يستحق الاحتفاء والتصفيق الذى حظى به، الفيلم التسجيلى الطويل "الطريق إلى
القدس" (عن البطل أحمد عبدالعزيز)، للمخرج المصرى الشاب رضا فايز.
ومع أنه فيلم تسجيلى إلا أن أسلوب مخرجه الموهوب المدقق انفتح على عناصر
وأدوات متنوعة، بينها مشاهد روائية، حيث أدى الممثل (عاكف جاد) عدداً من
المواقف فى حياة أحمد عبدالعزيز، وبينها كتابة على الشاشة لفقرات من
مذكراته، إلى جانب التعليق على امتداد الفيلم الموفق كصياغة وأداء، أضف
استخدام الصحف التى صدرت فى مرحلة حرب فلسطين عام 1948، كما استضاف الفيلم
عدداً من الشخصيات البارزة لتتذكر مواقف أو تعبر عن خواطر ومشاعر حول أحمد
عبدالعزيز وبطولاته، وحياته واستشهاده، بينهم الدكتور ثروت عكاشة من قادة
ثورة يوليو الكبار ووزير الثقافة رفيع المكانة فى عهدها، والفريق سعد الدين
الشاذلى من قادة حرب رمضان ـ أكتوبر 1973 والعسكرى المصرى البارز، وشخصيات
زاملت أو عرفت البطل فى رحلة وملحمة كفاحه، كما التقى الفيلم فى أكثر من
مشهد بخالد أحمد عبدالعزيز نجل البطل.
ونقل الفيلم ـ مرتين ـ من سلسلة (تجربة حياة) بقناة الجزيرة جانباً مما
قاله الكاتب الصحفى المؤرخ محمد حسنين هيكل عن أحمد عبدالعزيز قائد
المتطوعين العرب فى حرب فلسطين 1948، ولقائه به فى أتون الحرب وتحت المخاطر
والنيران، وحصوله منه على مذكرات بخط يده، والتى نشرها إثر ذلك فى جريدة
"أخبار اليوم" ومعها صورة كبيرة، رأى فيها ملايين المصريين والعرب لأول مرة
صورة بطلهم، الذى تحول إلى أسطورة خلال أحداث الحرب والعمليات والمواقف فى
غمارها التى أكدت بسالته هو ورجاله.
ومن المشاهد التى أعطت الفيلم طابعاً أو ملمحاً من السينما الروائية، والتى
أخرجها بنجاح عز الدين سعيد فى إطار الرؤية الكلية لمخرج الفيلم، مشهد
الممثل لدور أحمد عبدالعزيز، وهو جالس على مكتبه يكتب طلباً لوزير الحربية
من أجل التطوع لمجابهة الصهاينة فى فلسطين، ثم بعد ثلاثة أشهر حيث لا يلقى
الطلب استجابة أو حتى رداً يتكرر المشهد بطلب آخر بنفس الهدف، حتى إن لوزير
الحربية تصريح فيما بعد يرصده الفيلم مؤداه أن الوضع ينذر بمخاطر على أوضاع
الحكم إذا تكرر التجاهل أو الرفض لطلبات التطوع، ولذلك اضطر النظام إلى
الاستجابة!.
ويذهب أحمد عبدالعزيز إلى أرض فلسطين، ويكون هو القائد الطبيعى للمتطوعين،
بما حباه الله من إمكانات وملكات، فهو من جهة "قدوة" حقيقية وقيادى متمتع
بجاذبية شخصية و"كاريزما"، ومن جهة هو دارس لعلوم العسكرية وملم بحروب
العصابات الثورية أو الفدائية إلى درجة مدهشة.
فمن ميزات هذا الفيلم إنه يقدم (عبدالعزيز) على حقيقته، ليس كبطل مقدام
فحسب، وإنما أيضاً كعملاق ورجل علم متقدم فى العسكرية، إنه جيفارا آخر فى
عصره وظرفه ـ إذا جاز لنا هذا الوصف والمقارنة، خاصة من حيث حماسته الثورية
الهائلة المقترنة باقتدار كبير فى حرب العصابات الثورية.
ويروى الفريق سعد الدين الشاذلى فى شهادته: لقد كان أحمد عبدالعزيز حازماً
جداً معنا وإلى درجة غير عادية فى تدريبه لنا على القتال وركوب الخيل، ثم
مختلفاً وإلى درجة غير عادية أيضاً عن غيره عند تدريسه لنا العلوم العسكرية
والاستراتيجية، كان يخرج دائماً عن المنهج المعتاد، ويقدم لطلابه نظرة خاصة
بالفعل ورؤية تاريخية سياسية عميقة، تربط الأمس بالحاضر، والعلم بالمستقبل
وبالغايات فى النهضة والتحرر.
وحينما استشهد أحمد عبدالعزيز فى حرب 1948، قبل انتهائها، كان قد خاض معارك
كثيرة مظفرة، ولم يكن بالتالى هو ورفاقه يتصورون قط أن النهاية ستكون
النكبة أو الكارثة!.
