كرست السينما الفلسطينية، سواء التسجيلية منها أو الروائية،
تجربة مغايرة تماما لباقي التجارب السينمائية الأخرى، لكونها ولدت داخل أرض
مستلبة،
وتربت وترعرعت داخل وعاء الاحتلال، مما ولد رؤية فنية ذات أبعاد ثورية
مواكبة
للمقاومة وفعالياتها. وقد برع العديد من المخرجين سواء من عرب
48 أو من فلسطينيي
الداخل والشتات، في تقديم موسوعة فنية من الأفلام الرائعة التي تخاطب
الضمير
الإنساني، كما أثبتوا قدرتهم على تحويل مشاهد البؤس اليومية التي يعيشها
الفلسطيني
من قمع، وذل، واحتلال إلى صور بانورامية أليمة، لم تستطع الآلة
الإعلامية بما تملكه
من وسائل مادية ولوجستية إيصالها للرأي العام. والسينما الفلسطينية رغم
تاريخها
الممتد عبر أجيال عدة، ما زالت تعاني من انعدام الإمكانات اللازمة للإنتاج
السينمائي، فضلا عن الظروف والمضايقات المحيطة بعملية التصوير،
ورغم كل ذلك فقد
اجتهد السينمائيون الفلسطينيون في إعطاء صورة مشرفة للفن السابع الفلسطيني،
بل إن
منهم من حصل على جوائز عالمية، بالإضافة إلى أن المشهد السينمائي العالمي
يعج
بممثلين فلسطينيين أثبتوا قدراتهم الإبداعية العالية.
المخرج الفلسطيني ليس
مخرجا عاديا فهو يحمل بالإضافة إلى رسالته الإبداعية، رسالة ثورية يجتهد في
إيصالها
للمشاهد، بطريقة ما على أن تكون مختزلة، وذات معالم واضحة، مختبئة وراء
ستار شفاف
مفعم بالرموز والإسقاطات، وهنا يكمن سر الإبداع الفلسطيني.
تعود الشرارة الأولى
للسينما الفلسطينية إلى جيل الثلاثينيات من القرن الماضي، الذي أشعل الشعلة
الأولى،
لتنتقل بعد ذلك من جيل إلى جيل دون أن تخبو، رغم العواصف والفترات العصيبة
التي مرت
وما زالت تمر منها المنطقة، لتصل أخيرا إلى الجيل الجديد والذي
حملها بدوره دون كلل
أو ملل باحثا عن بؤرة ضوء يمرر منها خطابه الإبداعي رغم الحصار والقمع
والمساومة في
بعض الأحيان.
من بين المخرجين الشباب الذين حملوا الشعلة، وساروا على نفس الدرب،
المخرج الفلسطيني الأصل ، الإسرائيلي الجنسية توفيق أبو وائل، ولد سنة 1976
في أم
الفحم، درس السينما في جامعة تل أبيب، ومارس التدريس في مدرسة
حسن عارف في يافا،
وبعد تجارب عدة في إخراج بعض الأفلام القصيرة والوثائقية اتجه إلى تجربة
أخرى
مغايرة، تتمثل في الفيلم الطويل حيث كان فيلمه الروائي الأول 'عطش'، والذي
برهن من
خلاله على قدرته الإبداعية المسايرة للسينما العالمية.
فيلم 'عطش' من الأفلام
العربية المحظوظة التي طافت حول العالم وحصدت جوائز مهمة. رصد الفيلم عن
كثب الواقع
المزري الذي تتخبط فيه الهوية الفلسطينية داخل إسرائيل، ومنحه بعدا رمزيا
واقعيا
نفذ منه إلى العمق السحيق للمأساة، التي تعيشها الأسر
الفلسطينية، متمثلة في أسرة
أبو شكري كأنموذج مُرّ للعزلة الحارقة في مجتمع متناقض.
اعتمد الفيلم على
اللامكان واللازمان في إدارة الأحداث، ويبدو هذا جليا في المكان المعزول
التي تعيش
فيه الأسرة دون الإشارة صراحة إلى مكان تواجدها، كما أن الزمان غير محدود
ولا يعبر
عن تاريخ معين، أو فترة بعينها، تمكننا من تحديد المدة الزمنية
لصلاحية الفيلم، مما
يعطيه القدرة على الاستمرارية والحياة.
