تعد تجربة فيلم "واحد صفر" من التجارب السينمائية الجديدة المتميزة الأكثر
قربا وتفاعلا مع الواقع المصرى المعاش واليومى وتحاكى هموم اليوم والغد
وتتابع حياة الشخصيات بعفوية وبساطة دون تكلف فنى، وتستحق أن تكون ضمن
قائمة الأفلام التى يجب أن تشاهد.
فيلم "واحد صفر" دراما إنسانية لأزمنة خانقة يسودها المشاركة الجماعية فى
ارتكاب الإثم ويشوبها انعدام التواصل وقد تصدت له بحس مرهف وبلغة سينمائية
بسيطة وغير متكلفة المخرجة كاملة أبوذكرى فى تجربة يمكن اعتبارها "الأولى
لها" مع احترامنا لكل ما سبق وقدمته، حيث استطاعت أن تنسج خيوطا من التواصل
مع المشاهد ليتعاطف مع شخصياته بسرعة ساعدها سيناريو متقن البناء "لمريم
نعوم" التى نجحت فى ايجاد من اليوم الواحد والحدث الاستثنائى دراما متكاملة
تنبض بالصدق والحياة خلال قصص ثمانى شخصيات تتحرك داخل شريط الفيلم وقد
جعلها الواقع امتدادا له وصارت ـ هى ـامتدادا للواقع وتفصل بين تلك
الشخصيات تباينات وتفاوتات اقتصادية وثقافية وحدود معنوية ونفسية هائلة،
ولكن تتداخل وتتقاطع دروبهم ببعض بطريقة القطع والمونتاج، فيجدون أنفسهم
متشاركين فى المعاناة ويطاردهم جميعا هاجس هزيمة الروح ويسعون إلى إيجاد
مساحة أخرى من عوالم الروح تمدهم بطاقة القدرة على الاستمرار...، والحدث
الاستثنائى الذى يربط كل خيوط وشخصيات الفيلم بعضها ببعض هو مباراة منتخب
مصر مع غانا فى نهائى بطولة كأس الأمم الأفريقية فى غانا 2008، فالجميع كان
يستعد منذ الصباح لهذه المباراة، والأمل فى الفوز كان كبيرا باعتبار أن كرة
القدم هى أكثر أنواع الثقافة المشتركة شيوعا ويتساوى فى حبها جميع فئات
الشعب وهى الشيء الوحيد الذى أصبح يلتف حوله الناس! تقدم المخرجة بداية
استعراضية لشخصيات الفيلم الأساسية التى تترنح وتعانى طوال زمن الشريط،
نيللى كريم فتاة فقيرة ترتدى الخمار تعيش مع أمها وتعمل ممرضة وتتكسب رزقها
من إعطاء الحقن للمرضى ويقع فى غرامها حسن الذى يعمل كبائع للوجبات
الغذائية فى كويك سرفيس، أما أختها زينة التى تمردت على الفقر فباعت جسدها
من أجل المال والشهرة وأصبحت مطربة فيديو كليب شهيرة ويحتكرها "حسين
الإمام" مخرج إعلانات وكليبات شهير بهدف التربح من ورائها وترتبط زينة
بعلاقة عاطفية فاشلة بابن الحتة احمد الفيشاوى الذى يعمل كوافير فى أحد
المحلات الكبرى ولكن يتم طرده من المحل ويتصاعد خلافه مع أمه "البلانة"
انتصار التى تتكفل بمفردها بالإنفاق على البيت وتقوم بطرده من المنزل بعد
إهانته لها، وهناك أيضا المذيع التليفزيونى خالد أببو النجا الشاب الوسيم
العابس الذى يدمن الخمر ويكاد يفقد عمله لعدم مسئوليته وتقصيره المهنى،
يقيم علاقة مع إلهام شاهين وهى امرأة مسيحية ثرية تواجه تعنت الكنيسة فى
منحها تصريح زواج بعد أن حصلت على طلاقها من زوجها السابق بحكم محكمة وهى
الآن حامل فى الأشهر الأولى، يرفض المذيع فكرة الزواج ويطلب منها التخلص من
الجنين ولكنها ترفض، يصدم بسيارته المسرعة الطفل حسن والذى يعمل منادى
ميكروباص وبائعا للأعلام الذى يعيش مع جده "السايس" لطفى لبيب فى حى فقير
عشوائى.
