ستيفين سودربرج من المخرجين الذين تميزوا في
الانتقال بين الكثير من الأجناس السينمائية بسلاسة، مع الحفاظ على
حد أدنى من الجودة في معظم أفلامه، بالطبع لم تعد أفلامه الأخيرة
تحمل تميزًا مثلما كانت أفلامه الأولى، لكنه لا يزال محافظًا على
حبه في التنقل بين مواضيع جديدة.
في إطار القسم الرسمي خارج المسابقة بمهرجان برلين السنيمائي عُرض
فيلم سودربرج الأحدث
Unsane
أو"المختل"، الفيلم ينتمي إلى نوعية الدراما النفسية والتشويق،
مبتعدًا عن الكوميديا والجريمة التي حضرت في معظم أفلامه الأخيرة.
لكن التجديد في الحقيقية ليس في موضوع الفيلم بل في طريقة تصويره،
المخرج صور فيلمه بالكامل بكاميرا
iPhone.
تحت الحصار
قبل التطرق إلى طريقة تصوير الفيلم وتأثيرها عليه، ينبغي التعرض
للفيلم نفسه. تدور قصة الفيلم عن سواير (كلير فوي) التي تذهب إلى
معالج نفسي للتحدث عن خوفها من شخص يطاردها ويرغب في الزواج منها،
لتُجبر على البقاء داخل مستشفى نفسي رغمًا عنها، وهناك تفاجأ بوجود
نفس الشخص الذي يطاردها في طاقم المستشفى.
الفيلم من كتابة جيمس جرين وجوناثان برينستن، اللذان يعملان معًا
عادة، على مستوى السيناريو توجد متناقضات عديدة بين الجيد جدًا
والمتواضع جدًا.
كانت بداية الفيلم وسير الأحداث من إيجابيات السيناريو إذ ندخل في
قلب الحدث سريعًا، دون تضييع الوقت في تفاصيل لن تضيف إلى
المشاهدة، ولزيادة جانب التشويق، أخفى السيناريو سر العلاقة التي
تربط بين سواير ومُطاردها ديفيد (جوشوا ليونارد)، وتأتي تتابعات
النهاية أيضًا لتحمل عدة مفاجآت وكسر للتوقعات بشكل جيد.
بقدر ما كان الإيقاع سريعًا لكن لم يكن هناك اهتمام كافٍ بالتعريف
ببقية الشخصيات في المصحة، فمنذ أول مشاهد دخول سواير لغرفتها نجد
أن هناك نيت (جاي فارو) يرغب في مساعدتها وفي مقابله فايوليت (جونو
تيمبل) تكرهها دون أية مبررات.
في الوقت نفسه شتت السيناريو انتباهنا في ثلثه الثاني حول محور
الأحداث بعد دخول البطلة إلى المستشفى، إذ تتبادل حوارًا طويلًا مع
نيت، يوضح لها فيه فساد منظومة المستشفى التي تستغل شركات التأمين
وتجبرها على الإنفاق على المريض بحجة أنه يحتاج إلى البقاء داخل
المستشفى، مما يجعلنا نذهب إلى كيفية خلاص سواير من هذه المصحة
المخالفة للقوانين والقائمين عليها، كل هذا قبل أن تقابل مُطاردها
لاحقًا لننسى المستشفى مؤقتًا وينصب التركيز مع الشخصيتين
الرئيسيتين.
لعبت الصُدف كذلك دورًا أساسيًا في الأحداث بشكل أفسد منطقيتها،
لنجد أن هناك الكثير من المنغصات في سيناريو كان يُمكن أن يخرج
بشكل أفضل.
بعدسة آيفون
نعود الآن إلى التجربة التي قرر سودربرج أن يخوضها في فيلمه، أن
يكون الفيلم بالكامل مصورًا بكاميرا الموبايل. المتابع للتجارب
السينمائية الشابة أو أفلام الطلبة يعرف أن كاميرا الموبايل أصبحت
بديلًا سهلًا واقتصاديًا وهي جيدة أيضًا إلى حد كبير، هكذا صارت
هناك مؤخرًا مهرجانات متخصصة فقط في سينما الموبايل، فهل قدم
سودربرج جديدًا في تجربته؟
ربما سيلاحظ المشاهد بعد المشكلات في ألوان بعض المشاهد خاصة التي
تعتمد على إضاءة ضعيفة، أو عدم ثبات الـ
Focus
في بعض اللقطات، لكن إجمالًا يصعب ملاحظة أن هذا الفيلم مصور
بكاميرا الهاتف المحمول.
