أسامة عبد الفتاح يكتب:
"جريس أميرة موناكو" فيلم مناسب لافتتاح "كان"..
فقط!
** الوقائع التاريخية تاهت وسط الخيال البوليسي الركيك.. وأداء
نيكول كيدمان أكبر من الفيلم
** الولايات المتحدة رفضت توزيعه رغم تمجيده "البطلة الأمريكية"..
والعائلة الملكية تبرأت منه
للعام الثاني على التوالي، يشاهد المصريون فيلم افتتاح مهرجان
"كان" السينمائي الدولي، الذي اُختتمت دورته السابعة والستون أمس
الأول الأحد، في نفس توقيت عرضه بالمهرجان الأهم والأشهر حول
العالم، وذلك بعد عرض فيلم "جاتسبي العظيم" بدور السينما المصرية
في نفس يوم افتتاح الدورة السادسة والستين العام الماضي، وإن كان
فيلم "جريس أميرة موناكو" – فيلم افتتاح العام الحالي – بدأ عرضه
في مصر في اليوم التالي لافتتاح "كان"، أي الخميس 15 مايو الحالي.
وبعد أن شاهدت الفيلم في إحدى دور العرض بالقاهرة الأسبوع الماضي،
اكتشفت أنه يحقق معادلة خاصة به وحده، حيث أنه – من ناحية – مناسب
تماما لافتتاح مهرجان "كان"، لكنه – من ناحية أخرى – فيلم صغير
وغير متماسك ومخيب للآمال والتوقعات الكبيرة التي سبقت عرضه، سواء
لأهمية وثراء الشخصية التاريخية التي يتناولها، وهي النجمة
الهوليوودية الشهيرة جريس كيلي (12 نوفمبر 1929 – 14 سبتمبر 1982)،
التي أصبحت أميرة موناكو بعد زواجها من الأمير رينييه الثالث في 18
أبريل 1956، أو لأهمية مخرجه الفرنسي أوليفييه داهان (47 عاما)،
الذي سبق له تحقيق نجاح دولي كبير عندما قدم سيرة أخرى، هي قصة
حياة المطربة الفرنسية الشهيرة إديت بياف، في فيلمه "الحياة
الوردية" عام 2007، والذي فاز بجائزتي أوسكار، إحداهما لبطلته
الفرنسية ماريون كوتيار عن تجسيدها دور بياف، والأخرى لفنان
الماكياج ديدييه لافارني.
كان الفيلم مناسبا لافتتاح "كان" لأنه يتناول سيرة نجمة شهيرة
وأميرة محبوبة، وتلعب بطولته نجمة شهيرة أخرى من شأنها إثراء حفل
الافتتاح إذا سارت على بساطه الأحمر، وهي نيكول كيدمان، بالإضافة
إلى أن مخرجه مواطن فرنسي.. أما أهم الأسباب، فهو أن أحداثه تدور
في إمارة موناكو التابعة بشكل أو بآخر لفرنسا، والقريبة جدا من
مدينة "كان" الفرنسية نفسها، حيث لا يفصل بينهما سوى 55 كيلومترا.
خفة وسطحية
لكن الفيلم لا يصلح لما هو أكثر من افتتاح مهرجان "كان"، ولا يصمد
للمنافسة في مسابقة أي مهرجان دولي، ولذلك عرضته إدارة "كان" خارج
المسابقة، رغم أنها كثيرا ما أشركت فيلم الافتتاح في المسابقة في
السنوات الماضية.. ولا يعني ذلك أنه فيلم جماهيري، فهو لا يصلح
أيضا لتحقيق إيرادات عالية في أي دولة حول العالم، لأنه عمل ضعيف
وغير متماسك، ويسيطر عليك بعد مشاهدته الشعور بأنه فيلم صغير، ليس
لأن ميزانيته محدودة (30 مليون دولار فقط)، ولكن لأنه يفتقد إلى
العمق ويتميز بالخفة والسطحية، ويعاني من ركاكة السيناريو وحبكته
الدرامية الخائبة القائمة - في جزء كبير منها - على حلول بوليسية
ساذجة.
