أهدي هذا المقال إلي السادة المهتمين بتأريخ السينما المصرية، والذين
يتعاملون في الكثير من الأحيان مع بعض المعلومات الأولية علي أنها ثوابت
يدافعون عنها بقوة، رغم أنها متحركة.فقد ذكرت في مقدمة موسوعتي الأخيرة عن
الأفلام العربية أن المجهول في هذه السينما لايزال كثيراً وأن الكلمة
الأخيرة لم تقل بعد، ليس فقط بالنسبة لما حدث منذ ثمانين عاماً وأكثر، بل
في الأمس القريب، فالأمر يخص هذه المرة الراحل يوسف شاهين. حيث ساقت الصدفة
بعض من يشاهدون الأفلام في الصباح الباكر أن هناك فيلما من اخراج شاهين
يحمل اسم النيل والحياة، أذاعته قناة ميلودي أفلام، مرة في الساعة الرابعة
صباحاً يوم الأربعاء 4 مارس، والمرة الثانية في السادسة والربع يوم الأحد 7
مارس الماضي..من يراجع قائمة أفلام يوسف شاهين، خاصة التي نشرتها بعض
الأقلام، أو حتي شركة مصر العالمية ضمن الأفلام التي تمتلكها، فإننا نلاحظ
أن هناك أحياناً فيلم يسمي النيل والحياة باسم شاهين من انتاج عام 1968 وأن
هناك فيلم الناس والنيل الذي عرض في عام 197, وليس هناك مصدر واحد يجمع
الاسمين معاً، فلا نعرف هل هو النيل والحياة أم الناس والنيل باعتبار أن
هناك تشابهاً واضحاً بين الاسمين.أولاً، من يتابع أحاديث يوسف شاهين في
البرنامج الطويل الذي أخرجه محمد شبل قبل سنوات، يلاحظ أن شاهين كان ينتقي
أفلاماً من أعماله ليتوقف عندها، وبدا كأنه نسي أفلاماً أخري، منها الناس
والنيل، وأيضاً فيلم رجل في حياتي، واسألوا الأستاذ كمال رمزي في هذا
الفيلم الأخير.أي أن شاهين كان يتجنب الحديث عن هذه الأفلام، وكان يحاول أن
يسقطها دوماً من ذاكرته، ومن بينها فيلم النيل والحياة بالطبع، الذي اضطر
أن يتخلص منه تماماً، وأن يعيد اخراجه باسم مختلف. واستعان في الفيلم
الجديد بمشاهد وشخصيات من الفيلم القديم، منها المشاهد التي تم فيها تحويل
مجري نهر النيل عام 1964. وأيضاً بعض المشاهد التي تم الاستعانة فيها بنجوم
من الاتحاد السوفيتي آنذاك.السؤال الذي يطرح نفسه، هل نحن أمام فيلم واحد،
أم أن هناك فيلمين، تم تجاهل أحدهما، والقاؤه في مزبلة الأفلام، لكنه طلع
علينا من خلال قناة ميلودي أفلام، وذلك بأننا نشاهد من وقت لآخر الفيلم
الآخر المعتمد بحذر من يوسف شاهين نفسه، والذي دفعه إلي دور العرض في مارس
197, بينما لم يفعل ذلك مع الفيلم الأول.الروائي المعروف امين ريان، أبلغني
ذات يوم، أنه يكتب القصة القصيرة، أحياناً ثماني مرات كي يستقر في النهاية
علي واحدة منها، كي يعترف بها، وينشرها، وعندما حدثني بذلك، أخبرته أننا
أمام ثماني قصص متكاملة مع تنويعة واحدة.وإذا قمنا بتطبيق الأمر علي تجربة
يوسف شاهين، فإننا أمام فيلمين منفصلين تماماً، علي تنويعة واحدة، مثلما
فيلم الحياة الزوجية لأندريه كايات 1963. مع الفارق الكبير، وأيضاً الفارق