يعود هذا لسيطرة المخرج على كادراته ليُخرج أفضل صورة ممكنة
بالإمكانيات البسيطة المتاحة، دون أن يقيده هذا في الوقت نفسه
باستخدام أحجام لقطات قريبة أو متوسطة فقط، بل على العكس تنوعت
أحجام اللقطات طبقًا لطبيعة المشهد، فلا نكاد نشعر أن الكاميرا
تقيد من حرية المخرج أو أنها كاميرا محدودة الإمكانيات في النهاية.
كان من الممكن أن يقدم سودربيرج فيلمًا تجريبيًا أو يعتمد على شكل
بصري مختلف يتماشى مع تجربة الهاتف المحمول، لكن اختياره لتقديم
الفيلم بالشكل التقليدي يُثمن التجربة بشكل أكبر ويجعلها نقطة
انطلاق للمزيد من الأفلام المشابهة لاحقًا.
في عام 1999 قدم فيلم
”The Blair Witch Project“
(مشروع الساحرة بلير) ثورة إذ كان الفيلم يستخدم تقنية تصوير
متواضعة
”Hi-8 video“
لكنه حقق نجاحًا استثنائيًا جعله يدخل موسوعة جينيس آنذاك كأكبر
فيلم يحقق إيرادات مقارنة بتكلفته، لكن لم تنجح أفلام أخرى في
استثمار نجاح الفيلم بشكل قوي وتحقيق نجاح مشابه بتكلفة منخفضة،
إلا بعد 10 سنوات مع فيلم
”Parnormal Activity“
(نشاط غير طبيعي) ومرة أخرى كان فيلم رعب. هكذا يبدو أن أفلام
الرعب والدراما النفسية أرض خصبة للتجارب الجديدة.
الأداء المتفاوت
لدى سودربرج قدرة على تحريك الممثلين، تظهر في ترشح الكثير ممن
عملوا معه لجوائز التمثيل، بل إن جوليا روبرتس لم تحصل طوال
مسيرتها سوى على أوسكار واحدة عن فيلم
”Erin Brockovich“
الذي كان من إخراجه.
قدمت الممثلة كلير فوي أداءً جيدًا إلى حد كبير داخل أحداث الفيلم،
الممثلة الشابة التي يعرفها المشاهدون من خلال مسلسل
”The Crown“
(التاج) حاولت أن تقدم الشخصية المضطربة والخائفة دون انفعالات غير
مطلوبة أو ليست في محلها. في مقابلها يأتي جوشوا ليونارد، الذي كان
أحد أبطال
”The Blair Witch Project“
ليقدم أداء تقليديًا شاهدناه من قبل لشخصية المريض النفسي الذي لا
ينجح في ضبط انفعالاته.
هكذا نجد أن الفيلم ليس بأفضل حالٍ ممكن على المستوى الفني، لكنه
كتجربة سينمائية في الغالب سيكون فتحًا، وربما نشاهد الكثير من
الأعمال المصورة بكاميرات الهواتف المحمولة، خاصة وهذه التكنولوجيا
تحقق قفزات على مستوى جودة الصورة في كل عام، وفي حال حدوث هذا
سيكون لدى صناع الأفلام فرصة لتقديم أفلامهم بتكلفة منخفضة.
####
سباق الدب الذهبي (3):
ختام مسابقة برلين بأعمال متميزة
أحمد شوقي
انتهى أخيرًا عرض كافة الأفلام المتسابقة على الدب
الذهبي لمهرجان برلين السينمائي الثامن والستين، وعلى الجوائز
الأخرى الممنوحة في المسابقة الدولية التي تحكمها لجنة برئاسة
الألماني توم تيكوير، مخرج "اجري لولا اجري" و"كلاود أطلس". بقراءة
هذا المقال وجزئيه السابقين، يكون لديك إلمام بسيط بجميع أفلام
المسابقة، المرشح منها للجوائز الرئيسية، والممثلين البارزين
المؤهلين لجوائز التمثيل.
لا تقلق.. لن يذهب بعيدًا على قدميه
Don’t Worry, He Won’t Get Far on Foot (الولايات
المتحدة)
فيلم خفيف الظل، جيد الصنع، يعود به الأمريكي المخضرم جوس فان سان
لمسابقة برليناله، بفيلم كان صاحب فكرته الأولى النجم الراحل روبن
ويليامز، الذي يهدي فان سان الفيلم لروحه بعد أن رست البطولة على
يواكين فينيكس، ليجسد القصة الحقيقية لرسام الكاريكاتير الشهير جون
كالاهان، الذي تعرض بسبب إدمانه الخمور لحادث سير مروع تسبب في
شلله، ليبدأ بعدها مسيرته في رسوم الكاريكاتير اللاذعة التي يصل
كثير منها لحدود استفزازية لجماعات بعينها.
