لم يكتب كلينت ايستوود بنفسه، قصة فيلمه الجديد «غران تورينو» ولا سيناريو
الفيلم، بل انه لم يتدخل حتى في أي من حوارات الفيلم. فهو، بعد كل شيء، ليس
كاتباً لأي من أفلامه. انه مخرج فقط في معظم الأفلام الكبرى التي حملت اسمه
منذ زمن بعيد... ويحدث له بين الحين والآخر أن يقوم ببطولة الفيلم. وهذه هي
الحال في «غران تورينو». فلماذا، إذاً، يبدو هذا الفيلم والى حد بعيد كأنه
سيرة ما لإيستوود نفسه؟ لم يغمر المرء هذا الشعور حتى وإن كان يعرف مسبقاً
انه كان ثمة آخرون مرشحون لإخراج هذا الفيلم، وغيرهم مرشحون للعب دور
البطولة فيه؟ ولم يشعر المتفرج الآن، بعد أن يشاهد «غران تورينو» أنه كان
من المستحيل صنعه من دون كلينت ايستوود، مخرجاً وممثلاً؟
ليس سهلاً الجواب عن هذه الأسئلة. الأسهل القول إن هذا الفيلم يبدو وكأنه
صُنع من أجل هذا الرجل. ويبدو وكأنه وصيته السينمائية، بل الإنسانية حتى.
فـ «غران تورينو» يشبه كلينت ايستوود أكثر مما يشبه أي فيلم آخر أي صانع
له. ولعل تتبعاً ما لمسار كلينت ايستوود السينمائي، منذ كان يلعب أدوار
المفتش «هاري القذر» على شاشة عنيفة قبل عقود من السنين، وصولاً الى أفلام
له مفعمة بالإنسانية مثل «طفلة المليون دولار» و «نهر المستيك»، يدفعنا الى
المقارنة مع مسار الشخصية المحورية التي يلعبها ايستوود في «غران تورينو»،
وكيف تحولت هذه الشخصية من التعبير عن شخصية تقف عند حدود العنصرية وكراهية
البشر، الى شخصية مختلفة تماماً: متسامحة، تقبل الآخرين، تترك إرثاً لمن هو
مختلف. في اختصار، يبدو كلينت ايستوود هنا، ليس كمن ايقظ «هاري القذر» من
سباته العميق، بل كمن اراد أن يتوب عما اقترفه «هاري القذر» في الماضي، عبر
تضحية أخيرة في سبيل خير الآخرين... حتى وإن كانت التضحية محسوبة بدقة...
وحتى وإن كان الآخرون، ليسوا آخرين تماماً. وكي لا يبدو هذا الكلام أشبه
بالكلمات المتقاطعة، لا بد من وقفة عند موضوع «غران تورينو»، وشخصية بطله
والت كوالسكي.
لعل أول ما يستوقفنا في هذا الفيلم هو انه يفتح على جنازة، وينتهي على
جنازة: الأولى لزوجة والت التي ترحل تاركة إياه وحيداً، على جفاء مع ابنيه،
موصية القسيس الشاب بأن يقنعه بالاعتراف، لتأكيد مسيحيته وإيمانه، والثانية
لوالت نفسه وقد أثبت مسيحيته في شكل آخر تماماً، في شكل غير متوقع، يكاد
يكون مرتبطاً بفداء السيد المسيح. على «غران تورينو» يسيطر اذاً حس إيماني،
حقيقي وداخلي، نعرف أنه حاضر في سينما كلينت ايستوود منذ زمن بعيد.