المكان ناء معزول، مقومات العيش الحضاري
منعدمة فيه، فبعد الاغتصاب الذي تعرضت له الابنة الكبرى،
والمعاناة التي عاشها أبو
شكري داخل قريته بسبب هذه الحادثة، هاجر، أو بتعبير أدق هرب واستقر مع
أسرته في
وادٍ سحيق، بمنزل من منازل عدة متراصة كانت تستعمل في السابق لتدريب الجنود
الإسرائليين، هنا يبدأ الصراع مع الوحدة والعزلة، فرغم تعدد
الأشخاص في الأسرة
ينعدم التواصل بينهم، إذ الحوار يمر صامتا إما عبر قسمات الوجه أو كلمات
مفككة
مقتضبة، عوضتها زوايا التصوير التي تفوق المخرج في اختيارها باحترافية
عالية، تغري
المشاهد بالدخول إلى الشاشة والمشاركة في أحداث الفيلم.
الشريط مشحون بشكل رائع
بثنائيات متضادة، يتجلى ذلك في شخوص الفيلم، في أحداثه أو بشكل
عام في مكوناته، إذ
يزخر بمتناقضات متشابكة فيما بينها، ومتوازية في نفس الوقت، تعبر عن عمق
الأحداث
بقسوتها وحنانها، بكرهها وحبها، بجبروتها وعدلها، باغتصابها وشوقها. فقاعدة
الفيلم
مبنية أساسا على مثل هذه الثنائيات، وعلى سبيل المثال نجد أن
كل مشهد من مشاهد
الفيلم لا يخلو من وجود النار أو الماء كثنائية متلازمة وكلاهما يساهمان
بالأساس في
توفير الحياة لأسرة أبي شكري، فبالنار يحرقون الخشب ليصنعوا منه الفحم،
ويبيعونه
لتوفير لقمة العيش، وبالماء يروون عطشهم، الذي ضحى أبو شكري
بكل ممتلكاته المادية
ليوصله بأمان إلى بيته عبر ماسورة من قرية قريبة، وقد تناوب مع ابنه في
حراسة هذه
الماسورة بعد أن خربت وأتلفت من جهة مجهولة.
العزلة في الفيلم بدت كشخصية خفية
تلعب دور البطولة بجانب الشخصيات الرئيسية، فهي التيمة
المشتركة بين كل الشخصيات،
والعدو الخفي الذي يحاول كل واحد من الأسرة التغلب عليه بطريقته الخاصة.
البنت
البكر جميلة، لا تفارق كتاب رواية الشطار للكاتب المغربي محمد شكري، كنوع
من
التسلية والتمرد في آن، التمرد الذي تشترك فيه جميلة مع بطل الرواية،
هـــذا الذي
جــاهد وكسر جدار الزمان وتغلب على أميته في مدة قصيرة رغم
تجاوزه مرحـــلة
التمدرس، ورغم وطأة الظروف القاســـية التي عانى منـها، وربما هذا ما دفع
المخرج
إلى اختيار هذه الرواية، التي ليست في الحقيقة إلا سيرة ذاتية لمحمد شكري،
وإلى
إلحاقها بشخصية جميلة المتمردة الثائرة.
شخصية حليمة البنت الصغرى ذهبت في نفس
السياق وعانت من نفس الشيء، تصارعت مع نفسها ومع الآخرين لفتح
نافذة تطل منها على
عالمها المتخيل، عبر ممارستها للموسيقى بآلة بسيطة، صنعتها بيديها لترمي
بنفسها
داخل عالم افتراضي، مفاتيحه أوتار موسيقية بدائية.
كما أن الشريط لم يستثن
الشخصيات الأخرى من ذلك الألم، فالابن حاول تصليح مذياع وجده
في الغابة، فهو في تلك
الظروف الصعبة التي تعيشها الأسرة، ثروة ذات قيمة وآلة مباشرة للإطلال على
العالم
الخارجي. والأم تحاول أن تتعلم الكتابة والقراءة، لأنهما الوسيط بين عالمها
المعزول
والعالم الآخر المجهول. وحده الأب يستطيع التنقل لكنه في نفس
الوقت يبقى حبيس
ذكرياته، هذه الذكريات التي تنقله بين الفينة والأخرى إلى عوالم صامتة
أصبحت له
متنفسا رغم اندثارها.
