم، ولكن شوموفسكا تنأى بفيلمها عن البكائية والإغراق في العواطف، وتتخذ من المأساة سبيلا لدراسة المجتمع وتناقضاته. ياشيك (ماتيوش كوشتيوكافيتش) عامل بناء في بلدة بولندية صغيرة قرب الحدود مع ألمانيا. يبدو لنا ياشيك محبا للحياة مقبلا عليها، يعيش أيام الشباب بكل ما يحمله الشباب من حماس. يطلق شعره الطويل للريح، ويستمع إلى موسيقى الميتال الصاخبة ويقود سيارته الصغيرة بسرعة من يود الانطلاق في الحياة انطلاقا. يعيش ياشيك مع أسرته، ولكنه ذو روح مستقلة محبة للحياة ويعشق داغمارا الجميلة الصاخبة المحبة للرقص والموسيقى الصاخبة والحياة مثله، ويزمع الزواج منها.

يبدأ الفيلم بجموع تحتشد أمام متجر ضخم للسلع الكهربائية. من بين المحتشدين ياشيك وداغمارا. إنها فترة التخفيضات السنوية في الأسعار قبيل عيد الميلاد. يقدم المتجر تخفيضات كبيرة في ما يسميه بـ«تخفيصات الملابس الداخلية». يفتح المتجر أبوابه، وفي مشهد سريالي عبثي نجد المحتشدين من كل الأعمار، من الشباب والمسنين، يتجردون من ثيابهم ليهرعوا بملابسهم الداخلية لاختطاف السلع المخفضة اختطافا. تراشق بالأيدي وتكالب على السلع يكشفان أن المجتمع المادي الاستهلاكي يجرد الإنسان من آدميته، كما أنه يفضح تطلعات مجتمع للحصول على علامات التطور الحديث، رغم التكالب الذي يشبه في بدائيته شراسة الإنسان الأول. هذا المشهد الافتتاحي الذي يضحكنا ويصدمنا في آن يحدد نبرة الفيلم منذ البداية، فهو فيلم يسعى لكشف ما تخفيه طبقة التقدم والتحضر من تحاملات.

يعود ياشيك فرحا بتلفزيونه الجديد، الذي اقتنصه اقتناصا في التخفيضات، وإلى عمله في المشروع البولندي الجديد، الذي ستباهي به البلدة الكاثوليكية المتدينة المدن الأخرى. تسعى المدينة بمناسبة عيد الميلاد لإقامة تمثال ضخم للمسيح يفوق في حجمه تمثال المسيح الشهير في ريو البرازيلية. تبدو البلدة الصغيرة في حاجة ماسة إلى مشاريع أخرى حيوية ينتفع بها الناس حقا، ولكنها تفضل إقامة تمثال، وليته تمثال ذو قيمة فنية عالية، بل مجرد بناء إسمنتي ضخم قبيح الملامح والقسمات. يتحول الدين إلى مجرد رموز للتباهي، وتنفق الأموال على مشاريع للتفاخر.

ذات يوم أثناء العمل أعلى التمثال، يسقط ياشيك سقطة يتهشم فيها وجهه وتذهب ملامحه تماما، ليصبح أول بولندي تُجرى له جراحة نقل وجه. لا تمضي شوموفسكا وقتا في رثاء فيلمها لحال ياشيك ولوجهه الذي ذهب ليحل مكانه وجه غريب بقسمات غريبة، ولا تذهب في دراسة نفسية لتأثير هذا الوجه الغريب الشائه على نفسية ياشيك أو سلوكه. يصبح ياشيك صاحب أغلى وجه في بولندا، وجه بُذل في تكوينه الكثير من الجهد والوقت والمال، ولكنه وقت بذل أيضا للتباهي. فالدولة، كما سيتضح لاحقا، لا يعنيها ياشيك في شيء ولا تعنيها حياته أو معاناته، بل يعنيها أن تبدو في مظهر الدولة المتطورة المتقدمة علميا، التي تجرى في مستشفياتها عمليات صعبة، من أوائل العمليات من نوعها في العالم.

يعود ياشيك بعد الجراحة إلى بلدته، ليكون محل أنظارها لعدة أيام، ثم تنحسر الأضواء ويواجه ياشيك الوجه الحقيقي للبلدة بكل قبحه وتحاملاته. يصبح ياشيك محل التندر في البلدة، يشير إليه الأطفال باسم «الوجه»، ويجد نفسه غريبا مخذولا، حتى أمه تعترف للقس بأنها لا تشعر بأنه ابنها، بل تظن أن به مسا من الشيطان. صداقات تتحطم، وعود حب تذهب بلا رجعة، حتى أسرته تضيق به ذرعا وبالنفقات التي يتطلبها علاجه. أما الدولة فتتنصل منه أيضا، فبعد إن كان فتى الغلاف الذي تسوق الدولة به نجاحها العلمي، ترفض الدولة مواصلة نفقات علاجه، وتقر بأنه يجب عليه العودة للعمل، وهو لا قبل له بذلك.

