أخيرا ينبثق نور باهر من قلب كل هذه الظلمات السينمائية ليقول لنا بوضوح
جلي ان السينما في مصر ما زالت تتنفس، إنها ما زالت قادرة علي أن تقف بشموخ
وكبرياء تجاه جميع التيارات التي تتقاذف السينما العالمية .. وان تثبت
وجودها بقوة وان تبرهن أن الدماء النقية مازالت تجري في عروقها، ومازالت
قادرة علي أن تعيد الحياة للجسم الميت.كاملة أبو ذكري اثبتت في فيلمها
الأول «ملك وكتابة» انها مخرجة متمكنة عرفت كيف تتعلم حرفتها وكيف تمارسها،
وقد أثبت فيلمها القصير الذي قدمته في سنة تخرجها من المعهد، فيلما متألقا
كالجوهر صافيا كماء النبع .. علي عميق نظرتها السينمائية وحسن اختيارها
وحساسيتها العالية.ملك وكتابة رغم أنه لم يحظ بالنجاح الجماهيري الكبير
الذي يستحقه، استطاع أن يضع اسم كاملة أبو ذكري في مكانة عالية من التقييم
وجعلها محط آمال كبيرة لسينما الشباب التي نتمناها ونسعي إليها ونقف إلي
جانبها دون تحفظ.وإذا كان العشق والهوي فيلمها التالي قد أصابنا بشيء من
خيبة الأمل، لكن رغم التباين الواضح بينه وبين «ملك وكتابة» فإنه يبقي
فيلما مهما يتسم بالجدية والاخلاص، واستطاعت المخرجة الشابة أن تؤكد فيه
قدرتها علي إدارة الممثلين واستخراج أقوي ما عندهم مهما كانت طبيعة الدور
الذي يلعبونه.ولكن ها هي كاملة أبو ذكري في فيلمها الأخير «واحد - صفر»
تضرب ضربتها الكبري وتثبت جدارتها وأحقية كونها واحدة من خير مخرجي مصر
الشباب وأكثرهم تحكما بأسلوبهم ونظرتهم إلي السينما.اعتمدت أبو ذكري هذه
المرة علي سيناريو بارع كتبته لأول مرة «مريم نعوم» وفازت من أجله بالجائزة
الأولي في مسابقة السيناريو التي نظمها نجيب ساويرس والتي تتحدث عن ليلة
فاصلة من ليالي القاهرة ليلة فوز منتخبنا القومي بكأس الأمم الافريقية الذي
احتفل به الشارع المصري احتفالا جماهيريا طغت فيه الفرحة علي كل شيء،
واسدلنا ستارا من النسيان علي مآس كثيرة عاشها هذا الشارع وما زالت تنبض
قاسية في شرايينه.في هذه الليلة التي تبدو كأنها لا تنتهي تبدأ باللهفة
والترقب وتسود ساعاتها الاحتمالات والتكهنات وتنتهي بالفرحة العارمة التي
تبدو كسد منيع انهارت جدرانه وانطلقت مياهه المحبوسة لتغرق كل شيء
أمامها.في هذه الليلة الليلاء تتفجر وتضيء اقدار فئة من الناس رجالا ونساء
يعيشون ازماتهم وعواطفهم وأحلامهم وأحباطاتهم ... ويواجهون قسوة المجتمع
والسلطة والقانون وخصوصا قسوة الآخرين في مجتمع بدأ يفقد أولي مقوماته وهي
التكاتف والحنان والتآزر.هذه المرأة التي تجاوزت الأربعين، والتي تحلم بطفل
يؤنس وحدتها القادمة لاحساسها بأن علاقتها مع المذيع الشاب لابد لها أن
تنتهي يوما وتتركها للفراغ الأليم الذي ينتظرها والذي تعرف في أعماقها أنها
لن تستطيع الفكاك منه.وعندما يتحقق حلمها المستحيل وتحس بنبض الحياة في
احشائها لا تستطيع أن تكمل فرضها فهي مسيحية يستعصي عليها الطلاق حسب أحكام
الكنيسة التي تتبعها وهي تحتاج إلي غطاء شرعي لمولودها القادم يوفره لها
زواجها من هذا المذيع السكير الذي لا يحس بأزمتها ولا يبالي بها.علاقة
عاطفية وجسدية تعيش أيامها الأخيرة ولكن يحييها فجأة هذا الحدث السعيد الذي
طالما آمنت به هذه السيدة وعقدت حوله أمالها كلها.إلهام شاهين تقدم في هذا
الدور واحدا من أدوار عمرها يضاف إلي جوهرة أدائها في «أيام الغضب» تحلق
فيه إلي آفاق من الجودة والتأثير، قلما وصلت إليها في أفلامها الأخري.وتثبت
أنها قد أصبحت كالخمر المعتق تسكر وتبعث النشوة وتحيل كل ما حولها إلي
ضياء.خالد أبو النجا في دور العشيق اللامبالي السكير الذي يتقوقع علي نفسه
ويختال كالديك الرومي متناسيا «الفراغ» الذي يملأ نفسه وعجزه عن الحب
والاحساس الصادق وسقوطه المرتقب في ظلام ينتظره وتحول إلي قدر لا يمكنه
الفكاك منه.أبو النجا يتقدم خطوات كثيرة علي طريق النجومية .. وقد أمسكت
كاملة أبو ذكري بالوتر الصحيح في موهبته وعرفت كيف تعزف عليه ألحانها
النشوانة وجعلته يغرد كما لم يغرد قبلا في أي من أفلامه السابقة.المنتصرة
الكبري في هذا «الألبوم» المصور من الشخصيات الحية النابضة بالمشاعر هي
«انتصار» في دور بائعة العطور المزيفة الجوالة التي تعاني من كبت جنسي
مكتوم والتي تستغرق في نشوة مكتومة عندما يلمسها متحرش جنسي في الأتوبيس..