وربما لذلك تم تأجيل العرض التجاري للفيلم في الولايات المتحدة إلى
أجل غير مسمى، رغم تمجيده "البطلة الأمريكية" جريس، التي يظهرها في
صورة منقذ موناكو المخلِّص.. وجاء ذلك على خلفية خلاف حاد بين
مخرجه وبين الموزع الأمريكي هارفي واينستاين، الذي طلب إعادة
مونتاج الفيلم وإدخال تعديلات عليه رفضها داهان، واتهم واينستاين
في الصحف بأنه خان الفيلم وقيمته الفنية لأسباب تجارية خسيسة.
وقال إن هناك حاليا نسختين للفيلم، إحداهما خاصة به والأخرى خاصة
بالموزع الأمريكي، واصفا ذلك بأنه كارثة بكل المقاييس.
ولعل سطحية الفيلم أيضا كانت وراء وصف العائلة الحاكمة في موناكو
له بأنه "مهزلة"، مؤكدة أنه بعيد عن الواقع كل البعد. وقال الأمير
ألبير الثاني، أمير موناكو الحالي، وشقيقتاه الأميرة كارولين
والأميرة ستيفاني، أبناء جريس كيلي والأمير رينييه الثالث، إن
الفيلم يعتمد على "مصادر تاريخية خاطئة ومشكوك فيها"، وإن طبيعته
"خيالية تماما."
وأضافوا - في بيان مشترك - أن العائلة الأميرية لا تريد بأي حال
الارتباط بهذا الفيلم الذي لا يعكس الواقع وتبدي أسفها لسرقة
تاريخها لأغراض تجارية محضة. وأوضحوا أن المخرج أوليفييه داهان
والمنتجين رفضوا أن يأخذوا في اعتبارهم الملاحظات التي أبداها
القصر والتي تشكك في النص كله وشخصيات الفيلم.
عرض هيتشكوك
ومن ناحيتها، أعربت النجمة الأسترالية نيكول كيدمان، بطلة الفيلم،
عن استيائها لوصف العائلة الحاكمة فى موناكو للفيلم بـ"مهزلة
تاريخية" قبل مشاهدته كاملا. ويُذكر هنا أن الأمراء الثلاثة كانوا
قد شاهدوا المقدمة الدعائية للفيلم فقط. وقالت: "أعرف أنه من الصعب
على أبناء الأميرة جريس أن يشاهدوا قصة حياتها على شاشات السينما،
ولكن أود أن يعلموا أن كمية هائلة من الحب والاحترام كانت وراء كل
مشهد بالفيلم". وأشارت إلى أنها آسفة لعدم تلبيتها دعوة العائلة
الملكية لتناول الغداء معهم قائلة: "لقد دعوني إلى تناول الغداء
ولكنني وقتها كنت أعمل 6 أيام في الأسبوع ولدي أطفالي الصغار
بالإضافة إلى عنايتي بوالدتي، ومن الصعب اصطحاب كل هؤلاء الأشخاص
إلى القصر لتناول الغداء".
ويدور الفيلم حول الفترة التي تلت زواج جريس من الأمير رينييه حاكم
إمارة موناكو بست سنوات، أي عام 1962. وقد اختار كاتب العمل، أراش
أميل، هذه الفترة تحديداً لأنها السنة التي عرض فيها المخرج الكبير
ألفريد هيتشكوك على جريس العودة للتمثيل وقبول بطولة فيلم
"مارني".. وقد فكرت الأميرة في الموافقة، إلا أنها قررت في النهاية
الرفض للوقوف إلى جانب زوجها خلال أزمة بلاده مع فرنسا.. ففي نفس
السنة، هددت باريس إمارة موناكو بدفع الضرائب أو بضمها إلى فرنسا،
وفرضت حصارا على البلد الصغير للضغط عليه.