نفسه بين الأدب والسينما، فمن السهل علي الكاتب أن يصوغ أقصوصته في عدد
قليل من الصفحات، ثم يكتب مرة أخري، وهكذا، لكن بالنسبة لفيلم ضخم الانتاج،
مصور بالألوان، والشاشة العريضة، يمثل دولتين، وحدث عظيم، هو تحويل مجري
السد العالي، وأيضاً به كل هذا العدد من النجوم الروس، والمصريين، فإن
الأمر يختلف.وحسب العناوين التي علي الفيلمين، فإن يوسف شاهين هو المنتج في
الجانب المصري، لدي كايرو فيلم وذلك مقابل الشركة السوفيتية موسو فيلم التي
شاركت في الانتاج.إذن، يوسف شاهين لم يدفع من جيبه، ولكنه أشرف علي الانتاج
لصالح الفيلم أو الجزء المصري من الفيلم، ومن الواضح أن الفيلم الأول، لم
يعجب شاهين نفسه، أو الشركة المنتجة بين مصر والاتحاد السوفيتي، فأهمل
الفيلم لفترة غير قصيرة، ثم عاد لينتجه من جديد، تماماً مع الاستعانة بما
لا يمكن الاستغناء عنه من الفيلم القديم.الفيلم القديم الأول النيل والحياة
يعرض الآن علي القنوات كعمل منفصل. وفيلم متكامل. والفيلم الثاني الناس
والنيل موجود أيضاً علي القنوات كعمل منفصل، ومتكامل تماماً.. ونحن لا
نتحدث هنا عن قيمة الفيلمين الفنية، بل عن اكتشاف مهم في تاريخ يوسف شاهين،
هو أنه يجب أن يذكر الفيلمين معاً في قائمة أفلامه، وألا نخضع لقانون
المنتج أو المخرج، حين يتجاهل فيلماً من أفلامه، والسبب هو الآتي:أولاً:
عناوين الفيلمين مختلفة، من حيث طاقم كاتب السيناريو، والنجوم، وأماكن
التصوير، والحكاية نفسها فالفيلم الأول كتبه كل من نيكولاي فيكوروسكي،
وعبدالرحمن الشرقاوي، ويوسف شاهين، أما الفيلم الثاني فقد كتبه حسن فؤاد
كاتب سيناريو فيلم الأرض مع نيكولاي فيكوروسكي، وهذا الأخير هو صاحب القصة
الأصلية للفيلم في الحالتين.أي أنه تم استبدال النص الذي كتبه الشرقاوي،
بنص آخر بديل كتبه حسن فؤاد، ومن هنا جاء الاختلاف تماماً في الموضوع.. حيث
اهتم الشرقاوي بقصة الصداقة المتينة التي ربطت بين الشاب النوبي براق
والشاب الروسي نيكولاي القادم من البلاد الباردة إلي حيث توجد بنات ذوات
أعين ساحرات حسب الفيلم.وفي بيانات الفيلم الأول، فإن مديري التصوير هما
الكسندر شيليتكوف، ووتشان بولان، أما حسب الفيلم الثاني، فإن هناك أربعة
مصورين علي رأسهم عبدالعزيز فهمي، وأيضاً بيترتيسكو، أي أن هناك اختلافاً
واضحاً بين تصوير الفيلمين، عدا الاستعانة ببعض المشاهد القديمة.أما الشيء
الأهم، فهو مجموعة الممثلين في الفيلمين، وذلك حسب قصة كلا الفيلمين، التي
تختلف كل الاختلاف فيهما فيما عدا مسألة تحويل مجري النهر، وبعض القصص
الروسية الموجودة في العملين، مع اقصاء بعضها، ومنها مسألة العامل السوفيتي
الذي خرج عمال السد كلهم يودعونه، وهو عائد إلي روسيا، والذي سيعود إلي
أسوان مرة أخري، حيث سيقابل حبيبته القادمة إليه من موسكو.أبطال فيلم النيل
