نواصل ما بدأناه في الرسالة السابقة من التعرض
بالتحليل لكافة أفلام مسابقة مهرجان برلين السينمائي الثامن
والستين، وها هي ستة أفلام جديدة تم عرضها حتى لحظتنا من المسابقة
الدولية، ولا يتبقى سوى سبعة أفلام أخرى سنتناولها في رسالة تالية.
المُصلي
The Prayer (فرنسا)
كل ما يتعلق بالصنعة ناجح في فيلم المخرج سيدريك كاهن لكن هذا ليس
كل شيء. المخرج يروي حكاية درس تفاصيلها بعناية عن شاب مدمن
للمخدرات يلتحق بما يشبه معسكر للخدمة العامة يتبع الكنيسة
الكاثوليكية، يجتمع فيه شباب يحاولون التعافي من الإدمان فيقضون
وقتهم في العمل والصلاة، مع شرط ضروري: ألا يظل النزيل وحيدًا ولو
للحظات.
اختيار موقع ممتاز للتصوير، عناية فائقة بالتفاصيل البصرية
والسردية، وأداء قوي للممثل الشاب أنطوني باجو في دور توما الراغب
في التعافي والذي يثور على قواعد المعسكر قبل أن يبقيه الحب الذي
يكتشف من خلاله الرب حتى إنه يسعى في لحظة أن يصير كاهنًا. أداء من
الوارد أن تفاجئنا لجنة توم تيكوير بمنحه جائزة أحسن ممثل في ظل
عدم تميز أي دور رجالي بعد عرض ثلثي المسابقة.
في المقابل يفتقد "المُصلي" لما هو أهم من التفاصيل، للروح ونفاذ
البصيرة، وكلاهما لا يمكن اعتبارًا أمرًا شكليًا في فيلم يقوم على
مثلث الحب والإيمان والضعف البشري. حتى قرار توما بترك المعسكر ثم
تراجعه وعودته تبدو الأمور جيدة، لكن ما يلي ذلك يأخذ الفيلم في
مسار تعليمي يصل به في نهايته لاستنتاج أشبه بالأفلام الكنسية.
من حق صانع الأفلام بالطبع أن يؤمن بأي منظومة قناعات أو ديانات
ويعبر عنها، لكن الدراما التي تنتهي على ما يشبه النصيحة (الإيمان
بالرب والصداقة والبحث عن الحب تصنع المعجزات وتتغلب على الضعف
البشري)، هي بالقطع أقل درجة ـ أو أكثر ـ من دراما تطرح تساؤلات
وتترك كلًا منّا أمام نفسه.
التقييم: اثنان ونصف من خمس درجات
ابنتي
Daughter of Mine (إيطاليا)
رابط رئيسي يجمع فيلم المخرجة لاورا بيسبوري الجديد بعملها السابق
"عذراء القسم
Sworn Virgin"،
رابط يعتمد على فكرة الوعود التي يقطعها البشر وهم يؤمنون بقدرتهم
على تنفيذها مدى الحياة، قبل أن تتغير الظروف لتوضع البطلة في
مواجهة قرار كان من المفترض أن تكمل حياتها دون مراجعته.
بطلة فيلم بيسبوري الأول أقسمت على أن تعيش حياتها عذراءً ثم
تراجعت، تمامًا مثل أنجيليكا (ألبا رورواتشر بأداء ملفت يؤهلها
للمنافسة على جائزة التمثيل) التي تنازلت عن وليدتها لتربيها
صديقة، قبل أن تعود وتتراجع بعد سنوات. أنجليكا هي نفاية بيضاء
White Trash
بامتياز، امرأة بلا قيمة تقوم في الصباح بأعمال حقيرة وفي الليل
تعرض جسدها لأي رجل في حانة القرية مقابل كأس من الشراب.
باختصار، هي آخر امرأة في العالم تصلح للأمومة، وهي أول من يعلم
ذلك، لذا فقرار تنازلها عن طفلتها منطقي ومتماشي معها، كما أن
ضعفها ورغبتها في استعادة الطفلة تزامنًا مع اكتشاف الفتاة لأمها
الحقيقية وتعلقها بها هو أيضًا فعل منطقي. ربما في هذا القدر من
(المنطقية) تكمن مشكلة الفيلم؛ إنه متوقع تمامًا في انعطافاته
الدرامية، نتفهمها ونتفاعل معها لكن نعرفها ونرى نتائجها مبكرًا
جدًا، وكأنه فيلم جيد الصنع لكنه شوهد من قبل.