المخرج يتحرك بحرية وبشكل غير خطي بين الماضي والحاضر، بين ما تسبب
في جلوس كالاهان على كرسيه المتحرك، وبين محاولاته للإقلاع عن
الخمر الذي لم يتركه حتى بعد الحادث، عبر جلسات علاج جماعي يديرها
شاب ثري مثلي غريب الأطوار (يلعب الشخصية جوناه هيل ليظهر بصورة
جديدة تمامًا ربما لو كان الفيلم قد عُرض في نهاية العام الماضي
لأهلته لأوسكار أحسن ممثل مساعد).
الفيلم يوظف رسوم كالاهان الحقيقية بل ويحركها كفواصل تضيف
للحكاية، يطرح في أحد مستوياته مشكلة إدمان الخمور وما يمكن أن
تفعله بالبشر، ويحاول ـ وهو الأهم ـ أن يعمق شخصية جون كالاهان وإن
كانت الشخصية تبدو في النهاية أكثر اتزانًا من سمعة كالاهان على
أرض الواقع.
ربما ساهم في ذلك أداء يواكين فينيكس، المُختلف عليه بين من يراه
جديرًا بالدب الفضي لأحسن ممثل (لو حققها سيجمع بينها وبين نظيرتها
في مهرجان كان الاخير)، ومن يراه بالغ في تحويل الشخصية
كاريكاتيرًا في حد ذاتها مما أفقدها الحميمية. لكن بغض النظر عن
الآراء يمكن اعتباره فيلم جيد يصلح للعرض التجاري، لكن حصوله على
جوائز سيكون صعبًا إلى لو امتلكت لجنة التحكيم نفس مشاعر المعجبين
ببطل الفيلم.
التقييم: *** من خمس درجات
خنزير
Pig (إيران)
يواصل المخرج ماني حقيقي تجربته الخاصة المختلفة تمامًا عن الشكل
السائد في السينما الإيرانية، الجادة والواقعية في السواد الأعظم
من إنتاجها. حقيقي يقدم فيلمًا ساخرًا، سوداويًا، يحول عالم
السينما خلفية لقصة تمزج خفة الظل بالمرارة بصورة سيكاديليكية
مستلهمة أساسًا من لا وعي الشخصية الرئيسية، المخرج حسن قسماي (حسن
مجوني) الذي تمنعه السلطات منذ عامين من إخراج أفلام جديدة لسبب
غير معروف.
المخرج الذي تكشف ملابسه الشبابية وديكور غرفته الصبياني عن شخصية
غير كاملة النضج، يبدأ فريق عمله وعلى رأسه زوجته الممثلة في
التسلل للبحث عن فرص عمل مع مخرجين آخرين منهم من يراهم مدعين
مفتقدين للموهبة، وبينما ينشغل هو بأزمته يشتعل الرأي العام
بالقاتل المتسلسل الذي يستهدف المخرجين فيقتلهم ويكتب على جبهتهم
"خنزير" بشكل وحشي، حتى أن ضحيته الثالثة في بداية الفيلم يكون
المخرج ماني حقيقي، مخرج الفيلم الفعلي.
الطريف أن البطل عندما ينتبه للجرائم يسيطر عليه سؤال مدهش في
طرافته: لماذا لم يستهدفني القاتل حتى الآن؟ وكيف يجد ثلاثة مخرجين
أفضل مني ليقتلهم؟ هنا يكمن أفضل ما في الفيلم بنفاذه لنفسية
الفنان، وغرور المخرجين ذوي التكوين التنافسي بغض النظر عن سياق
التنافس. طبيعة يمكن سحبها على السواد الأعظم من مخرجي العالم
بالمناسبة.
سرعان ما يجد البطل نفسه وقد صار هو المشتبه فيه الرئيسي في
الجرائم، تصاعد درامي مناسب جاء في وقته، لكنه أخل بمسار العمل
واتجه به في منعطف أفقده الكثير من قيمة تشريح نصفه الأول لنفس
الفنان. قد يكون مسار النصف الثاني والمرتبط بشكل كبير بتأثير
وسائل التواصل الاجتماعي على علاقة الفنان وأزماته بالجمهور طريفًا
حتى وإن انتهى نهاية دموية غير متوقعة، لكنه بالتأكيد يقل كثيرًا
عن البداية التي مهدت لفيلم أكبر بكثير مما انتهى عليه عمل ماني
حقيقي الجديد. وإن كانت غرابة الفكرة قد تضع الفيلم ضمن اهتمامات
لجنة توم تيكوير للجوائز.