والتي تواجه قسوة ابنها وقسوة المجتمع بكرامة واستبسال، المرأة الشعبية
المغلوبة علي أمرها التي تصرخ رغم ذلك بملء صوتها شاكية الحرمان والظلم
والاستعباد.انتصار في هذا الدور وفي هذا الفيلم تقفز إلي مرحلة بطولية
مدهشة وتجعلنا نحلم بالأدوار الكبري التي يمكن أن تجسدها لو وجدت النص
الملائم والمخرج الذكي المتفهم.وما علينا إلا أن نذكر إلي جانب مشهدها
المدهش في الأتوبيس مشهد المواجهة بينها وبين الزبونة العربية التي تجردها
من أموالها لتشعر كم هي كبيرة «انتصار» وكم هذه موهوبة وكم اخفقنا كل هذه
السنين في اكتشاف موهبتها النادرة المتألقة .نيللي كريم ترمي جانبا كل ما
اعتادت أن تقدمه لنا سابقا لتقدم وجها جديدا متألقا بزينة الحجاب عن فتاة
فقيرة تحلم بالحب والزواج، وتختار طريقا مخالفا لطريق اختها التي باعت
روحها وجسدها لتاجر بشري وعدها بالمجد وسرق منها رحيق روحها.نيللي كريم
التي تجد نفسها دون ذنب فريسة نظام بوليسي صارم وظالم لا تعرف كيف تتعامل
معه ويجبرها علي أن تهين نفسها وكرامتها المجروحة وهي لا تملك من أمر نفسها
شيئا.رقة نيللي كريم وتقاطيع وجهها الذي يعبر عن عمق مأساتها وهي تري أن
«النظام» الذي يفترض به أن يحميها هو «النظام» الذي يدفعها إلي السقوط إلي
أسفل.«زينة» تتجاوز نفسها في دور المغنية الراقصة الدمية التي تحركها أصابع
ابليسية وتجعلها تنسي حبها الأول الذي كان بإمكانه أن يهبها انسانيتها في
سبيل مجد زائف مشوه أحسن الفيشاوي في دور المحب السابق.. الذي ابتدأ ينسي
مبادئه في سبيل مجد زائف شوه أحمد الفيشاوي في دور المحب السابق الذي ابتدأ
ينسي.. بعد أن هجرته محبوبته ويحاول أن يكون جزءاً من هذا العالم السافل
الذي يرفع راية «الغاية تبرر الوسيلة» ولا يبالي بأن يقوم بخطواته الأولي
في السرقة والاحتيال كما يجد مكاناً له تحت الشمس.انني منذ زمن أتابع صعود
هذا النجم الشاب وأؤمن بقدراته الكبيرة وتميزه وأدرك تماما كيف ينسج لنفسه
بإحكام «ثوبا» يلائم موهبته وتنويعاتها كلها.وهو في واحد - صفر يضيف إلي
أوتاره وترا غنيا بالأحاسيس والتناقضات.كل هذه الشخصيات تحيا أمامنا في تلك
الليلة المشهودة تعيش لحظاتها الحلوة والمرة من خلال خلفية هيستريا شعبية
تنادي بالانتصار وتغرق في نشوة الفوز، بينما شخصياتنا تتهاوي واحدة تلو
الأخري في بئر اليأس والإحباط واللا جدوي.هذا التناقض المدهش بين الضوء
والظلام بين الفرحة العارمة والآهة المكتومة عرف السيناريو كيف ينسجه،
وعرفت كاملة أبو ذكري كيف تعبر عنه من خلال أدوات فنية برعت في التحكم فيها
لقائد أوركسترا ماهر يعرف أهمية كل عازف لديه، ويعرف كيف يخلق الانسجام بين
عازفين اجمعين ليصل باللحن الذي يقوده إلي أعلي درجات التأثير
والقوة.مونتاج مني ربيع الذكي المتدفق، التصوير المبهر، لوافدة جديدة شديدة
العطاء والاحساس العميق بلغة الشارع ولغة النفس الداخلية، ثم هذا الحنان
المخلوط بكثير من الشجن والذي أحاطت به كاملة أبو ذكري شخصياتها جميعا
«الأساسية منها والفرعية»، ثم هذه المواقف النابضة بالحياة التي تتوالي
أمام أعيننا المبهورة لتحلق بنا عاليا وتضرب علي أوتارنا الخفية وتجعلنا
نفتح العين والقلب معا.واحد - صفر يأتينا ليثبت لنا أننا رغم يأسنا
واستسلامنا لقدرنا الغاشم في السينما أن السينما مازالت بخير وأن شبابنا
مازال يملك القوة والشجاعة والموهبة علي أن يقدم لنا السينما الحقة التي
ننتظرها منه، والتي تجعلنا نضع إكليلاً من الغار علي رأس سينمانا الشابة
القادرة علي الصمود والتحدي.
جريدة القاهرة في
17/03/2009 |