بخلاف أداء رورواتشر لشخصية الأم أنجيليكا يمتلك الفيلم تفصيلة
درامية ذكية هي كون الطفلة ذات العشر سنوات هي الأكثر نضجًا من
السيدتين البالغتين المتصارعتين عليها. خيار تأسيسي يغير قليلًا في
ديناميات العلاقات، لولاه لفقد الفيلم الكثير من تميزه، القليل
بطبيعته.
التقييم: ثلاثة من خمس درجات
العقارات
The Real State (السويد)
يتعمد فيلم المخرجان أكسيل بيترسين ومانس مانسون أن يكون مزعجًا.
هذا خيار واضح ومعلن من اللحظات الأولى للفيلم والتي تصل فيها
البطلة العجوز إلى السويد بعد سنوات قضتها في إسبانيا، لتدير بناية
سكنية ورثتها عن والدها الراحل، قبل أن تكتشف أن عمها وابنه السكير
أساءا إدارة المبنى الذي امتلأ بسكان غير شرعيين بما يجعله غير
مربح بل ومهدد بالضياع في حال تأسيس السكان رابطة.
جميع القرارات الإخراجية تسعى لإيصال شعور الإزعاج للمشاهد، أحداث
الفيلم بالكامل تقريبًا تدور في الليل داخل أماكن مغلقة، الإضاءة
الخافتة وطريقة التصوير بكاميرا محمولة مهتزة ترصد الوجوه من أكثر
الزوايا غرابة وتشويهًا، وشريط الصوت المزدحم بمؤثرات تساهم في
حالة عدم الراحة التي يصدرها الفيلم طوال الوقت.
هذه الاختيارات تمنح الفيلم طابعًا بصريًا مميزًا بالتأكيد، تجعله
فيلمًا له "ستايل" واضح، لكن الأهم دائمًا من الستايل هو ما يستند
إليه من أفكار أو ما يضيفه للحكاية وما تحمله من معان. هنا تكمن
نقطة ضعف الفيلم الرئيسية، إنه لا يذهب لمكان أكثر من بعض الأفكار
المشتتة عن أزمة العقارات في شمال أوروبا، وتفسيرات رمزية ممكنة
باعتبار هذه السيدة مناظرة لحكومات أوروبا التي تحاول تنظيم
"المبنى" الخاص بها والذي صار مليئًا بالسكان غير الشرعيين.
قد يكون هذا تأويل مفرط، وقد يكون المخرجان سعيا للغرابة من أجل
الغرابة لا أكثر، لكن يبقى الهدف من هذا العمل الغريب وغير المريح
بحاجة لمشاهدة إضافية، فقط لو احتمل أحد مشاهدته مرتين.
التقييم: اثنان ونصف من خمس درجات
يوتويا 22 يوليو
U – July 22 (النرويج)
يوم 22 يوليو 2011 وقع الحادث الأسوأ في تاريخ النرويج، عندما هاجم
شاب يميني متطرف معسكرًا صيفيًا للشباب في جزيرة يوتويا ليطلق
النار بعشوائية فيقتل 69 ضحية ويصيب 77 إصابات بالغة. الحادث هو
موضوع فيلم المخرج إريك بوب، واحد من أجود أفلام المسابقة وأكثرها
إثارة للمشاعر.
اختيار إخراجي كبير يتخذه بوب ببدء فيلمه بشكل طبيعي، ثم الانتقال
إلى لقطة واحدة مدتها 72 دقيقة كاملة، هي بالضبط طول الفترة التي
قضاها الإرهابي يطلق النار قبل أن يصل الأمن لينقذ ما تبقى من
الشباب. الفيلم يصور الأحداث في زمنها الفعلي لنتابع عملية الهرب
العشوائي، وحالة الرعب والتخبط في المعلومات والقرارات المسيطرة
بطبيعة الحال على مراهقين لم يكن أحدهم يتصور في أسوأ كوابيسه أن
يتعرض لخبرة كهذه.
