هوليوود تعود إلى عصرها الذهبي في افتتاح مهرجان فينيسيا
العرب/ أمير
العمري
نجح مدير مهرجان فينيسيا السينمائي ألبرتو باربيرا، في اختيار فيلم
“لا لا لاند” (الذي يمكن ترجمته إلى “أرض الأنغام”) لكي يفتتح به
الدورة الثالثة والسبعين من المهرجان مساء الأربعاء، فهو فيلم ممتع
على السواء لعشاق سينما القصص العاطفية البسيطة، أو عشاق سينما
الفن الرفيع، بما يحتويه من ابتكارات مدهشة في الحركة والتصميم
والأداء التمثيلي أيضا.
فينيسيا - “لا لا لاند” الذي افتتح به مهرجان فينيسيا الـ73، هو
الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج الأميركي الشاب دميان شازيل
(31 سنة) الذي أتحفنا قبل عامين بفيلمه المتميز “ويبلاش” (الذي
يلعب بطله الممثل ج ك سيمونو هنا دورا صغيرا لا يليق به، وهو الذي
حاز جائزة أوسكار أحسن ممثل مساعد عن “ويبلاش”).
كان “ويبلاش” على نحو ما فيلما أساسه الموسيقى والولع بالموسيقى،
لكن “لا لا لاند” ينتمي أكثر إلى الفيلم الأول لشازيل “غاي ومادلين
على مقعد خشبي في حديقة”، فأساس الفيلم الجديد هو موسيقى الجاز.
إنه بمثابة إعادة اعتبار إلى هذا الفن الموسيقي الذي يتردد في
الفيلم أكثر من مرة، أن غالبية الناس يعتبرونه من الماضي، أو أنه
في طريقه إلى الموت إن لم يكن قد قضى نحبه بالفعل، وأن الجمهور،
خاصة جمهور الشباب، أصبح يبحث الآن عن نوع آخر من الموسيقى، ويجد
نفسه متماثلا أكثر من موسيقى الروك العنيفة السريعة الإيقاع.
هنا يتوقف الفيلم أمام فكرة: هل يتعين على الفنان مسايرة ما هو
سائد في الفن، بدعوى أن هذا هو التقدم الطبيعي، ولكي يكسب الجمهور،
أم يجب أن يتمسك بالفن الذي يشعر به، ويؤمن بقيمته، بل ويحقق ذاته
من خلاله، وهي المحنة التي يواجهها بطله “سباستيان” (ريان كوسلنغ)،
محنة الاختيار، اختيار النجاح بمفهوم الصعود التجاري، أم الإخلاص
لموسيقى الجاز التي يحبها ويجدها وسيلة للتعبير والتواصل بين
البشر، لا مجرد وسيلة للمتعة.
مشهد مميز
تدور أحداث الفيلم في 1998، ويصلح المشهد الأول من الفيلم بمفرده
فيلما قصيرا قائما بذاته، لكنه يظل من أجمل مشاهد البدايات أو
المداخل إلى أيّ فيلم سينمائي.
على طريق مزدحم بالمئات من السيارات، تتوقف الحركة تماما أعلى جسر
من تلك الجسور المعلقة خارج مدينة لوس أنجلس، بطلتنا “ميا” (إيما
ستون) تتوقف بسيارتها، تنشغل في مكالمة هاتفية، تتوقف خلفها سيارة
بطل الفيلم “سباستيان”.
الحرارة والزحام الخانق، يدفعان جميع راكبي السيارات إلى الخروج من
سياراتهم لا على طريقة الهروب إلى الخيال كما يفعل بطل فيلليني في
“8 ونصف”، ولكن ليبدأ الجميع في الرقص والغناء، منهم من يقفز فوق
السيارات، أو يفتح أبواب السيارات في حركة منسقة موحدة، ولكنهم
جميعا يلتزمون بالتصميم الفني الذي يصل إلى قمته، على نغمات أغنية
سريعة الإيقاع، تعبر عن التفاؤل والمرح، رغم مصاعب الطريق وتوقف
الحركة.
