تظاهرة ثقافية أم حملة ترويجية أم ساحة حرب
أيديولوجية؟
حسابات «كان».. اللاسينمائية
سمر حمود الشيشكلي
اختتم مهرجان كان السينمائي في نسخته السابعة والستين فعالياته
بإعلانه نتائج الفوز التي كانت مثيرة للدهشة هذا العام، وقد لا
تكون الدهشة متعلقة فقط بالجائزة الأساسية التي فاز بها الفيلم
«سبات شتوي» للتركي نوري بلجي جيلان بالسعفة الذهبية.
من المفترض أن المهرجانات السينمائية تظاهرة ثقافية جادة، ترصد
جديد الفن السابع وتحتفي به، بإعطائها الجوائز المتنوعة، للفيلم،
للممثل، للمخرج، للتصوير، للموسيقى. فالمهرجان في أساسه هو منبر
سينما المخرجين العالميين، وهو شاهد فني على حال العالم وتعثره.
ومهرجان كان السينمائي هو أحد أهم مهرجانات السينما العالمية، فهو
يتميز بالحضور السينمائي الكبير والمتنوع الذي يرافقه، مقارنة
بالمهرجانات السينمائية الأخرى التي تقام حول العالم. وتقول
الصحافة العالمية عنه إنه يتميز بالتجديد وبالقدرة على مواكبة
الموجات الفنية الجديدة، بل ودعمها، وربما خلقها في رحم المهرجان
وأروقة الدورات المقامة.
ويوزع المهرجان عدة جوائز، تتنوع من عام لآخر مع استقرار الجوائز
الأصلية له، أهمها جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم. وتتبع الجائزة
رزمة جوائز أخرى، منها: جائزة لجنة التحكيم، جائزة أفضل إخراج،
أفضل سيناريو، أفضل ممثل، أفضل ممثلة، أفضل فيلم قصير... وقد
تتجاوز الجوائز العشرين جائزة أحياناً، تتبع لجاناً وجمعيات
سينمائية مختصة، تغتنم المهرجان لتمنح جائزتها.
وتمر عملية فرز الأفلام المرشحة لهذه الجوائز عبر مرشحات فنية
دقيقة، حيث يزيد عدد الأفلام المقدمة للمهرجان سنويا على ألفي فيلم
بقليل. وتقوم لجان مشاهدة متخصصة بفرزها والوصول بها إلى اثنين
وعشرين فيلماً متنافساً فقط، يشترط فيها أن تعرض في المهرجان عرضاً
عالميا أول. وفي دورة العام الحالي 2014 وصل عدد الأفلام المتنافسة
إلى 18 فيلماً. إذاً فهو فعلاً تظاهرة ثقافية منتجة ومحفزة.
صفقات
على الرغم من كل ما سبق، فإن كثيرا من الناس يسيئون فهم هذا الحدث
وينظرون باهتمام أكبر إلى الدور الذي يلعبه في المدينة واقتصادها،
بل واقتصاد الكثير من الشركات العالمية. فمع أن المهرجان الذي
يستمر لمدة أسبوعين هو عبارة عن تصنيع للمنتج، وليس لبيعه. فالناس
هناك، ليس لكسب المال بل للترويج لعلاماتهم التجارية، وللتسويق
لأنفسهم بشكل أو بآخر.
صحيح أن مهمة المهرجان الأساسية هي عرض الأفلام خلال فترة الأيام
الخمسة عشر، ولكن الأهم من هذا بالنسبة للكثيرين، هو الصفقات التي
تعقد في كنفه، وأيام المهرجان ليست هي التوقيت الذهبي لمشاهدة
الأفلام. بل وقت عقد صفقات التوزيع وغيرها. والجوائز التي تحصد
تزيد في رصيد شباك التذاكر لهذا الفيلم أو ذاك، كما تزيد من سعر
هذا الفنان أو تلك الفنانة.
إنها تجارة. إنهم الباعة، الذين يعرضون كل أنواع البضائع التي تخطر
على بالك والتي لا تخطر، من الساعات، إلى الإكسسوارات، مروراً
بعيادات التجميل، ووصولاً إلى العقارات، وكلاء السفر، مديري
الأعمال. صناعات واقتصاد، قد يكون بريقهم أقل لمعاناً من نجوم
السجادة الحمراء، لكنهم يندفعون للحضور والاطلاع على ما عند بعضهم
البعض. بينما وفي نفس المدينة، يتلقى نجوم هوليوود الجوائز،
ويتلقون ويستمتعون ويتغذون على قوة التصفيق المحموم.