انقلاب بين جنازتين
بين الجنازة الأولى، الافتتاحية، والثانية، الختامية، يحدث إذاً في حياة
والت ذلك الانقلاب الذي يحوله من نافر من البشر كاره لهم، عنصري عنيف منطو
على ذاته، الى انسان يدفع حياته ثمناً لـ «سعادة» الآخرين، تماماً كما
يدفعه الى أن يترك أعز ما يملك في هذا الوجود (كلبه وسيارته الأثرية)، لفتى
آسيوي تبناه بعد خصام وصار له بمثابة المعلم، قبل أن ينتقم له من أشرار هم
بدورهم آسيويون. ولعل هذه النقطة الأخيرة جديرة بأن تذكر، لأن فيها إنقاذاً
للفيلم من ديماغوجية الانقلاب الكلي في حياة والت ومواقفه. فهو لم يبدل
عنصرية بعنصرية مضادة. كذلك لا بد من أن نذكر في هذا السياق، انه – في
نهاية الفيلم – لم يضحِّ بحياته تماماً، بل وهو عارف أنه مريض وميت لا
محالة. والحقيقة أن هذين البعدين ينقذان الموضوع من مطب كان يمكن أي فيلم
من النوع نفسه أن يقع فيه.
من ناحية مبدئية، ينقسم الفيلم الى قسمين: في أولهما يطالعنا الوجه القديم
لوالت، وإن في قالب يبدو أقرب الى الكوميديا. فهو يرفض كل محاولات ابنيه
للتقرب منه. ويرفض محاولات القسيس الشاب لجرّه الى الاعتراف. ويرفض الواقع
الذي جعل كل جيرانه البيض يرحلون ليحل مكانهم، في الحي العمالي في ضاحية
ديترويت، آسيويون يعتبرهم هو، أدنى من البشر، غير متنبه أول الأمر الى
الفروق في داخل صفوفهم، ولا حتى الى كون جيرانه أنفسهم، انما يدفعون
بهجرتهم الى الولايات المتحدة، ثمن وقوفهم الى جانب الأميركيين في حرب
فيتنام، هم الذين ينتمون الى قبائل آسيوية تعيش بين لاوس وكامبوديا وفيتنام
واضطروا الى مبارحة ديارهم بعد هزيمة أميركا في الحرب. وطبعاً، ما كان يمكن
أميركياً عادياً – من أصل غريب هو الآخر، أصل بولندي، حتى وإن كان لونه
الأبيض يجعله يعتبر نفسه أصيلاً هنا! – مثل والت، خاض حرب كوريا وكان بطلاً
فيها، ثم عمل في مصانع فورد، حتى تقاعده، لتبقى له من كوريا أوسمته وحكايات
بطولته، ومن عمله مع فورد، سيارة الـ «غران تورينو» التي يعتني بها يومياً
كتحفته الباقية، أن يفهم أولاً أن جيرانه الآسيويين بشر، وطيبون، وثانياً،
ان لهم الحق في الحياة مثله تماماً... طالماً أن أميركا هي، أولاً وأخيراً،
أمة مهاجرين؟
ترى، انطلاقاً من هذا البعد الأخير، ألا يحق لنا أن نعتبر «غران تورينو»
أول فيلم هوليوودي في عصر أوباما؟ والحقيقة أن اختيار الكاتب أن يكون والت
كوالسكي بولندي الأصل، يشي بهذا تماماً. ولكن ليس هذا هو المهم هنا. المهم
هو أن والت بعد طرده كل الذين يحاولون الدنو منه، وإصراره على العيش وحيداً
مبدياً كراهيته لولديه، ورفضه للقسيس، ونفوره من «البرابرة» الصفر، يروح
ممضياً أيامه وحيداً لا يرافقه شيء أو أحد إلا سيارته التي أعارت الفيلم
اسمها الزجاجات، وكلبه الوفي. بيد أن هذا لن يدوم لأن مشاكل تحدث لجيرانه،
بفعل عصابة من أقاربهم تحاول اجتذاب ابن الجيران الفتى للعمل معها، بدءاً
بمحاولة سرقة سيارة والت العزيزة، وبفعل شتى ضروب العنصريات الأخرى التي
تطاول امام ناظري والت، شقيقة ذلك الفتى، ما يدفع والت الى التدخل، في كل
مرة رغماً عنه، خصوصاً أن والت يضبط الفتى في كاراج بيته يحاول سرقة
السيارة... كل هذا كان لا بد له من أن يفعل فعله في والت، حتى من دون أن
يرغب هو في ذلك، ولا سيما بعد أن يعتبر الجيران الصفر والت بطلاً، اثر
انقاذه ابنتهم من براثن العصابة، فيبجّلونه، ويغمرونه بالهدايا، ويدعونه
الى احتفال منزلي، يحدث له فيه أن يشعر انه في مكانه الصحيح متنقلاً بين
طعام وطعام وغرفة وغرفة، ولكن في الوقت، الذي يبدأ إدراك انه سيرحل عن هذا
العالم قريباً، إذ بدأ يبصق دماً.
