الخليج في مهرجان "كان"
السينمائي
الدولي (7)
المهرجان يعيش أوجاع السياسة العالمية
لارس فون تراير يهاجم بوش والعنصرية الامريكية
كان: محمد رضا
هناك ثلاثة إعلانات صحافية عن ثلاثة مشاريع سينمائية مقبلة تثير الاهتمام.
الإعلان الأول عن فيلم بعنوان “الصليبيون” من انتاج شركة اسمها “أمريكا
فيديو فيلم” (حديثة وصغيرة). والواضح أن الإعلان المرسوم من دون ذكر ممثلين
لا يزال في باكورة خطواته. ربما ليس أكثر من فكرة او خاطرة تعلن في إطار
المهرجان الفرنسي العالمي فإذا أثارت اهتمام موزعين سينمائيين عالميين تم
انتاجها والا فلن ترى النور. لكن اللافت في هذا الإعلان العبارة التي ترد
فوق العنوان: “غزوا بفعل الإيمان. انتصروا لأجل الحق”.
حسناً... نعلم من الآن موقف الفيلم من الإسلام والعرب والقدس والتاريخ.
الإعلان الثاني لفيلم بعنوان “هجوم مؤكد” له اسم مخرج بحاجة الى مكبّر لكي
تقرأه هو باتريك ديوولف مع صور ممثلين لكن من دون أسمائهم. والعبارة
التعريفية حوله تقول: “تبعاً لهجوم إسلامي واسع محدق، ترسل (وهذا هو
المضحك) الوكالات الأمنية السرية لقوّة عالمية (!) رجل يعمل في الخفاء
ليدخل خلية الإرهابيين ويجمع المعلومات حول الطرق والأهداف وخطط المنظمة
المشتبه بها”.
أعتقد أن كاتب هذه العبارة الركيكة شاب في السادسة عشرة من العمر أعطاه
والده منتج الفيلم فرصته الأولى للتعبير عن نفسه سينمائياً. لكن هذا لا
يهم.
الإعلان الثالث هو لشركة يبدو أنها مصرية اسمها “تخيّل” وهو عنوان مصمم
تصميماً جيداً ولافتاً لفيلم إذا ما أنتج عالمياً حاز على فرصة تداول
مثيرة. الفيلم اسمه “فاروق الأول.... والأخير”. ليس هناك من أسماء كثيرة
حول هذا الفيلم. نعرف أن السيناريو من وحيد حامد وتامر عبد المنعم، ولا
يوجد ذلك للمخرج لكنْ هناك عنوان لشركة “تخيّل إنترتاينمنت” ورقم هاتف في
القاهرة. هل تم الإعلان من دون حضور وفد عن الشركة المنتجة؟ ربما.
الإعلانات الثلاثة هي من جملة ما تزخر به الصحف اليومية الصادرة في “كان”
من إعلانات سينمائية هذه الأيام، لكنها تنفصل -مع أخرى سيصعب حصرها- في
أنها تتبع أفلاما لكل منها عين على السياسة. ليس هناك ما يؤكد بعد أن هذه
الأفلام سيتم تصويرها، لكن على افتراض أن تمويلها جاهز والضوء الأخضر ممنوح
لها، فإن كلاً منها سينصب على موضوع سياسي خاص. أنصع هذه المواضيع هو ذلك
المطروح في “فاروق الأول والأخير” كونه، على ما يبدو، سيكون من نوع السيرة
الفاتحة لصفحات من تاريخ مصر والعالم. لكن “الصليبيون”، الذي يعود الى
تاريخ أسبق، يصطاد في الماء العكر كما لو أنه يريد تصحيح صورة رسمها ريدلي
سكوت جيدا في فيلمه الجديد “مملكة الجنة”. الفيلم الآخر “هجوم مؤكد” يريد
الاصطياد في ماء الوضع الحالي العكر ولغاية تجارية في مستوى رخص رسالته
وموضوعه.
مع أمريكا ضد بوش
لكن كل هذا يؤكد أن السينما أصبحت اليوم أكثر ارتباطاً بالسياسة وطروحاتها
الحاضرة او التاريخية ويؤلف جانباً موازياً لما حدث يوم أمس الأول (الإثنين)
في قاعة المؤتمرات الصحافية عندما تحدّث المخرج الدنماركي لارس فون تراير
عن فيلمه الجديد “ماندرلاي”، مثيراً لغطاً كثيراً يذكّر باللغط الذي أثاره
حين قدّم فيلمه السابق “دوغفيل” وحين فاز فيلم مايكل مور “فهرنهايت 11/9”
في العام الماضي.