والحياة هم صلاح ذو الفقار، عماد حمدي، مديحة سالم، حسين اسماعيل، وسيف
الدين واسكندر منسي، وتوفيق الدقن.ومن هؤلاء سوف نري في الفيلم الثاني كلا
من صلاح ذو الفقار وسيف الدين بالاضافة إلي النجوم الروس، ومنهم ايجور
فلادميروف، وفالنتيا كوتشينكو، وقد اختفي عن الجزء الثاني كل من فلادمير
ايفاسوف، وايتافيو اوروفا، وآخرين. أما الجزء الثاني، فما يهمنا فيه هو
وجود أسماء مهمة علي رأس الفيلم، منها سعاد حسني، وعزت العلايلي ومحمود
المليجي، وهم النجوم المفضلون لشاهين في تلك المرحلة بالذات، أي أنه تم
الغاء أدوار مديحة سالم وعماد حمدي، وآخرين.. لنكون أمام فيلم آخر.إذن، نحن
أمام فيلمين مختلفين، أو علي تنويعتين متباينتين، فالفيلم الأول يركز علي
قصتين رئيسيتين تم حذفهما تماماً في الفيلم الثاني، هما قصة الشاب النوبي
الذي يأتي من النوبة كي يصادق الشاب الروسي الذي جاء للعمل في السد
العالي.من المهم الاشارة إلي مسألة التقابل السائد في الفيلم، ابتداء من
العناوين، حيث تترك بشكل متقابل ابتداء من كايرو فيلم - موسفيلم، ثم نزول
اسم صلاح ذو الفقار أمام قرينه الروسي ايجو فلادميروف، ثم اسم عماد حمدي
مقابل فلادمير ايفاسوف. وهكذا في كافة البيانات، وسوف نري في هذه النسخة أن
أغلب الحوار الروسي لم يترجم، بل ان هناك صوت معلقة باللغة العربية علي
طريقة الترجمة الفورية في المؤتمرات تقوم بترجمة القليل من المواقف دون
غيرها.. مما جعلنا لا نفهم حكاية الفيلم.وقصة الفيلم نفسها معنية بهذا
التقابل، خاصة قصة كل من براق ونيكولاي، حيث يحدث قطع مونتاج علي كل منهما،
الأول في النوبة تأتيه رسالة تكليف بالعمل في السد العالي، وبعض الصعوبات
التي يقابلها، وعلي الجانب الآخر نتعرف علي نيكولاي وحبيبته، وحياته في
موسكو وقراره الذهاب إلي أسوان.رحلة براق تقابلها رحلة أخري من الشمال
يقطعها نيكولاي من ليننجراد إلي أسوان، تبدأ كل منهما بصعود مركب، وليس
طائرة، وقد كشفت هذه المقابلة عن الفارق بين هوية المكانين، لكن كلا
البطلين أحس بأن للرحلة هدفاً قومياً، يخدم الاشتراكية من ناحية الروس،
والمسألة النوبية من خلال براق، الذي كان آخر مصري يسبح في مجري النهر
القديم قبل تحويل المجري في الخامس عشر من مايو 1964, وكان في صحبته
نيكولاي.هذه هي القصة الأولي والأهم، والتي تحتاج إلي سرد تفصيلاتها، في
الفيلم، فقد ترك براق وراءه قصة ارتباط عاطفي، حيث وعده أبوه أن يزوجه من
ابنة عمه، إذا رجع، أما نيكولاي، فقد ترك في ليننجراد قصة حب مع زويا التي
تعلن له أنها لن تذهب معه، وأنها ستبقي، لكنها في نهاية الفيلم تنزل من
السفينة، في الاسكندرية قادمة في المركب نفسه الذي حمل فوق ظهره توربيناً
جديداً من أجل السد العالي.أما القصة الرئيسية الثانية التي تم الغاؤها فهي
تربط بين نادية مديحة سالم، ابنة محمود حسين عماد حمدي، كبير المهندسين في