وصية بطل يحتضر
انطلاقاً من هنا يبدأ القسم الثاني من الفيلم، القسم الذي يبدأ فيه والت
انفتاحاً، إن لم يكن على كل الآخرين المختلفين، فعلى الأقل على الفتى تشاو،
الذي تجبره عائلته على العمل لدى والت تعويضاً على الشر الذي اقترفه في حقه
حين حاول سرقة سيارته، وعلى شقيقته سو، التي تبدو وكأنها الآخذة بيد والت
في الطريق التي تقوده الى الإنسانية، هي التي تكاد تختصر في جملة واحدة
وضعاً اجتماعياً بأسره، إذ تقول له إن ما يحدث في هذا البلد هو أن الفتيات
الآسيويات يذهبن الى المدرسة، فيما يذهب الفتيان الى السجون!
شيئاً فشيئاً، إذاً، يبدأ والت بتقبل هذين المختلفين، وبحمايتهما، هو
المحتاج أصلاً الى الحماية والحنان. وبالتدريج يتصالح مع نفسه وحتى مع
إيمانه من طريق انفتاحه على القسيس. انه هنا، يشعر وربما للمرة الأولى منذ
زمن طويل، انه منفتح على البشر ويحس أنه، حتى، مستعد لدفع الثمن.
وتلوح له الفرصة حين تهاجم العصابة الآسيوية الفتى، ثم شقيقته انتقاماً
منه، أمام عجز كل الآخرين عن التدخل. وهذا العجز هو الذي يبدو لنا أول
الأمر وكأنه سيبعث «هاري القذر»، المنتقم من الأشرار في أفلام مثّلها
ايستوود قبل أكثر من ثلث قرن، الى الحياة. كل شيء هنا يشير الى أن هذا لو
حدث في الفيلم لهبط به فوراً من عليائه. لكن الذي يحدث هو شيء آخر، هو تلك
القلبة المسرحية، التي تحول عنف «هاري القذر»، الى فداء مسيحي خالص.
تغيير في مسار حياة
طبعاً لن نقول هنا ماذا يحدث، لأن في قوله نسفاً لعنصر التشويق الأساس في
«غران تورينو». نقول فقط ان تصرف والت الأخير، هو الذي يعطي الفيلم قوته
وقيمته، ويؤكد كم ان ايستوود حريص على أن يقول – حتى في فيلم لا يملكه كله
-، خلاصة مسار حياته، هو الذي بعدما عُرف كيميني متطرف، حقق في السنوات
الأخيرة بعض الأفلام الأقل يمينية والأقل تطرفاً في تاريخ هوليوود الحديث –
راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -، ان يقول كمّ التغير الذي حدث لديها.