أول ما تسلم المخرج الكلمة وراح يتحدّث عن فيلمه بدا واضحاً أن ما اختار
الحديث فيه (سعادته بإنجاز فيلم آخر في شاكلة “دوغفيل” وحبوره للعمل مع هذا
الفريق من الممثلين) هو ليس ما يريد الصحافيون الحديث فيه. بعد قليل قطع
عليه أحد الصحافيين استرساله وسأله: “الا تعتبر الفيلم معادياً لأمريكا؟”.
رد المخرج الذي قدّم هذا الفيلم حول العنصرية الأمريكية من ناحية والحلول
الساذجة للبيض حيالها (من دون أن يقدّم حلاً ما بدوره) “دعونا نودّع” عبارة
“فيلم معاد لأمريكا”.... لا شيء من هذا القبيل. لا يوجد شيء اسمه فيلم معاد
لأمريكا...
وتوقع الجميع كلمة “ولكن” وجاءت:
“لكن المسألة هي أن سياسة الرئيس الأمريكي بوش سياسة خاطئة” وأضاف (املأ
مكان النقط بالوصف الذي تعتقد هو المقصود): “لكن مستر بوش هو.....! وهذا
الوصف ليس إهانة. أمريكا.... على العالم”.
وحين سأله كندي: ماذا يكون شعورك لو أن أمريكيا حقق فيلماً معيباً بحق
التاريخ الدنماركي؟
فرد المخرج “أتطلع قدماً لأرى هذا الفيلم”.
ثلاثة مخرجين يتحدّثون
كما هو متوقع، لم يطرح في جدول النقاش أي موضوع فني. هذا وضع يتكرر هذه
الأيام مع الأفلام التي تشتط فنياً لكنها تثير سياسياً فيدور النقاش حولها
على هذا النحو وليس على نحو فني صحيح.
على أن ما يلفت النظر هو زيادة الجرعة السياسية التي تتناولها الأفلام هذه
الأيام. السياسة موجودة هذه السنة في “تحامل” و”مخبوء” و”الملك” و”ثلاث
جنازات لملكواديس استرادا” و”منطقة حرة” و”أحلام شنجهاي” و”معركة السماء”
و”حالما تولد لا ملجأ لك” و”كيلومتر صفر” الى جانب “ماندرلاي”. هذا يرفع
نسبة الأفلام ذات التطرقات السياسية على نحو او آخر الى نصف ما هو مطروح
على شاشة المسابقة. سألت المخرج ميشيل هاناكي (“المخبوء”) عن رأيه في ذلك
فقال:
“لا يوجد هناك فيلم لا سياسة فيه حتى ولو كان ترفيهياً محضاً. كلنا نعرف
ذلك. من ناحيتي لا أعمد الى تقصّدها ولا أعتقد أن على أي فنان العمل على
تقصّدها بذاتها. هي ستعلن عن نفسها بنفسها وبصورة طبيعية. الأفضلية هي
للأسلوب السردي الذي ستطرح من خلاله. هذا عليه أن يأتي في المقدّمة”.
حملت السؤال الى أتوم إيغويان هاتفياً. المخرج سبق له أن قدّم قبل عامين
“أرارات” عن المذبحة التركية التي أدّت الى نحو مليوني قتيل أرمني. قال:
“حين أخرجت ذلك الفيلم كان هذا تدخلاً مباشراً في التاريخ. أردت لفت
الأنظار لمأساة منسية. وهذه الرغبة هي وجهة نظر سياسية لكنها لم تؤد الى
فيلم سياسي. في الحقيقة لا أعرف ما الفيلم السياسي. بالنسبة اليّ كل فيلم
يحمل وجهة نظر سياسية. بعضها أفضل من بعض”.
وفي نهاية حديث قصير مع المخرج الإيطالي ماركو توليو جياردانو (صاحب “حالما
تولد لا ملجأ لك”) ردّ على سؤال حول كم من السياسة مهمة في أي فيلم وفي
فيلمه على الأخص قائلا:
“هل تستطيع أن تحقق فيلما من دون موقف سياسي ما؟ أنا لا أستطيع. لا يعني
ذلك أنني أفهم سياسة ولي اطلاع يفوق اطلاع المسؤولين او السياسيين، لكني
أتحرك تبعاً للموضوع الذي أعرضه والذي عادة ما لديه موقف أتفق على اعتباره
سياسياً، مثل موضوع المهاجرين العرب والأفارقة والأوروبيين الشرقيين
المتزايد الى ايطاليا. لا أعتقد ان المخرج الأوروبي على الأخص يستطيع
الابتعاد عن طرح هذه المشاكل المتفاقمة في عالم اليوم. وهو بمجرد الاقتراب
منها اقترب من جانبها السياسي”.