طريقة التصوير تسمح بالحد الأقصى للتماهي مع الضحايا، يصبح المشاهد
مثلهم، مذعورًا لا يفهم ماذا يحدث ولا كيف يمكن أن ينتهي، يسمع صوت
النيران يأتي من كل مكان فلا يتخيل أن المصدر هو شخص واحد، ويتفهم
اختلاف شخصيات الشباب بين مغامر ومتحمل للمسؤولية وضعيف يكتفي
بالذعر ومحاولة الاختباء، فلا نملك إلا الإيمان بحق كل منهم في أن
يصاب بالذعر بطريقته، فعندما تكون حياة الفرد مهددة بهذه الصورة،
من المستحيل تقييم أو محاكمة من يختار النجاة بنفسه.
"يوتويا
22 يوليو" فيلم قوي في حكايته وقرارات مخرجه، وفي تنفيذه بإيقاع
ذكي مشدود أغلب الوقت، حتى عندما يتباطأ قليلًا قرب النهاية يكون
ذلك تمهيدًا نفسيًا ملائمًا لما سيأتي بعد. عمل مناسب لجائزة
الإخراج أو لجنة التحكيم.
التقييمة: ثلاثة ونصف من خمس درجات
3
أيام في كيبرون 3
Days in Quiberon (ألمانيا)
ثاني فيلم ألماني يُعرض من بين أربعة أفلام اختارها المهرجان
لتتنافس في المسابقة، في المرة الأولى لمشاركة هذا العدد الكبير.
وإذا كان فيلم كرستيان بيتزولد يحضر خطر النازية إلى الحاضر، فإن
فيلم المخرجة إيملي آتيف يغوص شكلًا ومضمونًا في الماضي، عبر إعادة
تخيل ثلاثة أيام قامت فيهم النجمة الألمانية الشهيرة رومي شنايدر
بعمل مقابلة صحفية مع جريدة شتيرن بعد انقطاع عن الصحافة الألمانية.
الحوار الذي يجريه صحفي متعطش للخروج من النجمة التي تعيش حالة عدم
اتزان باعترافات مثيرة، بحضور مصور فوتوغرافي يجمعه ماضٍ لم يكتمل
بشنايدر، وصديقة طفولتها التي أتت لها لتحميها مما قد يصدر عنها من
أقوال. لتتطور خلال الأيام الثلاثة علاقة الأشخاص الأربعة ببعضهم،
وتكشف شنايدر عن وجوه مختلفة لنجمة أوروبا الأولى.
المخرجة تصور فيلمها بالأسود/ أبيض، الاختيار المناسب الذي يمنح
الفيلم طابعًا نوستالجيًا ساهم في إيصال الحالة الشعورية لاسترجاع
الماضي، رغم أن الحوار الأصلي أُجري عام 1981 أي أن الألوان كانت
سائدة، لكنه خيار إخراجي بالأساس كان له مردود جيد.
كمعظم الأفلام التي يتعلق موضوعها بفن السينما ونجومها الحقيقيين
يمتلك "3 أيام في كيبرون" جاذبيته الخاصة لا سيما لمن يعرف روني
شنايدر، وإن كانت الدراما في الفيلم توظف أيضًا مجموعة من الصور
النمطية عن تعاسة النجم ومشاكل العلاقات الشخصية ومتابعة الصحافة
لها، بصورة تجعله عمومًا لا يأتي بالجديد، رغم التصوير الرقيق
والأداء الملفت لماري باومر في دور شنايدر، أداء يُضاف لبطلتي
"الوريثات" و"ابنتي" ضمن المرشحات لجائزة التمثيل.
فيلم جيد الصنع قديم المحتوى، ممتع في المشاهدة لكنه سريع التطاير
من الذاكرة.
التقييمة: ثلاثة من خمس درجات
موسم الشيطان
Season of the Devil (الفلبين)
للمخرج لاف دياز مدرسة سينمائية خاصة لها أتباعها المخلصين، ومن
بينهم إدارة مهرجان برلين التي تنتصر لأفلام دياز وتدرجها في
المسابقة رغم خصوصيتها وطولها المفرط، الذي وصل في حالة فيلمه
السابق لثماني ساعات كاملة كان على لجنة التحكيم مشاهدتها كاملة
لأداء عملها، ورأيي أن تجربة كهذه كانت أجدر بعرض خاص يحضره من
يشاء وليس بمسابقة هناك العديد ممن يضطرون لحضور أفلامها.