تقدم شوموفسكا طرحا ساخرا لاذعا في نقده وتنأى بفيلمها عن البكائية. فيلم لا يخلو من الكوميديا، رغم من المأساة التي يطرحها، ولكنها كوميديا سوداء قاتمة، نضحك منها ومعها، لأنها تلمسنا وتكشف لنا عن مثالب مجتمعاتنا وسوءاتها.

نشاهد الفيلم وتتولد في أذهاننا على الفور مقارنات مع مجتمعاتنا وكيفية تناولها لمثل هذا الحدث إن وقع فيها، ونفكر في مجتمعاتنا الصغيرة وصورتها التي تبدو لطيفة ودودة مظهرا، وما يعتمل تحت هذا السطح من تحاملات وتعصب وغيرة وقسوة ولا مبالاة، باحتياج المحتاجين فعلا. استخدام شوموفسكا للكوميديا هو أحد أهم مصادر قوة الفيلم وتأثيره، هي كوميديا سوداء ولكنها كاشفة للغاية، كضحكات أهل البلدة على غجر الرومان الذين يعاملهم أهل البلدة بعنصرية مستترة، في صورة نكات في الحانة، أو ضحكنا من القس الذي يستمع إلى اعتراف رعيته في الكنيسة، متلذذا بالأسرار الجنسية للجميلات. تناول غير متوقع لمأساة كان يمكن أن تتحول في يد مخرج آخر إلا ميلوداما مليئة بالدموع، وتأتي نهاية الفيلم على النسق الساخر نفسه الذي اتخذته شوموفسكا لفيلمها.

في فيلم يتخذ من الوجه عنوانا له يأتي استخدام الماكياج متقنا للغاية في تصوير التغير الكبير الحادث في ملامح ياشيك بعد الحادث، حتى أننا نظن أننا أمام وجه مختلف تماما، ولكن المفارقة الكبرى في الفيلم تكمن في أن ما يسبب الصدمة لياشيك حقا ليس الحادث الذي كاد أن يفقد حياته بسببه، وليس وجهه الذي ذهب بلا رجعة ليحل محله وجه لا يعرفه، ولكن ما يسبب له الصدمة حقا هو مجتمعه الذي ظن أنه يعرفه، ولكن اتضح له أنه لا يعرف عنه شيئا. كتمثال المسيح الضخم الذي ينتهي العمل منه بتركيب وجه المسيح في وجهة خاطئة في مؤشر إلى مسعى غير صائب في نهاية المطاف لإبهار العالم، يجد ياشيك وجها لا يعرفه يدلل رفض المجتمع له على بلد ما زال يحمل من التحيز والتحامل والخرافات الدينية الكثير.

القدس العربي اللندنية في

01.03.2018

 
 

مهرجان "برليناله"...

للسينمائيين العرب نصيب في التظاهرة

برلين ــ رشا حلوة

اختتمت قبل أيام الدورة الثامنة والستين من مهرجان برلين السينمائي الدولي "برليناله"، والذي وصل إليه سينمائيّون وعاملون في القطاع السينمائيّ من كلّ أنحاء العالم، ليشاركوا ويعرضوا أفلامهم أو مشاريعها، لمشاهدة الأفلام، للكتابة عنها، لعقد اجتماعات ولقاء منتجين وغيرها من الأنشطة التي تدور حول شاشة السّينما وعالمها. يتغيّر وجه مدينة برلين خلال أيام المهرجان، حركتها، زيادة زائريها، وتتحوّل إلى احتفاليّة كبيرة للصورة والصّوت بالأفلام الروائيّة والوثائقيّة والتجريبيّة، القصيرة والطويلة، كما أن المهرجان يشكّل فرصة أيضًا لاكتشاف المدينة. 