حتى إن جانباً كبيراً من الصحافة العالمية يعلن أن أخبار الفوز لا
تهم أثناء أيام المهرجان بقدر ما يهم اكتشاف مكان وجود نجمة أو نجم
سينمائي كبير، لملاحقته والفوز بسبق صحفي بصورة أو بتصريح منه!!
كما أن كل ممثل في العالم تقريباً يحلم بأن يظهر مختالاً على
السجادة الحمراء لمهرجان كان، وأن يتم تعليمه، أو تعليمها كيفية
الوقوف، وكيفية الابتسام للمصورين، لأخذ أفضل اللقطات.
ولا يمكن رؤية النجوم وسط الناس، وفي النهار طبعاً، ولكن الكثير من
الصحفيين يذرعون المكان جيئة وذهاباً، من أجل تبادل أحاديث النميمة
التي ستثري إصدارات صحفهم بالتفاهات، من أخبار النجوم، ومن القيل
والقال، مثل: «ماذا حدث لوجه نيكول كيدمان (46 عاما)؟، محياها
منتفخ بشكل غريب (مع أنها رائعة الجمال، كانت وما زالت)، في العام
الماضي أعلنت أنها لن تستسلم لأي إجراء تجميلي، وها هي اليوم لا
تستطيع إخفاء عمليات الحقن في وجهها!...
ويتم تسليط الضوء على: ماذا ارتدت؟ وماذا ترتدي كل نجمة؟ من صمم
الفساتين؟ الساعات؟ المجوهرات؟ الأحذية؟ على الأخبار الشخصية التي
يجب ألا تعني أحداً سوى صاحبها، ولكنها بفضل الصحافة الهابطة يصبح
العالم كله معنياً بها!
ينهمك الإعلام العالمي عموماً بملاحقة كل هذا، أهو صناعة واقتصاد؟
على الأغلب هو كذلك، لكنه في الواقع يلعب دوراً فاسداً في تشكيل
ثقافة عالمية عملية، تكرس رؤية سطحية استهلاكية للوجود الإنساني،
ولإرثه الثقافي. لابد في النهاية أن يفوز الكل، وأن يربح كل على
طريقته، حتى وكلاء العقارات.
طغيان هوليوودي
هل كان هذا المهرجان بالفعل منبراً حراً للمبدعين السينمائيين أم
أن هناك أجندات تحكمه؟ البعض قال إنه مقارنة مع مهرجان برلين، فإن
الحضور الطاغي هو للسينما الهوليوودية. ومن هنا يستدل على وجود
أجندات وتدخلات وضغوط تمارس حتى في مجال الثقافة والفن. وكان أحد
الأدلة على هذا، أن أفلحت جهة ما بمنع عرض فيلم «مرحبا في نيويورك»
في المسابقة الرسمية، عن فضيحة المدير السابق لصندوق النقد الدولي
«دومنيك ستراوس» الذي يلعب دور البطولة فيه أسطورة عالم السينما
النجم الفرنسي «جيرارد ديبارديو».
لكن الأمر الأول المثير للتفاؤل هو أن هيمنة العمالقة على
المنافسة، على الجائزة الرئيسة في المهرجان، لم تقلل هذا العام من
فرص وقوع مفاجآت، وفوز أحد المخرجين الناشئين مثلاً، أو فوز مخرج
من الشرق الأوسط بفيلم من بيئته بامتياز. إن فوز فيلم جيلان «سبات
الشتاء» الذي صور في منطقة الأناضول وجعله اليوم من أكبر صناع الفن
السابع، وتعليقات الصحافة العالمية عليه، أنه استطاع بقوة العنف
الناعم الذي امتهنه جيلان في أفلامه السابقة «أوزاك» و«مناخات» أن
يوسع حلقة الذاتي ليطال الجماعي. وقولها إنه رغم طول مدة الفيلم
نسبياً، 3 ساعات و20 دقيقة، إلا أن المشاهدين والنقاد لم يشعروا
بالسأم من متابعته، لإتقان جيلان تصوير المشاهد الثلجية بشكل عجيب،
بصمتها وصخبها ومجازيتها في ترجمة تقلبات الشخصيات، وفي تجاوز
الأطر والرؤى السينمائية المعتادة.
وكانت الصحافة العالمية تنحو منحى الحياد الموضوعي الديموقراطي،
حين تعلق على الفيلم الشرق أوسطي، وتقول إنه من دون حروب ولا
صراعات، عدا التوترات الصغيرة التي تواجهنا يوميا. يثير الفيلم
التركي مسائل حول الروحانيات في احتكاكها بالدين، والمال في
اقتحامه طموحات البشر. وأمام كل الوحل الذي يغرق فيه عالمنا، جاءت
شخصية طفل صغير يحمل كل الحقد الناشئ ضد الظلم ويحمل كرامة
البسطاء، فكانت صورة سالبة لضمير البطل المثقف «إيدن» المعذب،
ولسهو الناس عن النداء الصاخب - الصامت للحق في الحياة والكرامة.