التقييم: *** من خمس درجات
شقيقي يدعى روبرت وهو أحمق
My Brother's Name is Robert and He is an Idiot (ألمانيا)
ليس أسخف من عنوان فيلم المخرج فيليب جروننج سوى الفيلم نفسه.
بحثنا طويلًا عن أثقل أفلام المسابقة ظلًا وأكثرها تكلفًا، ورشحنا
فيلمي "دامسيل" و"موسم الشيطان" للقب، حتى جاء هذا الفيلم ليحسم
الأمر تمامًا، حتى إنه وقبل مرور الساعة الأولى من ساعات الفيلم
الثلاثة، كان تقريبًا نصف عدد حاضري العرض في قصر برليناله قد
غادروا الصالة، نتحدث هنا عن 500 مغادر على الأقل، من مختلف
الجنسيات والثقافات.
شاب وفتاة توأمان في عمر المراهقة، يذهبان لحديقة تواجه محطة وقود
من أجل أن يساعد الشاب شقيقته في المذاكرة، ليقضيان ثلاث ساعات من
الثرثرة الفارغة حول الفلسفة والجنس، ويدخلان رهانًا غير مقنع أن
تجد الفتاة من تمارس معه الجنس، مع إيحاء مستمر برغبة متبادلة
بينهما.
تصوير غرائبي يمكنه أن يركز لدقائق على نملة تسير على بطن الفتاة
النائمة في الحديقة مثلًا، وأحداث تظل لأكثر من ساعتين بلا أدنى
تصاعد أو حركة، قبل أن تتصاعد بشكل غير مقنع تحت أي مسمى في الساعة
الأخيرة، التي تنتهي بشكل جنوني لا يمكن بعد كل تفكير ممكن أن تصل
لاستنتاج حوله، في فيلم كان من الممكن أن يستمر ثلاثة ساعات إضافية
بلا مشكلة، ولم يكن الملل ليزيد عن الوضع الحالي.
الفيلم دفع المجلات السينمائية الثلاث الكبرى (فارايتي وسكرين
وهوليوود ريبورتر) لكتابة تعليقات طريفة عليه، من بينها إنه "يشبه
أفلام صندانس قدر ما يشبه روبرت باتنسون روبرت دي نيرو"، و"رغم
صعوبة فيلم المخرج السابق إلا إنه يصير كـMy
Best Friend's Wedding
بالمقارنة بعمله الجديد"، وأن الفيلم قد يعجب "من يرون أن مايكل
هانيكه صار مريحًا أكثر من اللازم".
التقييم: * من خمس درجات
متحف
Museum (المكسيك)
جربة مغامرة يقدم عليها المخرج المكسيكي ألونسو ريوز بالاثيوس في
فيلمه الطويل الثاني، والذي يروي فيه بتصرف حكاية سرقة عدد من
القطع الأثرية من متحف المكسيك الوطني في منتصف الثمانينيات.
المخرج يتعامل مع الحكاية التي تصفها التترات بأنها (قطعة مقلدة
للواقع) بحرية أسلوبية كاملة، بل وبقصدية للتنقل خلال الأحداث بين
الأنواع الفيلمية المختلفة.
حكاية الشابين المنتميين للطبقة الوسطى واللذين يقرران سرقة المتحف
بدون سبب معروف، فليست حاجتهما للمال محركًا رئيسيًا كما يتضح، بل
ربما حب المغامرة والتمرد على الأهل كان لها اليد العليا، حكاية
يمزج فيها المخرج بين فيلم الدراما الأسرية، أفلام الطريق، أفلام
المقابلات العابرة
brief encounters،
الكوميديا، التشويق، وبالطبع فيلم السرقة
Heist.
أنواع يقفز الفيلم طوال الوقت بينها دون أن يفقد جاذبيته وقدرته
على الحفاظ الكامل على انتباه المشاهد، الفضيلة المفقودة في عدد لا
بأس به من أفلام المسابقة.