وصيته الفنية والإنسانية، التي قد تكون اللقطة الأخيرة في الفيلم تلخيصاً
حرفياً لها: حيث، بعد أن يدفن والت كوالسكي، وبعد أن يفتح المحامي وصيته،
نكتشف، ويكتشف ابناه انه لم يترك لهما شيئاً، كما انه لم يترك، حتى سيارته
«غران تورينو» لحفيدته التي كانت تريد الحصول عليها بأي ثمن، ونرى في
اللقطة الأخيرة، الفتى تشاو وهو يقود السيارة التي تركها له والت، سعيداً،
حراً، والى جانبه الكلب الذي كان من أعز المخلوقات الى الراحل العزيز. فهل
علينا أن نواصل لشرح رمزية هذه اللقطة، في بلد سيفخر الآن كثر من أبنائه،
بأن من تسلم الحكم فيه، مهاجر أفريقي أسود؟
في هذا المعنى، إذاً، قد يمكن القول إننا هنا أمام أول فيلم هوليوودي ينتمي
الى عصر أوباما... أي الى أميركا الجديدة، وقد ولدت من رحم أخرى، كانت في
حاجة الى من يعلمها درساً ثميناً في الحياة، في التسامح وفي قبول الاختلاف.
صورة جانبية للفاشي تحوّل مناصراً للتقدم ومخرجاً طليعياً
لم يكن المخرج الإيطالي الراحل سرجيو ليوني، فاشياً... بل كان ضمن منطق
فكره السياسي، أقرب الى اليسار الليبرالي، ومع هذا كان هو من وضع «حجر
الأساس» لواحدة من أكثر الشخصيات البطولية فاشيةً في تاريخ الفن السابع.
ونعني بها شخصية راعي البقر «الذي لا اسم له»، والتي أطلقت شهرة الأميركي
كلينت ايستوود في العالم كله، بصفته بطلاً – مضاداً، في ثلاثية أفلام
«الدولارات» – «من أجل حفنة من الدولارات»... الخ -. منذ شاهد العالم فيلم
رعاة البقر الإيطالي هذا، صار كلينت ايستوود نجماً مفضلاً لدى الملايين،
بنزعته العنيفة الى الانتقام، ومعاركه التي ينتصر فيها دائماً وحواراته
النادرة ونظرة عينيه النارية. والحال ان ايستوود حين عاد، إثر ذلك النجاح
العالمي الكبير، الى وطنه الأصلي، الولايات المتحدة، مختتماً مساهمته
الرئيسة في نوع من السينما أطلق عليه اسم «سباغيتي وسترن»، نقل معه ملامح
تلك الشخصية نفسها، انما تحت قناع جديد، هو قناع المفتش هاري الملقب بـ «هاري
القذر» المنتقم، أيضاً، من الأشرار بعنف، وصاحب النظرات النارية والمتخطي
القانون وأي أعراف انسانية. وهكذا بعد مجده الإيطالي – العالمي، كوّن
ايستوود لنفسه مجداً أميركياً كبيراً. لكنه كان مجداً مضاداً، إذ صار هذا
الممثل العملاق يعرف بيمينية جهزته تماماً لخلافة جون واين، كما وضعته
لاحقاً في صف واحد مع أصحاب العضلات من نجوم العنف اليمينيين، من أمثال
ستالوني وشوارزينغر، فصار بدوره هدفاً سهلاً للنقد اليساري والليبرالي.
غير أن هذا التاريخ كله يبدو اليوم بعيداً. وعلى الأقل منذ حدثت «معجزة
صغيرة» في حياة ايستوود ومساره المهني حولته من نجم شعبي، الى مخرج طليعي،
يعتبر اليوم من كبار هوليوود، تشهد على هذا سلسلة أفلام أخذت مكانها
تدريجاً في تاريخ السينما وصار بعضها من الكلاسيكيات، كما تشهد عليه جائزتا
أوسكار أفضل اخراج... بل أيضاً احساس ايستوود ونقاد وسينمائيون كثر معه،
بأنه في الحقيقة يستحق أكثر من ذلك. وإيستوود على رغم صمته الأسطوري لا
يتوقف عن التعبير عن ذلك، وكان آخر تجليات هذا التعبير، غضبه في الدورة
الأخيرة لمهرجان «كان» حين لم يفز فيلمه «الابدال» بالسعفة الذهبية التي
كانت متوقعة له، فأعطي بدلاً منها جائزة تكريمية تباطأ شهوراً قبل قبولها،
وكذلك غضبه قبل أسابيع قليلة حين لم يفز فيلمه «غران تورينو» بأي أوسكار.