والأمر الآخر الذي يبهج في دورة 67 من مهرجان كان، هو موضوعية
القرارات الأخرى للجنة التحكيم، الذي كان اختيار أعضائها هذا العام
أمراً لافتاً بحد ذاته. فقد كانت مفاجأتها أن منحت جائزة اللجنة
بالتساوي، للكندي الشاب كزافييه دولان عن فيلمه «أمي» بحيويته
وقوته، وللفرنسي السويسري جان لوك غودار المتقدم في السن، عن فيلمه
«وداعاً للغة»، وهو الذي يعتبر أحد عمالقة السينما. فكان إهداء
جائزة لجنة التحكيم لكليهما رمزا قوياً، ينشئ جسراً بين أصغر
المخرجين وعميدهم، فيبرهن على حداثة الاختيار.
ما بعد الصخب
عبّر المنظمون، كثيراً، في تصريحاتهم، عن رغبة حقيقية في إظهار
السينما كساحة للتبادل الثقافي السلمي بين شعوب العالم. والوقوف في
وجه الظلم، وقمع الحريات بكل أشكاله. فكان الاحتفاء بأفلام قد
تتعارض وسياسة حكوماتها، لكنها تعبّر عن وجع ومعاناة إنسانية
حقيقية. لكن السؤال الملح: ماذا لو كان هناك فيلم يفضح الممارسات
العنصرية لإسرائيل؟ أو خطط ما وراء الكواليس لزعماء البنك الدولي؟
أو للشركات العالمية التي تحكم اقتصاد العالم؟ أو سياسة إحدى
حكومات العالم القوي، مثل روسيا مثلا؟ لقد رأينا عرض العديد منها
في العالم، ولكن هل يصل إلى شرف نيل السعفة الذهبية في مهرجان كان؟
وإن كان برأي النقاد من أفضل الأفلام فنياً؟!
لا يخفى على أحد اليوم أن السينما هي منبر ثقافي بامتياز، ودورها
خطير في تكريس صور أنماط ذهنية تشكل خلفية فكرية لكثير من الأمم.
وينجح الكثير من المبدعين السينمائيين في أن يقدموا للعالم رؤية
فنية لأفكارهم ورؤاهم عن هذا العالم. على الرغم من كل المخاطر
المحيطة بعملية تسليع الفن والإنسان عبر مظاهر احتفائية سلبية
للصحافة والإعلام العالمي. ويرى الكثير من المتابعين أن مهرجانات
السينما العالمية، وبالتحديد مهرجان كان، هي عوالم سحر وفتنة
وترويج سلعي، وهي في الواقع لا تخدم التنمية الحقيقية في أي جزء من
العالم.
ولكن حتى لو كان لا دور كبيراً للنقاد الجادين في أيام المهرجانات،
يعادل دور الصحفيين الراكضين وراء كل ما يبرق ويلمع، أو ربما كانت
الضجة الإعلامية البراقة التي تصاحب ظهور كوكبة النجوم في أيام
المهرجان تغطي على آراء النقاد، إلا أنه ما أن ينفض الصخب حتى تبدأ
الصحافة الحقيقية بمتابعة الكتابة عن الأفلام بهدوء!
سياسة وأيديولوجيا
من جهة أخرى، لم ينج المهرجان هذا العام أيضاً من سيطرة
الأيديولوجيات والدعاية السياسية ضيقة الأفق، فلم تعد السجادة
الحمراء المكان المثالي لاستعراض النجوم إطلالاتهم الجديدة فحسب،
بل صارت نافذة للتعبير عن مواقف سياسية خاصة، كما حدث مع الممثلة
المكسيكية سلمى حايك التي استغلت ظهورها على السجادة الحمراء،
لتوجيه رسالة لجماعة «بوكو حرام» النيجيرية التي اختطفت 200 تلميذة
من تلميذات إحدى المدارس، إذ رفعت حايك لافتة كتب عليها
بالإنجليزية عبارة «أعيدوا بناتنا»، واستعملت اسمها للترويج لهذه
القضية، رغم أن الترويج السياسي ممنوع في تلك المهرجانات. سلمى ذات
الأصول العربية اللبنانية من ناحية الأب، ناشطة في مجال نصرة
المعنفات والمضطهدات من النساء، وربما كان هذا وراء وقفتها تلك،
ولكن السؤال الذي لا سبيل إلى تفادي طرحه هنا: لماذا نساء نيجيريا،
وليس أنهار الدماء التي تراق في العالم العربي اليوم، إن كان
الضمير لا يحتمل الظلم حقاً؟
لقد اتسمت مشاركة نوري بلجي جيلان هذا العام بطابع سياسي، منذ
حضوره عرض فيلمه، حيث صعد فريق الفيلم درج المهرجانات القصير
المغطى بالبساط الأحمر، حاملين على بدلاتهم شارة الحداد على عمال
المناجم الذين قضوا في حادثة هزت تركيا في الفترة الأخيرة. واستغل
جيلان حصوله على التكريم بالفوز، فأهدى السعفة لـ «شباب تركيا، بمن
فيهم أولئك الذين لقوا حتفهم في مظاهرات العام الماضي».