السد العالي، حيث تقوم قصة حب ساذجة بينهما، الأولي، حين يشاهدها العامل
يحيي صلاح ذو الفقار، وهو يرتدي زي العمال، وعلي الفور تتولد المشاعر
الفياضة، رغم معارضة أمها زوزو ماضي. هذه القصة تنمو بشكل ساذج، مثل القاء
يحيي لوردة حمراء من الشارع إلي الدور الثاني بصرف النظر عن عقلانية هذا
المشهد حيث توجد حبيبته، ونكتشف فيما بعد أن يحيي مناضل اشتراكي، وصحفي
ثري، حول ثروته لاصدار مجلة، مما سبب له المشاكل فعرف السجن في أكثر من
بلد، وقد تخفي في زي العمال، كي يكون قريباً من الحدث الحقيقي في السد
العالي.. وفي نهاية الفيلم، يذهب يحيي ليخطب نادية، ثم يفاجأ بها تذهب
بعيدة عنه، بعد أن وضعت صدرها علي كتفه في حنان واضح.. ودفء ملحوظ.هي بلا
شك قصة ساذجة للغاية لا تتناسب مع موهبة وقيمة عبدالرحمن الشرقاوي، أما حسن
فؤاد، فقد وضع قصة مختلفة، وبالأسماء نفسها تقريباً في فيلم الناس والنيل،
فالأحداث هنا تبدأ في العاصمة، حين تلتقي نادية سعاد حسني الطالبة بكلية
الفنون الجميلة، مع خطيبها الدكتور أمين عزت العلايلي الذي يقرر السفر إلي
أسوان لاجراء بحوث علمية، والعمل في السد العالي، وتعارض نادية سفره لأنها
تريده معها في القاهرة.يقوم الدكتور محمد عماد حمدي كبير المهندسين بالسد
العالي، بعقد مؤتمر صحفي ليتحدث عن مشروع السد العالي، والظروف السياسية
التي أحاطت بالمشروع، وبعد انتهاء المؤتمر، يلتقي مع ابنته نادية، ليشرح
لها موضوع السد العالي علي الخريطة، فتسافر إلي أسوان لحضور احتفالات تحويل
نهر النيل، وتقوم برسم لوحات تمثل هذا اليوم الخالد. حسن فؤاد جعل بطلته
فنانة تشكيلية مثله، فرسمت النهر من خلال لوحاته، وفي أسوان تلتقي بالدكتور
أمين الذي يحاول التقرب إليها ومصالحتها دون جدوي.ابتسر فيلم الناس والنيل
قصة الحب بين يحيي ونادية، وجعل دور يحيي هامشياً لكاتب يحاول الكتابة عن
بناء السد العالي، وقد أبقي الفيلم علي شخصية سعد سيف الدين مع اضافة
المزيد من التفاصيل، فقد أتي المهندس سعد إلي أسوان بأسرته، وقرر الاستقرار
هناك.. أما شخصية براق فقد تم استئصال الكثير منها، كي تكون البطولة
المطلقة لقصة حب نادية التي تركت الدكتور أمين مثلما فعلت نادية في الفيلم
الأول.إذن، فنحن أمام فيلمين منفصلين تماماً، يمكن مشاهدة كل منهما
منفصلاً، وان يعود النقاد والباحثون إلي اضافتهما معاً إلي قائمة أفلام
يوسف شاهين.أبرز ما فيلم النيل والحياة أن هناك تعليقاً بصوت نسائي، مع
الأحداث، علي طريقة الحكي.هذا الفيلم النيل والحياة، ليس موجوداً بالشكل
الذي رأيته في أي مرجع، ولا أي موسوعة عن الأفلام العربية، ولا أي بطاقة
سينمائية، وبالتالي، فعلي المراجع أن تغير نفسها، وعلي من يكتبون عن تاريخ
الأفلام ادراجه ضمن الأفلام المجهولة في السينما المصرية، وما أكثرها.
جريدة القاهرة في
17/03/2009 |