دهشة
غير أن هذا الغضب سيتحول بالتأكيد، الى دهشة حين نتذكر ان ايستوود الذي
مثّل في ما يربو على سبعين فيلماً حتى الآن، لم يفز بأي أوسكار لأفضل ممثل،
هو الذي يعرفه الملايين نجماً تمثيلياً كبيراً، أكثر مما يعرفونه مخرجاً.
بالنسبة الى هؤلاء، ايستوود، هو منذ ما قبل بداية سبعينات القرن العشرين،
اسم حاضر بقوة بين كبار نجوم هوليوود، بل هو حتى اليوم الأكثر استمرارية في
أدوار البطولة بين أقرانه. ومع هذا، ها هو يُعامَل نقدياً ومهرجانياً كمخرج
كبير يكاد يصبح اسطورياً، أسطورية جون فورد وغريفيث وسيسيل بي. ديميلى، أو
حتى جون هستون... في انتظار مزيد من الأعمال قد تضعه يوماً في صفوف أورسون
ويلز، هتشكوك وكوبولا. والحقيقة أن هذا لا يبدو بعيداً جداً من المنطق، لمن
يتأمل ما حققه ايستوود خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، من أفلام يختلط
فيها الذاتي بالعام، وحسن التمثيل بقوة الإخراج، ولا سيما – بالنسبة الى
هذا العنصر الأخير – في عدد لا بأس به من أفلام أخرجها من دون أن يمثّل
فيها (مثل «نهر المستيك» و «بيارق آبائنا» و «رسائل من أيوجيما»... وبخاصة
«الإبدال»). أما حين يجمع ايستوود التمثيل الى الاخراج (كما، مثلاً، في
«الفارس الشاحب» و «الطريق الى ماديسون» و «طفلة المليون دولار» والأخير
«غران تورينو» الذي عاد فيه الى التمثيل بعد سنوات)، فإنه بالتأكيد يقدم
أعمالاً استثنائية وأدواراً أكثر استثنائية. ويعرف متابعو هذه الأفلام، أن
ايستوود انما اختار أن يلعب فيها أدواراً تكاد تصور شخصيته الحقيقية
وأسئلته وقلقه حول مسائل وجودية باتت تشغل باله في السنوات الأخيرة، مثل
الموت والشيخوخة والصداقة ثم، أخيراً، وعلى الأقل في ثلاثة أو أربعة أفلام
أخيرة: المسألة العنصرية وقبول الآخر وقضية الاختلاف، مركزاً وإن في أشكال
مواربة، أحياناً، على توجيه نقد حاد، الى مواقف أميركية عنصرية ترفض الآخر
وتخشى الاختلاف. وهنا، في هذه النقطة بالتحديد يكمن، في الحقيقة، ذلك
الانقلاب الكبير، الذي نقل أحد كبار مؤيدي نيكسون وأصدقاء ريغان ومختار
بلدة كرمل الكاليفورنية لفترة من الزمن شهدت عنف الشرطة في البلدة، الى صف
وضعه ذات يوم على مجابهة مع بوش، أباً وابناً، وجعله جزءاً من حلقة فنانين
يجاهرون بمواقفهم اليسارية التقدمية المشاكسة (أعطى، مثلاً، شون بن الدور
الذي وفر له أول أوسكار مهم عن فيلم «نهر المستيك» ويعتبر صديقاً لتيم
روبنز وسوزان ساراندون)، كما انه جعله يختار من المواضيع ما لا يتوافق مع
الطروحات اليمينية الفاشية (من قبوله بفكرة الموت الرحيم في «طفلة المليون
دولار»، الى رفضه شيطنة العدو الياباني في «رسائل من ايوجيما» وعدم مبالاته
بفكرة الوفاء الزوجي لدى الطبقة الوسطى في «الطريق الى ماديسون»، وانتقاده
النزعة القومية القائمة على التكاذب المشترك، في «بيارق آبائنا»... وصولاً
اليوم الى مجابهة – داخلية ومع الذات – للعنصرية الأميركية البيضاء، في
«غران تورينو»).