فيلم دياز الجديد "موسم الشيطان" زمنه أربع ساعات فقط، أي إنه فيلم
قصير بمعايير مخرجه، وإن كان بالتأكيد أطول أفلام مسابقة هذا
العام، وأثقل ما عُرض منها على القلب حتى الآن (أو يتنافس على لقب
الأثقل مع فيلم الويسترن الأمريكي المتواضع "دامسيل").
المخرج يعود لماضي الفلبين في نهاية السبعينيات، والتي شهدت تكوين
ميليشيات تهدف لمواجهة الشيوعيين وتعذيبهم وقتلهم. هذا هو الموضوع
العام الذي يقدمه دياز فيما يفترض أن يكون قالبًا غنائيًا، أو كما
أطلق عليه المخرج في كاتالوج المهرجان "أوبرا روك فلبينية".
لدياز الحق في وصف عمله كما يراه، لكن الحقيقة أن هذه ليست أوبرا،
وليست موسيقى روك، وليست موسيقى بالأساس، مجرد شعر ركيك (على الأقل
ترجمته للإنجليزية) كتبه دياز بنفسه ليقوم الممثلون بغنائه بلحن
واحد لا يكاد يتغير، وبتكرار نفس البيت مرات ومرات في لقطات بالغة
الطول، حتى إنني عندما غادرت القاعة بعد قرابة الساعتين والنصف، لم
يكن عدد لقطات الفيلم قد تجاوز الستين لقطة.
لا خجل في إعلان عدم استكمال الفيلم، فهو ما فعله أكثر من نصف
الصحفيين بالقاعة في وقت سابق لمغادرتي، بل وهو ما قاله دياز نفسه
قبل عامين عند عرض فيلمه ذي الثمان ساعات عندما قال أنه يسعد عندما
يغادر المشاهدون القاعة ويذهبون لتناول الطعام أو الحمام أو حتى
لممارسة الجنس، لأن السينما يجب أن تستمر!
بالطبع هذا مجرد تلاعب لفظي متذاكي، فالسينما يجب أن تستمر بالفعل
لكن كصناعة وفكرة وفلسفة، لكن وحدة الفيلم كعمل يجب مشاهدته كاملًا
أمر بديهي، والغياب الكامل للمتعة في فيلم دياز الجديد "موسم
الشيطان"، وإصرار برليناله على إدراجه في المسابقة هي صور لصناع
أفلام يتحولون موضات سينمائية بتجارب غريبة، ومرهقة، وخالية من
المتعة في حالتنا هذه.
التقييم: واحد ونصف من خمس درجات
####
برلين 68- فيلم "الجمعية".. بعد أن تغرب الشمس
أندرو محسن
"الجمعية"
الفيلم المصري الوحيد المشارك في قسم البانورما ثاني الأقسام أهمية
بعد القسم الرسمي في مهرجان برلين في دورته 68، وواحد من الأفلام
المصرية القليلة جدًا في المهرجان.
في الحقيقة يجب توضيح كلمة ”مصري“ هنا قبل التطرق إلى الفيلم،
فمخرجة الفيلم ريم صالح تحمل الجنسية اللبنانية ولكنها لأم مصرية،
وإنتاج الفيلم تشترك فيه عدة دول منها لبنان ومصر، وكما جرت العادة
فإن الأفلام تُنسب إلى جهة إنتاجها.
لكن كل هذا لا يمنع أن يكون موضوع الفيلم التسجيلي مصريًا 100%، إذ
تدور أحداثه في مصر، وتحديدًا في قلب منطقة روض الفرج الشعبية.
أول ما يتبادر إلى الأذهان أثناء مشاهدة الفيلم هو التهمة الجاهزة
والسهلة ”تشويه سمعة مصر في الخارج“، وهي التهمة التي تُطلق على أي
فيلم يعرض أحد الوجوه القبيحة للحياة في مصر، حتى وإن كان هذا
الوجه موجودًا بالفعل، لكن ما الذي يربط هذه التهمة بالفيلم؟
سنوات في روض الفرجتدور أحداث الفيلم كما ذكرنا في منطقة روض الفرج
بالقاهرة، يبدأ الفيلم من خلال التعرف على مجموعة من الجيران الذين
يشتركون معًا في تشكيل جمعية يحصل عليها المحتاج إليها أولًا،
والجمعية لمن لا يعرف هي مشاركة عدد من الأشخاص بمبلغ ثابت لمدة
محددة على أن يحصل شخص واحد على مجموع هذه النقود في موعد ما، هكذا
تُشكل الشخصيات التي شاهدناها جمعية يدفعون فيها 10 جنيهات يوميًا
ليحصل شخص ما على 3 آلاف جنيهًا مصريًا في نهاية الشهر.