الفيلم يتوقف أمام فكرة: هل يتعين على الفنان مسايرة ما هو سائد في
الفن، أم يجب أن يتمسك بالفن الذي يؤمن بقيمته
إن حركة الراقصين تهزم توقف حركة السيارات، وتتغلب على قيود
المكان، وحدود مركبات الصلب، ويستمر هذا المشهد الذي يشارك فيه
العشرات من الراقصين والراقصات، لعدة دقائق قبل أن تعود الحركة
مجددا إلى الطريق، هنا نرى أن ميا مازالت مشغولة، بينما يرغب
سباستيان في العبور فيضغط بقوة على بوق السيارة بطريقة مزعجة تصيب
الفتاة بالذعر، ثم يمر بجوارها بسرعة وهو نافد الصبر، بينما تلوّح
له هي بيدها علامة على الاستنكار.
سيلتقي الاثنان مرة أخرى داخل الملهى الذي يعمل فيه سباستيان عازفا
للبيانو، حيث يعزف موسيقى رومانسية تنتمي إلى زمن آخر، لكنها تثير
اهتمام ميا التي سنعرف أنها تريد أن تصبح ممثلة، لكنها تعمل حاليا
ساقية في مقهى.
وسرعان ما يفقد سباستيان عمله بعد أن يطرده مدير الملهى احتجاجا
على موسيقاه التي لا يجدها جاذبة للزبائن، وعندما يلتقي الاثنان
مجددا تصبح لغة الرقص الاستعراضي أفضل ما يعبر عن مشاعرهما
العاطفية في فضاء مفتوح على قمة تشرف على مدينة لوس أنجلس قبل
الغروب.
تحلم ميا بإثبات موهبتها في عالم التمثيل، لكن المسرحية التي
تقدمها بعنوان “إلى اللقاء” لا تجذب جمهورا، ويحلم سباستيان بأن
يتحرر من العزف لدى الآخرين وافتتاح ملهى خاص يقدم فيه موسيقى
الجاز التي يحبها.
يرتبط الاثنان بعلاقة حب، يفكران معا، تبدو ميا راغبة في دفع
سباستيان إلى العثور على عمل مناسب لكي يتدبر أمور الحياة، بينما
تفشل هي في اختبار للتمثيل وتشعر بإحباط شديد.
تسير الأمور صعودا وهبوطا مع تعاقب فصول السنة التي تظهر أسماؤها
مكتوبة على الشاشة، مع تنوع الضوء وتغير الألوان، لكن مع الاحتفاظ
طيلة الوقت بأسلوب الإضاءة الذي كان يميز أفلام هوليوود الكلاسيكية
في عصرها الذهبي، أفلام هوليوود الموسيقية الاستعراضية التي يوجه
الفيلم لها التحية ويعيدها إلى الحياة، مع إشارات كثيرة إلى عمل
المبدعين في الأفلام القديمة الشهيرة.
تنجح ميا أخيرا في العثور على دور رئيسي في فيلم سيجري تصويره في
باريس، ويرتبط سباستيان بالعمل في فرقة تقدم لونا مختلفا من موسيقى
الروك، وعندما تواجهه ميا بأنه يجب أن يقدم ما يرضيه وما يشعر به
من موسيقى، يبدو أنه قرر أولا أن ينجح في إثبات نفسه قبل أن يتمكن
من افتتاح المكان الخاص به ليتحرر من عبودية الفن الاستهلاكي،
بينما تقرر ميا الذهاب إلى باريس، حيث سيستغرق الاستعداد لعمل
الفيلم ثم التصوير سبعة أشهر، وتنقطع العلاقة بينهما وتمر خمس
سنوات.