برلين مدينة تاريخ 

في حديث مع علياء ذكي من مصر، وهي محامية، تعمل في القطاع السينمائي منذ 7 سنوات، خاصّة في مجال إدارة البرامج والإنتاج السينمائيّ، وهذه هي المرة الثانيّة التي تزور فيها "برليناله"، تقول عن المهرجان: "هو أوّل مهرجان سينمائيّ يُقام مع بداية كلّ عام، انبهرت دومًا من رؤية الناس يقفون عند التاسعة صباحًا في طابور ينتظرون مشاهدة فيلم سينمائيّ صُنع في ضفة العالم الأخرى، بالرّغم من البرد! أعتقد أن هذا يدفئ القلب، وأتمنى لو لدينا نفس الحماس في العالم العربيّ لرؤية مهرجان سينما وأفلام مستقلّة، ولكننا في الطريق إلى هُناك".

وعن برلين، عبّرت علياء ذكي عن حبّها للمدينة، وعندما تزورها، تقضي بعض الساعات تمشي في شوارعها، تقول: "لدي هاجس إزاء الحرب العالميّة الثانيّة والتاريخ الألمانيّ خلال الحرب وبعدها، لذلك زرت المتاحف المرتبطة بهذا التاريخ، وأجدها ساحرة ومحزنة بشكل عميق. أحبّ منطقة هاكيشر ماركت Hackescher Markt وكل الأسواق الصغيرة من حولها، كما استمتع باكتشاف مطاعم ومطابخ جديدة، خاصّة الفيتناميّة". ترى علياء أن برلين هي مدينة سينمائيّة جدًا، مليئة بالقصص، الكثير منها لم يُرو بعد، وفي إجابة عن السؤال لوّ أرادت أن تصنع فيلمًا عن برلين، عن ماذا سيتمحوّر، تقول: "ممكن أن أصنع فيلمًا عن المغتربين في برلين، وكيف منحتهم المدينة فرصًا مثيرة جدًا وتجارب لاكتشاف شغفهم". 

شجر ميّت وقطارات 

خلال أيام "برليناله"، وتحديدًا يوم الثامن عشر من شباط/ فبراير، عُرض للمرة الأولى، وذلك في عرض عالميّ، فيلم "أرض المحشر" لميلاد أمين وغيث بيرم، والذي يحكي عن آخر أيام حصار حلب الشرقيّة. ميلاد أمين هو مخرج سينمائيّ من سورية، درس الفنون الجميلة وعمل في مجالها بالإضافة إلى النحت، ومع بداية الثورة السورية، عمل في مجال التصوير الصحافي إلى أن تطوّر إلى صناعة أفلام وتقارير وفيديوهات، ومن ثم إخراج فيلمه الأوّل "خبي الموبايل"، ويعيش ميلاد اليوم في بيروت منذ 3 سنوات. "أوّل مرة بطلع على أوروبا، أصلًا أوّل مرة بطلع بالطيارة"، أجابني ميلاد عندما سألته عن برلين. ويواصل: "وصلت برلين عند ساعات الليل، أوّل ما لاحظته كان أن الشجر ميت، ولم يكن أحد في الشّارع، فاستغربت جدًا. في اليوم الثاني، نزلت إلى الشّارع لأتفقد المدينة، رأيت الحدائق والمساحات العامّة والدراجات الهوائيّة والقطارات في الشوارع، هنالك حالة من الحريّة في المدينة، كنت مرتبكاً في البداية، ولكن بسرعة اندمجت مع روح برلين". مع ذلك، أكثر ما أثار استغرابه هو أن الشجر ميّت في المدينة، وما لفت نظره أيضًا كان، على مستوى الناس، هو التنوّع بين الأعراق والجنسيات، وبما يتعلّق بأصدقائه وصديقاته ولقاءاته معهم/ن، قال ميلاد: "شعرت أن الناس مهزومة هنا، حتّى أصدقائي، أتخيّل أن السلام الذي يعيش في المدينة مغريًا، لكن، إذا فُرض السلام على الإنسان فرضًا، يجعل الإنسان كئيبًا وتتكوّن حالة استسلام، وهذا فرق مهمّ". 

مدينة مستفزة 

محمد الحديدي، هو مصّور ومخرج سينمائيّ من مصر، وصل برلين ومهرجان السينما الدوليّ للمرة الأولى، للمشاركة ضمن برنامج "برليناله تالينس" (موهوبو برليناله) خلال فترة المهرجان. خلال حديثنا عن برلين، تطرق إلى كونها مكاناً بصريّاً جميلاً، وتابع: "فيلم "وينغز أوف ديزاير (الجنة فوق برلين) للمخرج فيم فيندرز هو حكاية عظيمة عن المدينة، وكلما تحرّكت فيها، أتذكر شخصيّة من شخصيات الفيلم، وكل من عاش في المدينة أو يحبّ الفيلم، يعرف دقة نقل الفيلم لصورة برلين، كما أنّه بمثابة تحيّة للمدينة، حاملًا روحها، وكان حاضرًا معي طوال الوقت وأنا هُنا". 