البطولة يلعبها النجم المكسيكي الأبرز جايل جارسيا بيرنال، بحضوره
المعهود وتأثره ربما بأبطال الموجة الفرنسية الجديدة، المغامرين
الذين يتخذون قرارات سريعة ويدخلون مغامرات بدافع التمرد، لا تكون
نهايتها في الأغلب سعيدة. يضاف لذلك في حالة "متحف" بعد آخر عن
قيمة التاريخ المكسيكي وعدم منحه ما يستحق من التقدير من المواطنين
المعاصرين.
في الفيلم إحكام إخراجي ممزوج بحس مغامرة، وأداء رجالي ملفت قد يضع
بيرنال ضمن المرشحين لجائزة التمثيل، لكنه في المقابل معرض لأن
يخرج خالي الوفاض إذا ما قررت لجنة التحكيم التعامل معه باعتباره
عملًا تجاري النزعة، وهو بالفعل يمتلك ما يمكن أن يدرجه تحت هذا
التصنيف الذي تراه بعض اللجان غير مناسب للتتويج.
التقييم: ***1/2 من خمس درجات
لا تلمسني
Touch Me Not (رومانيا)
على النقيض تمامًا من "متحف" يقف فيلم "لا تلمسني" للمخرجة
الرومانية أدينا بينتيلي في أبعد نقطة ممكنة عن السينما التجارية،
بشكله الذي يستحيل تصنيفه كعمل روائي أو تسجيلي، موضوعه المغامر عن
اكتشاف الحميمية وعلاقة الإنسان بجسده، والطريقة المدهشة التي قامت
المخرجة وممثلوها باستخدامها لتنفيذ الفيلم.
لا حدود هنا بين الممثل والشخصية التي يلعبها في الفيلم، ففي
الحالتين يتم اكتشاف الجسد أمام الكاميرا بجسارة وانفتاح، عبر ثلاث
شخصيات رئيسية: امرأة خمسينية تعجز عن الاستمتاع بالجنس، رجل فقد
شعر جسده بالكامل في سن الثالثة عشر، وقعيد يعاني من تشوه في جسده
لا يمنعه من ممارسة الجنس والاستمتاع به.
المخرجة حاضرة على الشاشة مع شخصياتها، الذين يحيط بهم بدورهم عدد
من الشخصيات الداعمة، ليكون الفيلم سلسلة مما يشبه جلسات العلاج،
الجماعي أو الفردي، مع انفتاح على تجريب العنف الجنسي والمرور أو
التحول، وغيرها من الصور التي تأتي هنا في صالح الفكرة العامة التي
تعمل عليها المخرجة ـ وهي فنانة فيديو أيضًا ـ منذ قرابة العشر
سنوات.
هذه الخلفية تظهر في توظيف شريط صوت خاص، يفاجئك طول الوقت
باستخدامات صناعية تعمل باستمرار على نفي الطبيعية التسجيلية
للعمل، بينما تقوم الصورة بإثباتها في الوقت نفسه، ليكون الناتج
عملًا مركبًا ومربكًا. فيلم من النوع الذي يجب أن تبحث عنه
المهرجانات وتدعمه، لأن مكانًا آخر لن يتحمس لعرضه، وجمهورًا آخر
قد لا يكون مؤهلًا لمشاهدته بارتياح.
وكعادة الأعمال الخاصة الفيلم صالح لأن تغرم به أو تكرهه تمامًا،
وسنعلم أي من الجانبين أخذته لجنة التحكيم عندما تعلن عن جوائزها.
التقييم: ***1/2 من خمس درجات
ماج
Mug (بولندا)
رؤية بالغة القسوة للواقع البولندي تقدمها المخرجة مالجوراتا
سوموفسكا ـ أحد وجوه برليناله المألوفة ـ في فيلمها الجديد "ماج"،
والتي قد تعني (تقطيب الوجه). عن شاب يعيش حياة عابثة في قرية
بولندية، يسمع موسيقى الميتال ولا يهتم كثيرًا بصورته أمام
الآخرين، وبعد ساعات من تقدمه للزواج من حبيبته، يتعرض لحادث ضخم
خلال عمله في مشروع إقامة أكبر تمثال للمسيح في العالم (مشروع
حقيقي نفذته بولندا قبل سنوات).
الحادث يجعل البطل أول من يتعرض لجراحة زراعة وجه في بولندا، لكن
العملية تحوله وحشًا مشوهًا أكثر من أن يصير شخصًا آخر. الكل ينفض
من حوله، أمه ترفض التصديق إنه ابنها بل وتطلب من الكنيسة إخراج
الروح الشريرة التي سكنته، حبيبته تتركه وتتهرب منه، باختصار يصير
الحدث نقطة تحوله إلى التعاسة الكاملة.
