سود وبيض ومنحلة
في بيت كئيب في جنوب كارولينا تبدأ الحكاية، حكاية مراهقة بيضاء تنسج علاقة
مع خادمة سوداء، ثم تنضم بعد وفاة والدتها الى عائلة سوداء وتعمل في منحلة
منزلية. حياتها صفحات كتاب حول العلاقات المختلة بين السود والبيض تحولت
بعدسة مرهفة الى فيلم سينمائي بعنوان «الحياة السرية للنحل».
توحي مشاهدة فيلم «الحياة السرية للنحل» بوجود علاقة ما، بينه وبين انتخاب
باراك أوباما كأول رئيس أميركي أسود للبيت الأبيض. الايحاء نابع من طبيعة
الموضوع الذي يتناول العلاقة بين السود والبيض في المجتمع الأميركي، وقدرة
الفئة المضطَهدة على إدارة نفسها وأيضا رعاية الأبيض الضعيف إذا ما احتاج
الى رعايتها. من دون شك العلاقة هنا غير مباشرة، لأن حكاية الفيلم تدور في
العام 1964، حول مجموعة أخوات زنجيات احتضن شابة بيضاء هربت من جور أبيها،
وعاشت معهن، وهي تنبه الى وجود حاجة حقيقية الى تغيير في موقف البيض من
السود. حاجة فرضتها عليهم متغيرات تاريخية كبيرة جرت داخل المجتمع: أولها
وجود السود كعنصر مشكل لبنية المجتمع الأميركي، ولهذا آن الأوان لوقف
السلوك العنصري ضدهم وبشكل حقيقي؛ لا باعلان وثائق وسن قوانين رسمية، كما
هو حاصل بالفعل، بل يتعداه الأمر الى تولد قناعة حقيقية لدى الأغلبية
البيضاء بأن هؤلاء الزنوج مثلهم اميركيون وقادرون على لعب دور ايجابي في
المجتمع، وادارته معهم! هذه ربما هي رسالة الفيلم الأهم التي عرضتها
المخرجة وكاتبة السيناريو جينا برنس بيتوود بطريقة ذكية ومبطنة، دستها في
طيات حكاية واقعية كتبتها مراهقة بيضاء عن بيت طيب يصنع العسل وسمتها
«الحياة السرية للنحل».
في بيت كئيب وحزين في جنوب ولاية كارولينا، تبدأ حكاية المراهقة ليلي، التي
انطوت على نفسها بعد حادث وفاة والدتها والتي تسببته هي من دون قصد، وعاشت
سنوات طفولتها تحت وطأة الشعور بالذنب. المشهد الأول يحيطنا بالعلاقة
السيئة بين والديها وبالحادث الأليم. فخلال شجار بينهما يقع مسدس والدها
بين يديها، وفي محاولة لإبعاده، ومن دون ادراك منها، تضغط على الزر فتسقط
الأم صريعة على اثر اصابتها بطلق ناري. من هذه اللحظة الى حين بلوغها
الرابعة عشرة لم يتوقف والدها من الضغط عليها وتذكيرها بجريمتها. كان
يكرهها كما يكره أمها. وخلال هذه السنوات صارت خادمتهم السوداء روسالين
(الممثلة جنيفر هودسون) بمثابة أم لها. ولذلك وحين فكرت ليلي (الممثلة
داكوتا فانينغ) بالهرب من جحيم والدها، لم تجد أفضل من روسالين رفيقة لها.
من خلال حياة ليلي وعلاقتها بروسالين، تبدأ المخرجة جينا برنس بيتوود بنقل
الخارج تدريجيا الى المشاهد. تعود بنا الى ستينيات أميركا، وكيف كان وضع
السود فيها سيئا. لم يكن مسموحا لهم بالاختلاط بالبيض أبدا، ولا الدخول الى
أماكنهم. كانوا عبيدا فقط. وهذه المهنة الوحيدة التي كان يقبل البيض فيها
بوجود السود بينهم. وكان طبيعيا ان يثير ظهور شخصين علنا في إطار علاقة
إنسانية (أبيض وأسود) حفيظة الكثير من البيض. وفي مشهد محزن تتعرض الخادمة
السوداء فيه لضرب مبرح وتعذيب شنيع، لأنها فقط تجرأت ومشت مع طفلة بيضاء في
الشارع. لقد لفقوا لها تهمة سرقة الطفلة، فما كان منهن سوى المضي في
هروبهن، وهذه المرة ليس من جور الأب وحده، بل من جور المجتمع كله.