لقد كُتب الكثير وقيل الكثير أيضاً عن هذا التحول الكبير في حياة كلينت
ايستوود وأفكاره، وثمة في الأوساط السينمائية الأميركية نقاشات حول هذا
الأمر، بل ثمة من لا يصدق ان ايستوود تغير (شهيرة حكاية الاتهام الذي وجهه
سبايك لي قبل عامين لإيستوود بأنه تعمد ألا يضع جندياً أسود بين الجنود
الأميركيين الذين رفعوا العلم الأميركي فوق جزيرة ايوجيما في «بيارق
آبائنا»، فكان رد ايستوود عنيفاً وبسيطاً: «لم يكن بينهم في الحقيقة جندي
أسود». واليوم، مع «غران تورينو»، هل يجرؤ لي على توجيه مثل هذا الاتهام
التبسيطي لإيستوود؟).
مسار
وطبعاً، يمكننا ان نقول مرة أخرى، في ختام هذا الكلام، إن كل هذا التبدل،
لم يكن متوقعاً في حياة ومسار عمل هذا الفنان الذي ولد العام 1930، في سان
فرانسيسكو، لكنه عانى كثيراً في بداياته، عام 1955، حين سعى الى مكان ما،
بين ممثلي هوليوود فجوبه بالرفض، وبأدوار هي أشبه بأدوار الكومبارس، في
التلفزة بخاصة، حتى أتيحت له الفرصة عند بداية الستينات من القرن الماضي،
حين لفتت قامته ونظرة عينيه الصافية الزرقة، أكثر من فنه وأدائه بكثير،
قوماً كانوا يبحثون لمخرج ايطالي شاب وطموح، عن ممثل أميركي لأفلام رعاة
البقر الإيطالية التي صارت على الموضة في ذلك الحين. وهؤلاء لم يكونوا، على
أي حال يعرفون أن ثمة في داخل ذلك الشاب الصموت، طموحات كبيرة. أما هو
نفسه، فإنه على الأرجح، لم يكن يعرف أن تلك الطموحات ستقوده الى الاخراج،
حتى وإن كان سيفاجئنا ان نعرف هنا انه حقق فيلمه الأول – والذي أضحى
كلاسيكياً على أي حال – عام 1971، أي فور عودته من ايطاليا مكللاً بنجاح
شعبي. كان الفيلم «العب ميستي من أجلي»، الذي مثله وأخرجه. وبعد ذلك واصل
ايستوود طريقه، اخراجاً وتمثيلاً... الطريق التي امتلأت بعلامات في
المجالين، من الصعب هنا وضع لائحة بها، إذ على مدى أكثر من نصف قرن حتى
الآن مثّل كلينت ايستوود عشرات الأفلام، وأخرج ما يعادل فيلماً كل عامين
(الآن حقق 4 أفلام في عامين، على رغم انه يقترب حثيثاً من الثمانين من
عمره!)، وخاض في العمل السياسي، وشارك في السجالات الهوليوودية الكبرى...
لكنه في خضم ذلك كله، عرف كيف يحيط حياته الخاصة بكل أنواع الاحتشام، فلم
نعرف له مغامرات نسائية، ولا مشاكل عائلية ولا حتى مواقف يتصدى فيها
للآخرين، وإن كان بدا دائماً – مثل أبطاله – عنيفاً حين يُستفز، وعنيداً
حين يرى أنه على حق... ومن يتابع مسيرة كلينت ايستوود وحياته، خلال السنوات
الأخيرة، قد لا يفوته أن يلاحظ أنه على حق في معظم الأحيان، بل حتى حين
ينتقد نفسه ومواقفه ويعيد النظر في تاريخه كما يفعل في «غران تورينو».
الحياة اللندنية في
27/03/2009 |