على عكس توقعات النقاد والمتابعين، لم يحصل فيلم المخرج الموريتاني
عبد الرحمن سيساكو، على أي من الجوائز الرسمية لمسابقة مهرجان
«كان» السينمائي في فرنسا، في دورته السابعة والستين هذه. وقد كان
عدد كبير من النقاد والصحفيين المتخصصين في السينما، قد توقعوا
حصول فيلم «تمبكتو» على جائزة «السعفة الذهبية»، أو إحدى جوائز
المهرجان الأخرى.
ولكن سيساكو فاز فعلاً بجائزة «شارل شالي بووير» في دورتها 18،
وقالت «إذاعة وتلفزيون لكسمبورغ» على موقعها الإلكتروني إن الجائزة
تمنح لفيلم يعكس جانباً من الحياة الحقيقية للناس. كما منحته لجنة
التحكيم جائزتها، (المسكونية) أيضاً.
أثيرت ضجة حول فيلم تمبكتو الذي ظن الكثيرون أنه مشاركة عربية في
مهرجان عالمي، وتوقع له المتابعون والنقاد الفوز بالسعفة الذهبية.
لكن متتبع الفيلم وقصته يجد أنه ظل فيلماً ذا لكنة بل وتأتأة
أحياناً في لغته السينمائية، وفي تعامله مع موضوعه، وهو الجماعات
الإسلامية المتطرفة على حد قول مواقع صحفية عديدة.
قالت مصادر نقدية عديدة (غير أوروبية طبعاً) أن سيساكو قارب موضوعه
بكم كبير من الكليشيهات والصور النمطية والقوالب الجاهزة، كتلك
التي تنتشر في وسائل الإعلام العالمية وتنتصر لصورة سطحية، تفشل في
سبر أغوار واقع بالغ التعقيد، كما هي الحال في الصحراء الأفريقية
وجنوبها. وغرق الفيلم بنفس السلبيات التي تؤخذ على النظرة
الاستشراقية في تنميطها ومقولاتها التصنيفية التي تعجز عن اكتشاف
القوانين والمحركات الحقيقية لواقع محلي بالغ التعقيد. فبدا سيساكو
(الذي يقدم في الغرب في صورة ابن البلد العارف بتعقيداته) بدا أكثر
«ملكية من الملك» في تعزيز الصورة النمطية المقدمة عن دول العالم
الثالث في آسيا وأفريقيا في كثير من وسائل الإعلام الغربية.
كان هذا واضحاً في الفيلم الذي حظي بشرف الحضور دون غيره من
الأفلام في قائمة مسابقة المهرجان الكبرى التي ضمت عدداً من رموز
السينما وكبار مخرجيها.
بصراحة لا أظن أن «الزائر العادي» مثلي ومثلك سيرى الكثير في تلك
الفترة. فيكاد يكون من المستحيل مثلاً الحصول على تذاكر أي فيلم من
المسابقة الرسمية أو من أفلام خارج المسابقة. وسيكون الأمر ممكناً
عن طريق الدعوة فقط، وهذا طبعا مستحيل، ما عدا العروض المجانية في
الهواء الطلق على الشاطئ للأفلام الكلاسيكية.
نقطة جديرة بالذكر، وقد تناقلتها بعض وسائل الإعلام هي أن هذه
الأفلام، وغيرها الكثير من الأفلام القادمة من مدن لا ينتبه لها
ولا يهتم بها أحد، ولا يتكلم عنها أحد، ومن عمق أفراح ومآس
وتعقيدات إنسانية واجتماعية لدول متعددة وبلغات مختلفة، تجعل
الكثيرين، رغم كل مظاهر البذخ والاستعراض البادية على قشرة
المهرجان في الوقت الراهن، يبشرون بالعودة إلى أصل فكرة إقامة
المهرجان عام 1939، حيث التفاهم والتعاون من خلال «السينما» بين
شعوب العالم الحر، والوقوف معا ضد التطرف والعنصرية، متمثلين،
جميعا، مقولة غابرييل ماركيز الشهيرة: «السينما تغير العالم». |