في أحد المستويات يمكن ربط الحكاية بتغيير "وجه" بولندا من
الشيوعية للرأسمالية، خاصة وأن المخرجة تبدأ فيلمها بمشهد هزلي
لقتال بالملابس الداخلية داخل أحد المتاجر الكبرى التي تقيم
أوكازيون ضخم بمناسبة الكريسماس بشرط دخول المحل بالملابس
الداخلية. لكن الأهم من فكرة الانتقال من وجه لآخر هو العنصرية
المتغلغلة في المجتمع حتى قبل الحادث.
سخرية مستمرة من كل ما هو مختلف، نكات عن المسلمين واليهود ومعاداة
لوجود الغجر في القرية، وكأن الحادث قد حوّل البطل واحدًا من
"الآخرين" محل العداء والسخرية، الآتية من أشخاص كل ما نراه يثبت
أنهم الأجدر بالسخرية من أي جماعة يعادونها.
هذه الأفكار لم تكن كافية ـ على جديتها ـ أن تنقذ الفيلم من فخ
الرتابة وافتقاده لعناصر الدهشة، برغم قصته المختلفة وبعض اللحظات
الطريفة خاصة كل ما يتعلق بالكنيسة (مصدر سخرية دائم في أفلام
المخرجة)، وطريقة التصوير الآتية مما يفترض أن يراه البطل بعد
إصابته بعمى جزئي جراء الحادث. كل هذه عناصر جيدة، لكنها لا سبب ما
لا تنتج في النهاية فيلمًا بالتميز المفترض وفق عناصره. فيلم جيد
لا أكثر.
التقييم: *** من خمس درجات
في الممرات
In The Aisles (ألمانيا)
موهبتان كبيرتان يجمعهما مخرج ناضج في آخر أفلام المسابقة وأحد
أكثرها تأثيرًا. "في الممرات" للألماني توماس شتوبر يجمع النجم
الشاب فرانز روجوفسكي (شاهدناه بأداء آخر رائع في المسابقة ضمن
فيلم "ترانزيت") أحد أهم الممثلين الواعدين في السينما الألمانية،
بالنجمة ساندرا هولر في أول تؤديه منذ بطولتها للفيلم فائق النجاح
"طوني إردمان".
حكاية حب تقع بين ممرات متجر ضخم في إحدي الضواحي الألماني، بين
شاب له ماضي إجرامي بسيط يريد تركه ليعيش حياة بسيطة، وامرأة
متزوجة من رجل لا تحبه. إلا أن قصة الحب ليست هي الموضوع الرئيسي،
ففي النهاية ما يقع فيها من أحداث لا يكفي لملء نصف زمن الفيلم،
لكن المخرج يحوّل المتجر وممراته إلى شخصية رئيسية في الفيلم،
تحتضن كل الشخصيات برتابة عملهم وأحلامهم المحدودة ولحظات الصداقة
والحميمية التي تنشأ بينهم بحكم البقاء معًا طيلة الوقت.
المخرج يبرع في استخدام سيمترية المتجر، الأرفف العالية الممتلئة
بالبضائع، وعربات رفع هذه البضائع وتفريغها. موتيفات بصرية يركز
عليها الفيلم في دقائقه الأولى مع موسيقى كلاسيكية مهيبة تذكرنا
فورًا بنقد السويدي روي أندرسون لمجتمعات الحداثة وخوائها من الروح.
إلا أن شتوبر لا يرى العالم بسوداوية أندرسون، بل يتصاعد تباعًا
شعورنا بأنه حتى لو كانت الحياة المعاصرة رتيبة باهتة تحاصر الروح،
إلا أن وجود البشر فيها، وتلاعبهم مع الواقع بالحلم والحب، كفيل
بأن يبقى العالم دافئًا رغم كل ما فيه. صحيح أن العجلة تسير دون
توقف، وأحيانًا بقسوة بالغة، لكن إيمان المخرج بقوة البشر البسطاء
تفوق هذه القسوة.
ورغم أن الفيلم يتجاوز الساعتين دون الكثير من الأحداث والتصعيدات
الدرامية، إلا إنك تجد نفسك مستعدًا لمتابعة المزيد من تفاصيل هذه
العلاقات التي تدور داخل ممرات متجر استهلاكي.
التقييم: ***1/2 من خمس درجات
الجزء الأول
الجزء الثاني |