اللقطات الملغومة تلعب دورا سياديا في الشريط، تنقل لنا
رسائل مشفرة يسهل حلها، تجعل المشاهد يستمتع استمتاعا في فك وحل رموزها
وإعادة
تركيبها من جديد، لتتناسق داخل ذاكرته، حيث يخرج بصورة قوية
غير مبهمة، توجهه
مباشرة إلى ذاكرة المخرج، لتتجدد العلاقة الوطيدة والمباشرة بينه وبين
المشاهد، هذه
العلاقة قلما نجدها في أفلام عربية أخرى.
طرح فيلم 'عطش' صورا متعددة لصراعات
خفية سواء بين أفراد الأسرة الواحدة - التي تكرس في الشريط
مجتمعا عربيا مصغرا
بثقافته، وتقاليده، وأزماته - أو بينهم وبين أناهم اللاشعورية، أو بينهم
وبين
العالم الخارجي، كما عمل بشكل أو بآخر على إبراز صور أخرى تلاحمية لأسرة
أبي شكري،
تتقاطع والأولى، خصوصا في المشهد المتعلق بمحاولة شكري فك أسر
أخته وفتح باب سجنها
بكل ما أوتي من قوة متجاهلا أوامر والده بالعدول عن الأمر، مما أجبر الأب
على
استعمال قوته ليرغم ابنه على الامتثال. هذه القوة التي تتحول في سياق
الأحداث إلى
ظلم وتسلط، يتفانى رب الأسرة في إظهارهما كلما سنحت له الفرصة،
لكنها لا تفتأ تضمحل
وتتلاشى بمجرد ذكر أو ظهور الجنود أو الحكومة (الشرطة الاسرائلية) كما
سماها هو في
مشهد الغابة، حيث حلقت هيلكوبتر إسرائيلية فوقهم مما دفعه إلى الاختباء
سريعا وراء
شجرة محتضنا ابنه شكري، لينتهي المشهد بضحكة ساخرة من الابن
عندما استرعى انتباهه
سروال أبيه المبلل..
المشهد المثير في الفيلم، والذي تنتهي على اثره الأحداث، هو
محاولة تخريب الماسورة من طرف الأب، وقد اكتشفه الابن وأرداه قتيلا، رغم
تعرفه على
ملامح والده، وقد أصيب الابن بالحمى جراء هذا الحادث، وفي هذا
حرص من المخرج على
كشف أبعاد الظلم، والتسلط، ومحاربتهما بشتى الطرق، أو قتلهما بطريقة أو
بأخرى، لكن
هذا التسلط يستمر متقمصا أدوارا أخرى لا تختلف عن سابقاتها، حيث يظهر الابن
بنفس
ملابس الأب، دون أن يخلق هذا احتجاجا من لدن الأسرة التي عانت
سابقا، مما يعطينا
انطباعا بأن المجتمع العربي عموما دجن وتعايش مع سيطرة وسطوة الآخر.
فيلم توفيق
أبي وائل عمل استثنائي، أسس لنوع جديد من الأفلام ستساعد بلا شك السينما
الفلسطينية
على زيادة نقطها الايجابية وقفزاتها النوعية رغم افتقارها لجو صحي ملائم
لصناعة
سينمائية محترفة، هذا الفيلم هو من سيناريو المخرج نفسه، ومن تمثيل ثلة من
الممثلين
الهاوين من أبناء منطقة أم الفحم التي صور فيها الفيلم، برعوا في إيصال
الخطاب بشكل
أمين، وهم حسين ياسين محاجنة (الأب)، أمال بويرات (الأم)، ربى
بلال (البنت الكبرى
جميلة)، جميلة أبو حسين (البنت الصغرى حليمة)، أحمد عبد الغني (شكري).
كاتب
مغربي مقيم بهولندا
s_zouirik@hotmail.com
القدس العربي في
12/03/2009 |