لا يوجد فى الفيلم موضوع بمعناه الحقيقى وإنما حركة حياة لشخصيات خرجت من
رحم مجتمع مضطرب لتجاهد من أجل أن تستمر الحياة، ولكن تستطيع أن تستنشق فى
الفيلم وجهة نظر صانعيه المنحازة للمرأة فهى مازالت حبيسة الأوامر والأهواء
والأجواء وذات وضع متدن اجتماعيا وقانونيا ووجودها الدائم فى المكان غير
الملائم حيث يتم امتهان آدميتهن فى البيت والشارع والحارة وقسم الشرطة وفى
وسائل النقل العام وكذلك يحمل الفيلم بين ثناياه قدحا فى الرجال الذين
يتخلون عن مسئولياتهم ولايتمتعون بنزاهة أو كفاية ذاتية أكثر مما تتمتع بها
الشخصيات النسائية فى الفيلم، ومن أسباب تفوق فيلم "واحد صفر" السيناريو
والمونتاج النابض بالحياة لمنى ربيع والإخراج والإدارة المدهشة من كاملة
أبو ذكرى لعنصر التمثيل والتى عمدت كثيرا إلى استخدام حركة الكاميرا ذات
اللقطة الواحدة الطويلة للحفاظ على وحدة التدفق الشعورى عند الممثلين فجاء
الأداء متكاملا من الجميع الهام شاهين واحمد الفيشاوى وحسين الإمام وخاصة
من انتصار مفاجأة الفيلم الحقيقية التى كانت مقنعة بلا حدود فى جميع
المواقف الانفعالية وأيضا المدهشة نيللى كريم بأداء صادق وجديد ومغاير
تماما عليها سينقلها خطوات كثيرة للأمام، وأيضا خالد ابو النجا بأدائه
السهل الممتنع وبتركيزه وقدرته على الإيحاء، كذلك زينة تقدم نفسها بقوة فى
هذا العمل كنجمة مستقبل ذات ملامح خاصة ومتفردة ولن ينسى المشاهد القدير
المرعب محترف فن الأداء التمثيلى الرصين الفنان الكبير الساخر لطفى لبيب
حتى الشخصيات الثانوية مثل احمد كمالى والطفل الموهوب، أو العابرة مثل
شخصية بائع السندوتشات بتعبيراته السلسة والممثل الذى لعب صاحب محل
الكوافير وضابط الشرطة والأمين وبائع السندوتشات ورجل الأتوبيس كانوا جميعا
يعزفون سيمفونية الأداء الجماعى لفيلم يحترم المشاهد ويراهن عليه فى
التواصل معه ولينتهى الفيلم بمشهد الاحتفال الصاخب المهووس بالفوز بالكأس
لمئات الآلاف من الجماهير الذين خرجوا إلى الشوارع كالهدير يحمل أعلام مصر
تحول إلى ما يشبه حفل تطهير جماعى لكل فئات المجتمع الذذين تفاعلوا مع
بعضهم البعض فى نشوة فرح غامرة وحالة إنسانية نادرة ومؤقتة لعلهم ينسون
أزماتهم ومعاناتهم مع الأحداث اليومية المثقلة بالهم والغم والتكدر
وللتنفيس عن الاحباطات والرغبات المكبوتة وعن الأوضاع والظروف المحملة
بأبخرة التلوث على جميع الأصعدة. ....وليبقى السؤال الاهم هل تحب تلك
الشخصيات الوطن حقاً، أم تتوهم ذلك الحب ولا يسكنها؟ وماذا لو لم تفز مصر
بالمباراة؟ هل ستتغير مصائر تلك الشخصيات التى رضعت الصبر المرّ وابتلعته
بصمت العقلاء المبتلين؟
العربي المصرية في
17/03/2009 |