انها الأيام الأخيرة لوالت كوالسكي! موظف
سابق في شركة فورد للسيارات يعيش تقاعده من دون أن يزعج احداً. أميركي
نموذجيّ لا
يقبل الا أن تكون الراية المرصعة بالنجوم مرفوعة أمام منزله في منطقة
ديترويت. في
المرأب سيارته الفورد غران تورينو من صنع عام 1972 التي تجسد آخر مفاخر
الصناعة في
بلاده ورمز الذكورية الأميركية. وفاة زوجته، التي تجري مراسم دفنها الكنسي
ما ان
يفتتح الفيلم، تزيده حدية وغضباً. فالرجل، الذي شارف الثمانين، صار وحده في
بيئة
مهاجرين لم يعد يعرفها، رفيقته الوفية هي الكلبة دايزي التي يتوجه اليها
بالكلام من
حين الى آخر وهو يحتسي الجعة على شرفة منزله. حتى ولداه، اللذان ظل بعيداً
عنهما
طوال حياته، يريدان ابعاده عنهما وادخاله داراً للعجزة، طمعاً بمنزله. في
ظلّ هذا
المأزق الوجودي اللعين، لا يملك كوالسكي الا ان يملأ حياته بما يتيسر في
محيطه
الضيق. لكن، الخيارات تصبح شبه معدومة عندما تنطفئ الرغبة لدى المرء وتكسو
التجاعيد
وجهه. أمام هذا الواقع، لا يملك بطلنا اللاهث والمتعب من شجون الحياة الا
الانطواء
على ذاته داخل جدران منزله الملأى بالذكريات.
اذاً، ما يصوره إيستوود في "غران
تورينو" هو اولاً ذاك المنعطف الذي لا عودة منه، أو المحطة الأخيرة في حياة
رجل.
وهو ينذرنا منذ اللحظة الأولى بأن الأشياء ستكون نهائية. أما رجلنا فليس أي
رجل:
جندي سابق خاض حرب كوريا (1950 - 1953)، فعاد منها بطلاً قومياً وعلِّقت
النياشين
على صدره. حياة كوالسكي هي ايضاً حياة قيم واخلاصات: العائلة، الوطن،
المهنة. لا
مزاح مع المكوّنات الثلاثة للمجتمع الأميركي. ولا مزاح مع الذكورية
والتضحية في
سبيل كل ما صنع المجد الأميركي، بدءاً من سيارته الفورد غران تورينو وصولاً
الى لحم
البقر المجفف الذي اعتاد تناوله. عند كوالسكي هذا، نجد كل ما هو ذكوري
وعنصري
ومتزمت. فهو يكره الغرباء الذين اجتاحوا الحيّ الذي يقطنه: في المرتبة
الأولى يكره
الآسيويين الذين تجمهروا بأعداد كبيرة في محيط منزله. لكن حقده العلني يطال
أيضاً
ابناء الجاليتين الايطالية والايرلندية وسواهم من دون تفرقة في العرق
واللون، ولا
يوفر السود واليهود في نكاته المزعجة، ناسياً أو متناسياً، انه بولوني
الأصل. مع
هذا، لا يزعج كوالسكي أحداً، شرط الا يقتحم أحد مملكته التي تبدأ حدودها
عند العشب
الذي أمام منزله. لكن نظراً الى الصراع الدائر بين العصابات في الجوار، فلن
يكون
كوالسكي ومملكته الأميركية بمنأى عن الاعتداء والازعاج اللذين سينتقلان،
شاء أم
أبى، الى عقر داره...
ولأن كل فيلم يستحق هذا اللقب، يحتاج الى
ذريعة، فإن الغران تورينو ستكون هي التي تدفع بالحوادث الى الأمام وتشقلب
وتيرة
العيش الهانىء. ذلك انه عندما يفشل ابن الجارة الآسيوية تاو في سرقة الغران
تورينو
لحساب العصابة التي كلفته تلك المهمة، سيتعرض تالياً لمضايقة وازعاج، ستصل
أصداؤهما
الى باب كوالسكي، الذي لا يطيق أن يطرق بابه أحد، ولا يعرف الا اسلوباً
واحداً لحل
النزاعات، هو إشهار المسدس. خلاصة هذا الوضع الذي يعكر صفاء حياته الجديدة:
سينقذ
كوالسكي، ذات مساء، من دون أن يقصد ذلك، الفتى تاو من تهديدات العصابة
الآسيوية.