من خلال هذه الجمعية تمر المخرجة على الشخصيات المختلفة المشاركة
في الجمعية لتقدم لنا ملامح من حياتهم وأزماتهم، ثم كيفية إنفاقهم
للنقود التي يحصلون عليها من الجمعية، يحدث هذا خلال عدة سنوات
متتالية.
تدخل مخرجة الفيلم إلى عمق الشخصيات التي تقدمها وتأخذ من الجمعية
مدخلًا لهذا، هكذا يمكن أن نقسم الفيلم إلى ثلاثة أقسام رئيسية،
الأول هو التعريف بهذه الشخصيات والثاني هو عرض تأثير الجمعية
عليها، وأخيرًا المصير الذي انتهت إليه هذه الشخصيات بعد عدة سنوات.
ربما شاهدنا بعض هذه الشخصيات في الواقع من قبل وربما لا نتخيل
مجرد وجود بعضها الآخر لكن الفيلم يقول لنا إنها هنا وتحيا وهذا هو
شكل حياتها، يتعرض الفيلم إلى حياة كل هذ الشخصيات التي تحيا على
الكفاف ولديها مشكلات يومية قد تبدو بسيطة لكنها تتغلب عليها، سواء
بالاستناد على بقية الشخصيات الأخرى في المنطقة كما نشاهد في
الفيلم، أو من خلال الجمعية.
على الرغم من غنى الفيلم بتفاصيل حياة أبطاله لكنه استغرق في عرض
هذه التفاصيل أكثر من اللازم حتى إننا نذهب إلى تأثير الجمعية في
وقت متأخر من الفيلم، ومن المفترض أنها المحور الذي تجتمع حوله
الشخصيات فتكتفي المخرجة بمشاهد متفرقة للأهالي وهم يجتمعون للتحدث
عن الجمعية، أو لـ“أم غريب“ وهي تجمع الجمعية، لكن تأثيرها الحقيقي
لا نراه إلا لاحقًا.
ربما كان السبب وراء هذا التأخير هو ثراء الشخصيات بالتفاصيل، مثل
”الشيخ عادل“ الذي لا يتكلم سوى بإلقاء الحِكم، ويتعامل مع أشياء
غريبة بأريحية تامة.
لعنة الجمعية
ينتقل الفيلم في نصف الثاني للحديث عن تأثير الجمعية على أبطاله،
وكان هذا الفصل الأكثر قسوة في الفيلم.بعكس النصف الأول الذي يتعرض
لجانب إنساني يسهل التعاطف خلاله مع الشخصيات، خاصة ونحن نعلم أن
تلك الشخصيات حقيقية وليست مُتخيلة، لكن النصف الثاني يتعرض لعدة
ملامح صادمة، إذ تتجلى استخدامات نقود الجمعية، أو الجمعية
الموازية التي يشارك بها أطفال المنطقة، في الطفلة دنيا التي
تستخدم هذه النقود لإجراء عملية الختان، القسوة ليست في فكرة
الختان نفسها بل في الاستماع إلى حديث الطفلة عن العملية إذ
نشاهدها تتحدث عن الأمر بكل فخر وأنها هي من سعت إليه، هذه الطفلة
التي تتكلم على طريقة الكبار بشكل مثير للدهشة وأحيانًا للصدمة،
وهنا إحدى ثغرات الفيلم التي سنتطرق إليها لاحقًا.
نشاهد أيضًا أحد شباب المنطقة تساعده الجمعية على إقامة حفل زفافه،
ونشاهد تفاصيل هذا الزفاف الشعبي بكل حذافيره على الشاشة، الزفاف
الذي ينتهي بشجار بين العريس والعروس وكأن الجمعية تحولت إلى لعنة،
وهو ما سيتمد إلى عدة شخصيات أخرى لاحقًا.
