البناء الزمني في فيلم "حياة بالوردي"
في مقال سابق تناولت الفيلم الفرنسي "حياة بالوردي" انتاج 2007، اخراج
اوليفيه دهان، الذي كان بمثابة سيرة ذاتية للمطربة اديث بياف جسدتها
الممثلة الفرنسية (ماريون كوتيار)، وهنا سأفرد المساحة للحديث عن البناء
الزمني المتميز في هذا الفيلم.
شظايا حياة
من اين يمكن ان يبدأ فيلم يتناول حياة اسطورة كاديث بياف، أمن لحظات النجاح
او من البدايات الاولى او من سن الطفولة؟ وان كان فوفق اي ترتيب زمني ؟
16شباط 1959، هو اليوم والعام الذي بدأت تلوح فيه مشارف نهاية بياف المهنية
والشخصية والصحية، حين هوى جسدها على المسرح وهي تغني في نيويورك، بفعل
ادمانها المهدئات، وهذا هو الحدث والتاريخ الذي اختاره كل من المخرج
والكاتب كي يبدأ به المشهد الاول من الفيلم، وكأن بعد انهيار جسد بياف هذا
سينهار ويتكسر ايضا البناء الزمني في الفيلم ولن ينحى باتجاه واحد افقي الا
مع اقتراب النهاية وله سببه ايضا.
بعد مشهد سقوط بياف يتم الانتقال عبر موسيقى ناعمة طفولية للمشهد الثاني
الذي يعود الى العام 1918، الى اديث في مرحلة الطفولة الاولى، ونشأتها في
اسرة فقيرة ومتشظية؛ أب بعيد عن المنزل ودائم الترحال تبعا لطبيعة عمله في
سيرك متجول، وأم تغني في الشارع وغير راغبة في تحمل مسؤولية ابنتها اديث
وغير مكترثة لها، واديث تعاني من الوحدة والاهمال.
تواصل الانتقالات الزمنية سيرها المتقطع الى الامام والخلف على امتداد
الفيلم، وتصل بمجملها الى 24 انتقال زمني، مبنية كمقطوعة موسيقية مقسمة الى
ثلاث حركات بينها نسبة وتناسب: الاولى تتكون من 12 انتقال، ثم تتناقص في
الثانية الى 8 انتقالات، والثالثة الى 4 انتقالات، يتم التعرف على
الانتقالات الزمنية من خلال الكتابة مع بداية اغلب الانتقالات، ومع
الملاحظة المتأنية للفيلم يمكن اكتشاف انها انتقالات ليست عشوائية، انما
هناك ناظم لهذا البناء الزمني المتشظي، يمكن التقاط العلاقة التي تربطه
ببعضه البعض.
من سقوط بياف على المسرح في شباط1959، الى موتها في تشرين الاول 1963، شكلت
الاربع سنوات هذه مرحلة بداية الانهيار ثم الموت المبكر لبياف، وهي مرحلة
مهمة لذلك اختار المخرج ان يعبر عنها بان تشكل محورا رئيسيا ومهما في
البناء الزمني في الفيلم، يشاركه في الاهمية محور ثاني يعبر عن مجموعة
الاسباب والظروف التي شكلت شخصية بياف وطبعت حياتها بالبؤس والحزن، منذ
طفولتها المبكرة الى مماتها، واوصلتها الى ما نراه في المحور الاول الذي هو
بمثابة النتيجة للمحور الثاني (الانهيار والموت المبكر).