يرتد الفيلم الذي يدور في منطقة أقرب إلى تلك الواقعة بين الخيال
والواقع، إلى الواقع قبل نهايته، بعد مرور السنين، لكي نرى أن
الواقع أقوى من الخيال، لكن الإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن حلمه
القديم، مهما كانت قسوة الواقع، فها هي ميا قد تزوجت من صديقها
القديم الذي كانت تعرفه قبل لقائها بسباستيان، وأنجبت منه طفلة، بل
وأصبحت أيضا نجمة سينمائية من نجوم هوليوود.
على العكس من معظم أفلام هوليوود الرومانسية الموسيقية لا ينتهي
الفيلم نهاية سعيدة، بل يتوقف عند لحظة الفراق
أما سباستيان فقد نجح في تحقيق حلمه الشخصي وأصبح يمتلك مكانا خاصا
لعزف موسيقاه مع فرقته الخاصة، لكن على المستوى الشخصي سقط الحلم
الرومانسي الجميل، وفشل في التحقق.
في أحد أفضل مشاهد الفيلم عندما تجد ميا نفسها (مع زوجها) أمام
سباستيان مباشرة داخل المكان الذي يقدم فيه معزوفاته على المسرح
ويراها هو من مكانه، يتوقف عن عزف الجاز ويرتد ليعزف المقطوعة
الرومانسية الأولى التي كانت مدخلا إلى العلاقة بينهما، ثم يرتد
ليتخيل أن علاقته بميا قد استمرت، وأنه ذهب معها إلى باريس ثم
تزوجا وأصبحت هي حاملا منه، ثم أنجبت طفلة (هي نفس طفلتها حاليا)،
ثم حقق الاثنان أحلامهما معا، وأصبحا يعيشان حياة سعيدة، وأنه هو
الذي يجلس معها الآن (في مكان زوجها الحالي) داخل الملهى الليلي،
حيث يشاهد كلاهما فيلما يعرض على شاشة صغيرة يلخص مراحل حياتهما
المشتركة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهي الحياة التي لم تكن،
والأحداث التي لم تقع، قبل أن يستفيق إلى الحقيقة، ويعود إلى
الواقع، فالمرء يمكن أن يحقق أحلامه عن طريق الفن، لكنه يدفع أيضا
ثمنا غاليا عندما يفقد حبه ورفيقه الروحي.
نهاية حزينة
على العكس من معظم أفلام هوليوود الرومانسية الموسيقية القديمة لا
ينتهي الفيلم النهاية السعيدة المعتادة، بل يتوقف عند لحظة الفراق،
فميا تتطلع إلى سباستيان والدموع في عينيها قبل أن تغادر لتلحق
بزوجها، بينما يستأنف سباستيان مع فرقته موسيقاه التي أصبحت عزاءه
الوحيد.
ينجح المخرج شازيل بالتعاون مع مدير التصوير لويس سندغرين، في خلق
صورة معبرة، تتميز بالرقة والنعومة والجاذبية، وبالإضاءة
الرومانسية الموزعة جيدا، حيث تضفي أجواء الاشتباك بين الحلم
والواقع، ويختار مصمم الملابس لبطلة الفيلم ملابس صريحة مباشرة
ساخنة مثل الأصفر والأحمر، وملابس كلاسيكية (دائما سترة وربطة عنق)
لبطل الفيلم مع حذاء باللونين الأبيض والبني، أو الأبيض والأسود،
على غرار ما كان يرتديه أبطال أفلام الخمسينات الموسيقية.
وينجح شازيل مع مصممة الرقصات ماندي مور، في خلق إيقاع سينمائي
متدفق مليء بالحيوية والحركة، مستغلا أماكن التصوير وتكنولوجيا
الكومبيوتر بطريقة جيدة، مع الاستفادة من براعة الممثلين الرئيسيين
في الرقص والحركة، بل والبراعة الخاصة أيضا لدى ريان كوسلنغ في
العزف على البيانو دون الاستعانة ببديل.
قد لا يكون الفيلم “تحفة” سينمائية، لكنه يظل عملا جيدا جدا جديرا
بالمشاهدة والاستمتاع وأفضل تحية تخرج من هوليوود خلال السنوات
الأخيرة لهذا النوع السينمائي. |