“الأول والأخير”
أنصع هذه المواضيع هو ذلك المطروح في “فاروق الأول والأخير” كونه، على ما
يبدو، سيكون من نوع السيرة الفاتحة لصفحات من تاريخ مصر والعالم. لكن
“الصليبيون”، الذي يعود الى تاريخ أسبق، يصطاد في الماء العكر.
يوميات
أصعب ما يمكن أن يجده المتردد الى “كان” هو مكان ينام فيه. إذا لم تكن
زبوناً دائماً لفندق معيّن منذ سنوات بعيدة، وإذا لم تكن قادراً على دفع
إيجارات مرتفعة جداً (أرخص استديو في هذه الفترة من 1300 الى 1400 يورو)
فإن الحظ كبير أن تقضي لياليك على الشاطئ او تنتهي الى فندق جبلي بعيد تهبط
منه وتصعد إليه في سيارة تاكسي. لكن هناك بعض المحظوظين. الناقد الأمريكي
روجر إيبرت هو أحد هؤلاء. إنه منذ عشرين سنة يستأجر الغرفة ذاتها في الفندق
ذاته (“سبلنديد”) وهو أقرب الغرف الى المهرجان إذ لا يفصله عن القصر سوى
الشارع. والفندق المذكور ليس أغلى الفنادق لكنه ينتمي الى القرن التاسع عشر
ول”إيبرت”، الذي لديه برنامج تلفزيوني نقدي معروف، غرفته التي تطل على
المرفأ القديم وتتميّز بشرفة كبيرة. وشأن إيبرت هو شأن كل نزلاء هذا الفندق
الذي لا يؤجر غرفه الا لذات الأشخاص عاماً بعد عام. مديرته تقول: “الحقيقة
إننا لا نعد أحداً... الغرف عندنا ليست برسم الاستئجار الا عندما يموت
نازلها”.
بالنسبة للنقاد العرب في “كان” فإن لديهم الآن مراكزهم المعتادة ليس فقط من
حيث أماكن الإقامة (معظمهم في أبعد نقطة ممكنة عن القصر لأنها أرخص) بل من
حيث عادة الجلوس في الصالتين الرئيسيتين.
النقاد الذين يكتبون لمجلة “سينما” وهم الأساتذة سمير فريد وقصي صالح درويش
وإبراهيم العريس يحتلون أقصى اليمين (ليس بعيداً من باب الخروج). النقاد
المصريون يجلسون عادة على يمين الصالة لكن في المسافة المتوسطة بين أول صف
أمام الشاشة وآخر صف، ما يجعل مهمة مشاهدة الفيلم عويصة إذ إنها تأخذ زاوية
حادّة.
نقاد الصحف التي تصدر في لندن والخليج يحتلون الوسط او يمين الوسط مباشرة.
كذلك لا أحد منهم يجلس منفرداً الا إذا لم يصطحبه أحد أصلاً، فكل فريق
ينتمي الى ثلته وعلى النحو المذكور... هذا باستثناء كاتب هذه الكلمات الذي
قد يجلس على يمين الوسط مباشرة لكنه سعيد أكثر إذا لم يجلس أحد لاوراءه ولا
الى جانبه ولا أمامه ... وهذا مستحيل.
اللقاءات الصحافية بالنسبة للجميع هاجس كبير، خصوصاً لمن تنتدبهم الصحف
لهذه الغاية وحدها. الضيف يحضر لثلاثة أيام (وأحيانا ليومين) فيقوم الملحق
الصحافي التابع للفيلم ببرمجة جدول المقابلات له والتي تتم على طريقتين: كل
خمسة على طاولة واحدة، او -إذا كان الصحافي نجماً في وطنه او عالمه -
مقابلة مباشرة (واحد على واحد كما يسمّونها) إنما محصورة في 10 الى 15
دقيقة كحد أقصى. وليس سهلا الحصول على مقابلات. الى جانب العلاقات الشخصية
بين الصحافي والملحق الصحافي على الأول أن يمثّل صحيفة كبيرة. ومع وجود
4000 إعلامي هذا العام فإن الصحافي الذي يفوز بمقابلة ما إنما يعرف قيمة
وضعه. والسبب الوحيد الذي أستطيع فيه الفوز بمقابلات حين أسعى يعود الى
انتمائي الى جمعية مراسلي هوليوود الأجانب... هذه تفتح الأبواب سريعاً.
أحياناً مع ابتسامة صادقة.
|