يعرفنا هذا الفصل من الفيلم إلى وجوه ربما نحاول عدم التعامل معها
على أنها تعيش معنا، وجه آخر من مصر ربما اعتدنا مشاهدته بشكل
مغالى فيه، بأفلام المخرج خالد يوسف ولم نتعرف إلى أبعاده الحقيقية
التي يقدمها لنا فيلم ”الجمعية“.
هذا الفصل من الفيلم أجمل ما فيه كان صوت سيد مكاوي وهو يُنشد
”رمضان كريم“ الصوت القوي والغنوة الجميلة لا تتماشى مع ما يحدث في
الواقع القاسي.
ريم صالح
تتعامل مخرجة الفيلم ريم صالح مع أبطالها بطريقة التوجيه وكأنها
تصور فيلمًا روائيًا، هي تعيد تسجيل الوقائع التي حدثت بالفعل ولم
تعاصرها كاميرتها فتطلب من الشخصيات إعادة تقديم هذه المشاهد، ولا
تداري هذا إذ نستمع إلى صوتها واضحًا في عدد من المشاهد وهي توجه
الشخصيات، ربما يتعارض هذا مع البناء المعروف للفيلم التسجيلي الذي
نعرف أنه يسجل الواقع كما هو، ولكن عدم مداراة المخرجة للتمثيل في
هذه المشاهد يجعلها لا زالت تندرج تحت بند التسجيل.
لكن إحدى المآخذ على الفيلم كانت في التأثر الواضح بالشخصيات على
حساب الموضوع أحيانًا، ففي الكثير من المشاهد، خاصة في النصف الأول
كما ذكرنا، ننسى أن الفيلم عن الجمعية، ويبدو لنا أن المخرجة تخشى
من حذف الكثير من المشاهد الخاصة بأبطالها، بينما في النصف الثاني
أفسحت مساحة لمشاهد لم تُضف جديد إلى الأحداث مثل مشهد طويل للطفلة
دنيا وهي تتحدث عن تفاصيل عملية الختان، وكانت قد تعرضت للعملية
بالفعل في مشهد سابق.
قدم الفيلم رؤية جيدة لفكرة سكون الزمن لدى أبطاله، إذ نرى مرور
السنوات عليهم، وليس باستخدام الكتابة على الشاشة كما هو معتاد، بل
من خلال لافتات مختلفة تعرفنا بمرور السنوات، مثل لافتة لانتخابات
2012 وأخرى تحمل صورة الرئيس السيسي لنعرف أن الزمن قد مر لكن على
أرض الواقع لا توجد آثار حقيقية للزمن على الشخصيات، هم يتعايشون
ويمرون بأزمات جديدة ويتجاوزونها وهكذا. بقدر ما ساهم هذا في وصول
أحد الجوانب المهمة، لكنه أيضًا كان عقبة في اتجاه تصاعد بناء
الفيلم للوصول إلى نقطة نهاية جيدة، وهو ما جعل آخر الفصول أضعفها،
فالفيلم يمكن استكماله بأحداث أخرى في سنوات قادمة، أو حتى إنهائه
في سنة سابقة على سنة انتهاؤه، وربما كان يمكن معالجة هذا بالتركيز
بشكل أكبر على خط الجمعية وليس على الشخصيات نفسها، فالشخصيات
الحقيقية لديها دائمًا المزيد من الأحداث التي يمكن أن تملأ عدة
أفلام.
في مهرجان مثل برلين تُعرض فيه مئات الأفلام من عشرات الدول، يتفنن
المخرجون في طرح الموضوعات المختلفة طبقًا لرؤيتهم، وكانت هذه رؤية
ريم صالح لفئة من الفئات التي تحيا داخل مصر، قد يرى البعض أنها
بالغت في سوداوية الطرح وقد يرى البعض الآخر أنها كانت منصفة في
عرض ملامح هذه الشخصيات، وسواء كنا نتبنى هذا الرأي أو ذاك، فإن
الأفضل هو صناعة المزيد من الأفلام التي تتعرض لملامح الحياة في
مصر، وخاصة الطبقات التي لا تصل إليها الشمس، وهو ما كان واضحًا في
الحرص على اختيار المشاهد الداخلية أو المظلمة في الكثير من
الأحيان، لنرى مصر بعد غروب الشمس. |