طريق النحل
ولأنها بيضاء البشرة ستتولى ليلي دور القيادة في رحلة الهروب. فالسوداء لا
يمكنها القيام بأي فعل خارج بيوت الخدمة. وكان الطريق أمام ليلي مفتوحا رغم
صغر سنها. ذات مرة وعندما أرادت الدخول الى محل بقالة لشراء بعض الطعام،
قرأت إعلانا عن نوع من العسل بيتي الصنع. حين سألت صاحب المحل عن اسم ومكان
إنتاجه كتب لها التفاصيل. وبالتفاصيل الصغيرة سنلم بواقع المجتمع وعنصريته.
خطاب بصري سهل ومدروس يعري الاختلال الأخلاقي بشكل يثير الأسى. بشر يعيشون
في البقعة الجغرافية نفسها، مجموعة منهم تتمتع بكل الامتيازات والأخرى،
محرومة منها. لا لشيء سوى لأن لون بشرتها مختلف. مفارقة لم تفهمها ليلي،
وحين كبرت أعلنت صراحة رفضها. فتجربتها الجديدة مع صانعة العسل غيرت حياتها
وأكدت صواب نظرتها الى العالم. لقد استقبلتها السيدة السوداء أغسطس
(الممثلة كوين لاتيفا) في بيتها وعاملتها كواحدة من أخواتها. انضمت ليلي
الى عائلة بوترايت السوداء، التي وفرت لها حماية كانت تفتقدها في بيت
والدها الحقيقي. تبادل للأدوار إنساني ومتميز، وعليه ستكمل صاحبة الفيلم
بناء حكايتها. في النصف الثاني من الشريط ندخل في تفاصيل عالم سحري يلعب
فيه النحل دورا مثيرا وغامضا. فالأخوات بوترايت يشتغلن في منحلة منزلية
ويعرفن الكثير من أسرار هذه الحشرات التي تصنع العسل اللذيذ. ومع ان الشريط
لم يدخل كثيرا في تفاصيل هذا العالم الغامض، أو الذي أحاطته مخرجته بغموض
يشبه غموض العلاقة بين المراهقة البيضاء والأخوات السوداوات، فإنه كان في
حاجة الى تعميق أكثر، يغني التشابه المرتجى بين حميمة العلاقات داخل
المنحلة وسريتها التي تنتج عسلا وحاجة البشر الى الافادة منها، كما افادت
عائلة بوترايت. كان تركيز مخرجته منصبا على متابعة تطور حياة ليلي داخل هذا
البيت المعزول. كانت معنية بنسج خيوط المشهد العام لأميركا الستينيات ووضع
السود فيها وتجليات القهر الذي كان يحيط بهم، خصوصاً عائلة بوترايت التي
عانت كثيرا، لدرجة إنها بنت لنفسها ما يشبه حائطا للمبكي داخل حديقتها
(ربما كان هذا الترميز حشوا متعمدا للتذكير بحائط المبكى اليهودي في
القدس؟). يبكون قهرهم، واقفين أمامه، يفرغون آلامهم بكتابتها على ورق كانوا
يدسونه بين شقوقه. وهكذا فعلت ليلي حين بدأت كتابة مذكراتها على دفتر وليس
على ورق يوضع في شق حائط! فالأوراق الحزينة تبعثرها الرياح في الخارج، أما
الدفاتر فتبقى بعيدة عن تياراتها الجارفة.
عالم خيالي
في بعض صفحاته ستكتب ليلي جزءا من تاريخ علاقة مختلة بين السود وأجهزة
الشرطة والقضاء، وستبين لنا أحداثها المنقولة بصريا مدى جودة الشريط
الدرامي الذي استوعبها وعبر عنها بشكل مدهش ليرتقي الى شريط متكامل البنيان
السينمائي، يعرض علينا بعدسة مرهفة وبكادرات رائعة، معاناة الزنجيات مع
رجال الشرطة ومع مسخرة اسمها العدالة. ومع كل ذلك أبقين على توازن الحياة
داخل بيتهن سليما. لقد صنعن منه «يوتوبيا» أو عالماً خيالياً على الأرض،
وبنين فيه كنيسة خاصة لهن. لقد صنعن عالما من العدل لم يعرفه الخارج
الفاسد. كتبت عنه ليلي كتابا، سطرت فيه تجربتها مع السود وكيف كانوا أكثر
رحمة من أبناء جلدتها عليها، وكيف صمدوا في وجه العسف وأجبروا الآخرين على
قبولهم وقبول تبنيهم طفلة بيضاء لم تعرف من الحنان إلا حنانهم. ولهذا خضع
الجميع لحقيقة الأمر، فخرجت ليلي من بيتهن متعلمة وصانعة عسل ماهرة سيتذكر
متذوقوه ان مكان صنعه قد جمع بشرا، لم يميز بين بشرتهم، انه مكان صنع الناس
فيه عسلا حلوا، بعدما تعلموا شيئا قليلا من «الحياة السرية للنحل» أو ما
يقابلها: الحياة التضامنية للبشر!
الأسبوعية العراقية في
26/04/2009 |