واختار المخرج ان يسير هذان المحوران بشكل متبادل ومتقاطع وفق ايقاع منتظم
ويحكم هذا الايقاع نقاط تحول وانعطاف في حياة بياف المهنية والشخصية، فبدأ
المشهد الاول الذي يمثل المحور الاول بداية مرحلة انهيار بياف (كنتيجة)،
يعقبه المشهد الثاني الذي يمثل بداية المحور الثاني (الاسباب) معاناة بياف
وشعورها بالوحدة في مرحلة الطفولة الاولى ثم ايداعها في منزل الدعارة التي
تديره جدتها واعتناء احدى المومسات بها، ثم يعود في الانتقال الثالث الى
المحور الاول وبياف تسجل احدى اغانيها في الاستديو بعد ثلاثة اشهر من
سقوطها على المسرح، وثم ينتقل في الانتقال الرابع من جديد الى مرحلة
الطفولة وانتقالها من بيت الدعارة للعمل بالسيرك المتنقل مع والدها، تكمن
اهمية هذا التناوب بوضع على التوازي النتائج والاسباب امام المشاهد لفهم
خلفية الحالة التي وصلت لها بياف، لذلك كانت المشاهد التي تتناول اخر اربع
سنوات من حياتها تتراوح بين دقيقة واربع دقائق في اقصاها، بينما المشاهد
التي تتناول المحور الثاني كان يتم التوقف عندها اكثر لوظيفتها التوضيحية
وتتراوح بين اربع دقائق في الحد الادنى الى 18 دقيقية في اقصاها.
سيواصل المحور الثاني سيره وفق ترتيب كورنولوجي للزمن منذ الطفولة الى
الشباب وبداية الشهرة الى قمة النجاح ثم بداية السقوط، بالتعاقب مع المحور
الاول الذي لا يخضع سيره لترتيب كورنولوجي انما يخضع لوحدة الفكرة (مرحلة
الانهيار)، ويستمران بالتعاقب وفق ايقاع منتظم (مشهد بمشهد)، وعدد هذه
الانتقالات في الحركة الاولى من الفيلم تبلغ 12 انتقال، مقسمة 6 للمحور
الاول بالتناوب مع 6 للمحور الثاني، الى لحظة بداية مرحلة جديدة في حياة
بياف بداية الحركة الثانية، وهي بداية الاحتراف والمجد والشهرة الواسعة
عالميا، كذلك بداية الحب الوحيد في حياتها، هذان الحداثان سيؤثران على
ايقاع تناوب المحورين فيبتعد عن الانتظام والرتابة ويقترب من الحيوي رغم
بؤس حياة بياف والحزن والوحدة التي تسكنها، حتى وهي في قمة نجاحها مما ادى
بها الى ادمان الخمر والمهدئات، فيصبح ايقاع الانتقال (ثلاثة مقاطع بثلاثة
مقاطع) تمثل الثلاثة مقاطع الاولى على الترتيب (بداية الاحتراف، قمة
الشهرة، بداية الحب)، ثم الثلاثة مقاطع التالية على الترتيب (بياف مريضة
ووحيدة في نهاية حياتها 1963، وهي تسقط على المسرح مرة اخرى 1959، وهي
وحيدة ومريضة ووحيدة من جديد1963)، ثم (مقطع بمقطع) الاول استطراد للحب،
والثاني وهي مريضة بالمستشفى في نهاية حياتها.
الحياة اذ تأبى ان تمنح بياف القليل من الحب والسعادة، فتتوالى عليها
المآسي وصولا الى الذروة، لحظة سقوط الطائرة التي كانت تقل حبيبها مارسيل
للقائها في العام 1950، هذا التاريخ والحدث الجلل في حياة بياف يجعلها
تضاعف من ادمانها للمهدئات ليصبح بمعدل عشر ابر مهدئة في اليوم الواحد كي
تنسى ولكنها لم تنسَ، وللاثر العميق الذي تركه حادث موت حبيبها على حياتها،
يفقد هنا البناء الزمني ايقاعه المتناوب بين المحاور، ويشكل هذا الحدث
نهاية الحركة الثانية المتكونة من 8 انتقالات زمنية، بعدها يلتقي المحوران
عند هذا الزمن 1950 من ثم يمتزجان معا في ترتيب كورنولوجي تشكل الحركة
الثالثة والاخيرة، فكأن الزمن قد توقف عن النبض ومات بالنسبة لبياف مع موت
حبيبها، فواصل سيره بشكل افقي الى مماتها في اخر مشهد، لكنه في هذه اللحظة
يعود ويتشظى وهي تستذكر على فراش الموت احداث واشخاص مهمين من ماضيها.
أدب وفن في
27/03/2009 |