استشهد بعد الهدنتين الأولى والثانية، وكان الكثير من أداء الفلسطينيين
والمصريين والعرب مبشراً، وما كانت هذه الهدنة أو تلك إلا تعبيراً عن ذلك،
فهى التقاط أنفاس للصهاينة وأداة بالنسبة لهم لتحسين مركزهم الذى تراجع أو
تدهور أكثر من مرة بأكثر من موقع فى ميدان القتال.
فقد استشهد الرجل وهو يشعر أن جانبه كان مظفراً ومتقدماً أكثر من العدو.
وبالفيلم جهد بحثى علمى كبير للمخرج رضا فايز، وإبداع حقيقى أسهم فيه كل
فريق العمل خاصة إسهام المنتج المنفذ الإعلامى أحمد زين، وضمن هذا الجهد
يأتى تحقيق الفيلم المدقق حول واقعة استشهاد البطل والتى لا يزال حولها
جدال... رغم حديث الفريق الشاذلى حول: إنه يمكن جداً حدوث الرواية المعروفة
المعلنة حول استشهاده برصاصة طائشة أو بالأدق من جندى على جانبنا لم يعرفه
وسأله عن "كلمة السر" مسرعاً بإطلاق الرصاصة التى أصابت بطلنا فى صدره أو
فى مقتل من فوره، لكن آخرين يرون مصلحة مؤكدة للصهاينة وأيضاً للإنجليز فى
التخلص من الرجل فدبروا لذلك تدبيراً، وغير هؤلاء يرون أن نظام الحكم فى
مصر هو من دبر وقتل لأنه لم يكن يحتمل عودة بطل بحجم عملاق وأسطورى إلى
واقع ووطن يترنح فيه هذا النظام.. ولم يكن يحتمل تأثيره وسط جماهير
تنتظره.. وهكذا.
وكما تقول "عرب لطفي"، المخرجة التسجيلية المقتدرة التقدمية فى ندوة أعقبت
عرض الفيلم بنقابة الصحفيين الأسبوع الماضى: "ليس فقط.. أن أحمد عبدالعزيز
لم يحيا مرحلة الهزيمة فى حرب فلسطين.. بل إنه أسس لانتصار منطق المقاومة
ولنجاحات المقاومة فى المستقبل ولمفاهيم تراكمت وتأكدت فى معارك أخرى..".
وقد كان أحد ثوار يوليو وهو "كمال الدين حسين" من أشجع رفاقه ومن أقربهم
إليه فى كل معاركه، وهذا ما ذكره عبدالعزيز لهيكل فى حوار معه أثناء
المعارك، وأورد الفيلم نصه فى أحد المشاهد.
وكان أحمد عبدالعزيز الذى ولد فى 1907 واستشهد فى 1948 ـ عن (41 عاماً) ـ
قدوة ومثلاً للجميع.
ويتحدث جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو فى كتابه "فلسفة الثورة" الذى صدر
عقب النجاح فى القيام بالثورة، بكلمات صارت محفورة وضاءة فى الوجدان المصرى
والعربى عن أحمد عبدالعزيز وفكره، يقول:
(..حين أحاول أن أستعرض تفاصيل تجاربنا فى فلسطين أجد شيئاً غريباً. فقد
كنا نحارب فى فلسطين، ولكن أحلامنا كلها كانت فى مصر.
كان رصاصنا يتجه إلى العدو الرابض أمامنا فى خنادقه. ولكن قلوبنا كانت تحوم
حول وطننا البعيد الذى تركناه للذئاب ترعاه...
".. وفى فلسطين جلس بجوارى مرة كمال الدين حسين وقال لى وهو ساهم الفكر
شارد النظرات:
ـ هل تعلم ماذا قال لى أحمد عبدالعزيز قبل أن يموت؟
قلت:
ـ ماذا قال..؟
قال كمال الدين حسين وفى صوته نبرة عميقة وفى عينيه نظرة أعمق:
ـ لقد قال لى: اسمع يا كمال، إن ميدان الجهاد الأكبر هو فى مصر..).
والشيء الغريب أيضاً..
أننا اليوم، وفى عام 2009 ـ الذى يعرض فيه هذا الفيلم الطويل الرائع عن
"البطل" و"العملاق" أحمد عبدالعزيز ـ لا نزال نرى الضوء فى هذه الكلمات
نفسها، "تنير أمامنا السبيل" على حد عبارة بالكتاب.
نرى اليوم وطننا مصر، كما كان "جمال عبدالناصر" وهو فى فلسطين عام 1948
يراه: "متروكاً للذئاب ترعاه"!.
والحق أنه علينا أن نقول اليوم ونقر، بما كان "أحمد عبدالعزيز" وهو فى
فلسطين عام 1948 يقوله متيقناً: "إن ميدان الجهاد الأكبر هو فى مصر".
هذه هى المسألة!.
هذه هى الحقيقة الأولى، والمدخل أو المفتاح، لمواجهة كل المأساة فى أنحاء
العالم العربى (2009) وكل هذا التردى والارتداد والانهيار العربى:
الطريق يبدأ من القاهرة...!.
العربي المصرية في
26/05/2009 |