كان من الممكن أن يكفي هذا المحور، الذي لا يسرد سوى جزء يسير من
قصة حياة جريس، لعمل فيلم جيد لو كان صناعه قد تعمقوا فيه ومنحوه
ما يستحق من بحث ودراسة وكتابة درامية رصينة، لكن الفيلم اتسم
بالخفة في التناول والمعالجة، بدءا من رسم بعض الشخصيات الرئيسية
وحتى الحبكة الدرامية نفسها.. وعلى سبيل المثال، تم تقديم شخصيتي
ديجول وهيتشكوك - وكلاهما من العظماء - بشكل كاريكاتوري مضحك نال
منهما ومن تأثيرهما في الفيلم، ولم يكن لذلك أي مبرر درامي.
خطبة عصماء
واتسمت الحبكة الدرامية بمسحة بوليسية خائبة كما أسلفت، فوصيفة
الأميرة جريس هي التي تكشف مؤامرة الأميرة أنطوانيت، شقيقة رينييه،
للإطاحة بشقيقها من العرش والجلوس مكانه بالاتفاق مع فرنسا، ويتم
ذلك بطريقة أمريكية نمطية، حيث تستأجر - من تلقاء نفسها - مخبرا
خاصا لتصوير الأميرة الأخت وإثبات خيانتها.. وعلى طريقة أجاثا
كريستي، يجعلنا الفيلم نشك في البداية في الوصيفة نفسها قبل أن
"يفاجئنا" بخيانة الشقيقة، وكان ذلك كله غريبا على أجواء الفيلم.
ووسط هذا الخيال البوليسي الركيك، تاهت الحقائق التاريخية.. صحيح
أن الأميرة أنطوانيت تآمرت على شقيقها، وتم نفيها من الإمارة
بمعرفة جريس كيلي، لكن التاريخ لا يذكر شيئا عن الوصيفة وخطتها
الأمريكية، والأهم أن ذلك تم قبل عام 1962 بفترة طويلة.. كما أن
التاريخ لا يذكر شيئا عن حفل الصليب الأحمر الدولي الذي استضافته
موناكو في نفس العام، والذي حضره ديجول، ولا عن الخطبة العصماء
التي ألقتها الأميرة جريس خلاله، وأثرت بها على الزعيم الفرنسي
وجعلته يفك الحصار ويتراجع عن طلب الضرائب، في نهاية سعيدة وغير
مقنعة ترضي غرور الأمريكيين الساعين دائما لأدوار البطولة حول
العالم، والمتعطشين دائما لانتصار ثقافتهم الوليدة على الثقافات
الأخرى مهما كانت عراقتها.
والحقيقة أن فرنسا ديجول كانت مشغولة في ذلك العام (1962) بأزمة
خليج الخنازير بين أمريكا وروسيا، والحصار الأمريكي لكوبا، والذي
بدا معه حصار فرنسا لموناكو مضحكا. كما كانت باريس مشغولة
بالاستفتاء على انتخاب الرئيس بشكل مباشر من قبل الشعب وليس عن
طريق البرلمان، ولذلك أنهى ديجول أزمة موناكو سريعا، بعد الاتفاق
على الاكتفاء بجباية الضرائب ممن لا تتجاوز مدة إقامتهم في الإمارة
خمس سنوات، ومن الشركات ذات الأصل الفرنسي التي لا يتجاوز حجم
أعمالها في موناكو ربع إجمالي أعمالها.. وليس هناك أي إشارة لأي
دور لعبته جريس لإنهاء الأزمة.
أفضل ما في الفيلم كان أداء نيكول كيدمان في حدود السيناريو
المتاح، ولا أبالغ إذا قلت إنه أكبر من العمل ككل.. ويبدو أن
المخرج انبهر مثلنا بأدائها، وبعينيها الجميلتين، فانشغل طوال
الوقت بتصوير لقطات قريبة جدا لوجهها، وزاد الأمر عن حده في الكثير
من الأحيان، مما تحول إلى عيب آخر في الفيلم، الذي لا تنقصه
العيوب. |