يرى الحديدي أن هنالك شيئا مستفزا في المدينة، يقول: "هي عكس الصّورة التي يتخيّلها زائر قادم من العالم العربيّ عن أوروبا، الناس يرمون السجائر في الشارع، يعبرون الشارع والإشارة ما زالت حمراء، والمدينة ليست نظيفة جدًا، وهذا كلّه جميل لأنها تفاصيل تصنع من المدينة إنسانيّة جدًا وليست بعيدة، بمعنى لا يوجد فيها شيء مرعب الجمال، وهي ليست متقدّمة تكنولوجيًا ومليئة بالروبوتس، بالعكس، هي حيّة، ففي حال قارناها مع كوبنهاغن مثلًا، سنشعر بمسافة بيننا وبين كوبنهاغن، هذه المسافة غير موجودة بيننا وبين برلين". عندما وصل الحديدي برلين، وقبل أن يدخل "الهوستل"، كان يقطع الشارع، فرأى سيارة مسرعة باتجاهه ومن ثم موكب سيارات زفّة، عن هذا يقول: "المكان مفتوح، فيه قوانين واحترام ومواعيد، وغالبًا هنالك مقاعد فارغة في المترو للجلوس عليها، لكنها لا تعمل بشكل روبوتيّ وليست جافة، مبانيها لا تلمع، وهذه يجعل من مشاهدها أكثر إنسانيّة، تجعل من المدينة قريبة وفيها حياة".

العربي الجديد اللندنية في

01.03.2018

 
 

المخرج غس فان سانت لـ {الشرق الأوسط}:

يتطور الإنسان في اتجاهات لا يدري أسبابها

برلين: محمد رُضا

«لا تقلق، لن يذهب بعيداً على قدميه»، هو جديد المخرج الأميركي غس فان سانت الذي كانت لديه حصته من الأعمال غير الناجحة من بينها «بحر من الشجر» الذي عرضه على شاشة مهرجان «كان» قبل ثلاث سنوات. لكنّ الفيلم الجديد ينضوي سريعاً تحت عباءة أعمال المخرج الجيدة. ليس العمل الذي يمكن اعتباره رائعاً، لكنّ جودته تكمن في المعالجة الكلية لموضوع صعب وإن لم يكن جديداً. دراما خفيفة وعميقة في دلالاتها الإنسانية عن جزء من حياة الرسام الكرتوني جون كالاهان الذي لزم الكرسي المتحرك نتيجة حادثة نتجت، بدورها، عن إدمانه الشرب فبات مُقعداً (لثلثي الفيلم تقريباً).

هذا يخلق دائماً وضعاً صعباً إلى أن يكشف المخرج الذي يتناول شخصية مقعدة، لسبب أو لآخر، عن كيفية معالجته هذا الوضع، حيث يحيل صعوباته إلى ثراء من الملاحظات حول الإنسان والأفكار والتفاصيل التي تحيط به في ظرف كهذا، أو كما يقول المخرج في حديثه هنا «الأشياء البسيطة في الحياة التي تتبلور صوب نتائج غير متوقعة وكيف نواجهها من جديد».

·       ما هو تاريخ هذا الفيلم الجديد. قرأت أنّك فكرت فيه منذ سنوات عدّة.

- منذ 10 سنوات تقريباً، عندما جاءني روبين ويليامز بالفكرة. كان يريد لعب شخصية الكاريكاتيريست جون كالاهان. حينها طلبت فرصة للتفكير. شيء كهذا بدا لي في البداية مختلفاً عما أريد القيام به. سيرة حياة؟

·       هل تقدم الممثل بمشروع كامل أو بالفكرة فقط؟

- قدم مشروع فيلم بخطوطه العريضة. قدّم بعض التفاصيل التي جمعها عن كالاهان قبل الحادثة وبعدها. وقدّم نفسه كممثل للدور، الأمر الذي لم يتم طبعاً لأنه مات بعد ذلك (2014).

·       واكين فينكس يقوم الآن بهذا الدور. ألا يفرض ذلك فيلماً مختلفاً عمّا كان الحال عليه لو أنّ ويليامز لعبه؟

- طبعاً. الفيلم ليس دراما جادة، لكنّه كان سيتجه للكوميديا أكثر بكثير ممّا هو الوضع عليه الآن. تستطيع أن تتخيل ويليامز في شخصية رسام كاريكاتيري. لكن فينكس لا يمضي في هذا الاتجاه لذلك كان التركيز على مناسبات لتنويع المادة التراجيدية تعامل مع ممثلين مساندين.

·       خلال مشاهدة الفيلم يتبدّى لنا أننا نأخذ الحياة على نحو إلى أن يقع حادث قد يغير مجرى الحياة على نحو غير متوقع. نصبح سجناء وضع مختلف...

- ... وسنبدأ مراجعة ما فعلناه واكتشاف أنّنا كنّا متّكلين على تلك الآلية الطبيعية، كما لو أنّها لن تتغيّر بسبب حادث ما. أحب أن أعتبر هذا الفيلم نظرة على الأشياء البسيطة في الحياة التي تتبلور صوب نتائج غير متوقعة وكيف نواجهها من جديد.

·       إذن توجه إليك روبين ويليامز بهذا المشروع لأنه مثّل في فيلمك «غود ول هنتينغ»... هل هذا صحيح؟

- نعم لأنه يعرفني منذ ذلك الفيلم. لكنّ اتصالاتنا بعد ذلك الفيلم لم تنقطع كلياً وأنا دائماً ما كنت مستعداً لسماع ما يفكر به.

·       يبقى ذلك الفيلم أحد أكبر نجاحاتك. حققته قبل 20 سنة تقريباً ولا تزال مشهوراً به ربما أكثر من سواه.

- هذا حال المخرجين جميعاً على ما أعتقد. ربما اليوم أكثر من الأمس.

·       كيف ترى حال السينما المستقلة هذه الأيام، خصوصاً مع انتشار وسائل تمويل مختلفة خارج نطاق الشروط الهوليوودية؟

- كمخرج مستقل قلّما تتعامل مع هوليوود كما تعرفها. شروطها تأتي في المقدمة وعليك أن تقبل بها أو لا تقبل. وفي أغلب الأحيان تفقد سيطرتك على الفيلم وعلى مصيره إذا ما قبلت. السينما المستقلة اليوم لديها كما ذكرت أبواب أخرى تستطيع أن تطرقها، لكنّ القليل من المخرجين الجدد يبقون في دائرتها. كلهم أو أغلبهم مستعدون لتحقيق أفلام خفيفة تضمن لهم النجاح المادي أساساً. ربما كنت مغالياً بعض الشيء، لكنّ الأمر يبدو لي واقعاً.

·       هل بتّ تميل إلى قدر من التشاؤم حيال الحياة؟ صحيح أن هذا الفيلم يلوّن الوضع برغبة توفير الجانب الإيجابي للحادثة لأن كالاهان حوّل إعاقته إلى فرصة لكي يولد من جديد، لكنّ الحادث ونتيجته فادحان. والفيلم في موسيقاه وتصويره وأحاسيسه حزين...

- أوافقك على هذا الاعتبار وربما أنا الآن أقل تفاؤلاً ممّا كنت عليه سابقاً. الإنسان يتطوّر في اتجاهات لاحقاً، ما يدري أسبابها. بالنسبة لي هناك مشكلات عويصة تحيط بنا خصوصاً لناحية أنّنا غير قادرين على التواصل الصحيح مع بعضنا بعضاً، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الثقافي. لكن فيما يتعلق بهذا الفيلم، أعيد ما ذكرته أنت، وهو أنّ روبين ويليامز كان سيقدم اختلافاً عن واكين فينكس الذي هو ممثل رائع جداً وأحببت العمل معه كثيراً، لكنّ الفيلم يحمل بصمته الجادة بالتأكيد.

·       ماذا تتوقع لفيلمك تجاريا؟

- لا أتوقع شيئاً كثيراً. كأفلامي الأخرى سيتوجّه للجمهور المحدد الذي يُقبل على هذه الأفلام، إمّا لأنه معجب بما أقدمه أو لأن الموضوع يثيره على نحو ما.

·       هل لديك ملاحظات حول فيلمك الأخير «بحر من الأشجار»؟

- أحببت ذلك الفيلم وأفكاره الكثيرة. حين تسألني عن التشاؤم تدفعني للاعتقاد بأنّك شاهدت ذلك الفيلم وقرأت كلمة تشاؤم على صفحته.

·       صحيح وبسهولة.

- حسناً. الفيلم لم يجد إقبالاً، والنقاد لم يقيّموه في رأيي بالاستناد إلى قراءة واعية لأبعاده. الحكاية في رأيي كانت تماماً عمّا يرد هنا: ضرورة التواصل بيننا. عدم التواصل قد يكون ضياع بطلي الفيلم في غابة لا يمكن الخروج منها.

الشرق الأوسط في

01.03.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)