وذلك بعدما راح الصراع بين الطرفين يقترب من باحة منزله. منذ ذلك الحين
فصاعداً،
سيكون "نصف إله" في عيون الجيران الآسيويين الذين ينتمون الى جماعة الهمونغ،
وسيضطلع بدور السدّ الذي يمنع العصابة من أن يقتربوا من تاو.
بقدر ما كان النصف
الأول للفيلم فكاهياً هزلياً يدور معظم
فصوله على شخصية كوالسكي السيئ الطباع، يأتي
جزؤه الثاني مشبعاً بدراما سوداء عميقة ومؤثرة، لأن كوالسكي سيُبدي، لكن من
دون ان
يبدل أفكاره ويتخلى عن قيمه، تعاطفاً كبيراً مع اصدقائه الجدد بعدما كان
حتى الأمس
القريب يرمي عليهم نظرة ازدراء وتجنٍ. شيئاً فشيئاً، نكتشف في الرجل
المتعصب
والكريه الذي يبصق أرضاً ويكزّ على اسنانه غضباً، عسكرياً لوث يديه بـدماء
13 ضحية،
وربّ عائلة كاريزماتياً منعته عنجهيته وذكوريته من ان يقيم علاقة سوية
بعائلته،
ومواطناً محطماً تنهض فيه فجأة كل الأحاسيس المكبوتة التي تراكمت عنده طوال
سنوات
انغلاقه بين جدران الجهل والتعصب والأفكار الجاهزة.
هنا الاعجوبة التي تُجترَح
في الفيلم، والتي لم نتوقع حدوثها بتاتاً. هنا عظمة هذا الفيلم الذي يعيد
إيستوود
الممثل الى الضوء، بعد خمس سنوات على "فتاة المليون دولار". والحقّ، ما من
شيء أجمل
من أن نرى معلماً مثل إيستوود، يرمي خلفه تاريخيه الشخصي
والسينمائي، ليكون شاهداً،
على صحوة ضمير تنحلّ عليه فجأة وهو في
الحقبة الأخيرة من حياته. عبقرية إيستوود
تكمن كذلك في هذه اللحظة التي تنهار فيها ايقونة ليحل مكانها رجل يتأكله
الندم
والخوف. كل براعة إيستوود هي في قدرته على أن يتيح لكوالسكي فجأة المجال
ليغدو
بطلاً في نظر المُشاهد فينسى الأخير عنصريته وفظاظته وفرديته المبالغ فيها
ويسامحه
لأقواله المشينة. أيضاً: كل اهمية إيستوود هي في تضييق المسافة بين كوالسكي
وهاري "القذر" كالاهان (من سلسلة "هاري القذر") الذي يحرص الفيلم على تذكيرنا
به لقطةً
خلف لقطة. ففي خاتمة الأمر، ليس كوالسكي في
الجزء الأول من الفيلم، سوى امتداد
لهاري القذر، المحب للعدل والعدالة، الذي
يسجل هنا عودة جديدة، ليس للقتل والتصفية،
بل ليظهر كم ان الوسيلة التي كانت متبعة أمس لم تعد مجدية اليوم. عدة البطل
كلها
جاهزة: البندقية محشوة بالرصاص، لكن كوالسكي يلجأ الى اطلاق النار بـ"اصبعه"،
في
اشد اللحظات حرجاً؛ القلب لا يزال نابضاً بالشجاعة، ولكن رجلنا
القاسي لا ينصت اليه
الا في ما ندر؛ اما سيارة الغران تورينو
السبعينية (من زمن درتي هاري) فيُزال عنها
الغبار وتُلمّع يومياً، بيد أن ما الجدوى من ركنها في المرأب، ما دامت لا
تُستخدم
للخروج بها الى الشارع. اللافت أن كوالسكي شبيه بسيارته: الاثنان يعيشان
خارج
الزمان، منغلقان في نوستالجيتهما البليدة، وشاهدان على مجد يتسرب من بين
أصابع
الزمن الحديث. اذاً عدة السيطرة في متناول البطل، والانتقام سهل، والجميع
ينتظر من
ايستوود أن يشغّل محرك سيارته ويمضي هارعاً الى حيث المجرمون الذين اغتصبوا
شقيقة
تاو. لكن ما سيحصل هو شيء آخر، ونحن نعلم ما هو، منذ أن شاهدنا "فتاة
المليون
دولار" الذي كان قد وضع إيستوود في ظرف مماثل، أي أمام الموت المحتمل لفتاة
شجاعة،
تذهب بعيداً لتأكيد الذات.
من لقيات العمل أيضاً (فضلاً عن صورة توم ستيرن
البديعة)، الحوار الضمني الذي يجري بين إيستوود، المخرج والممثل السينمائي،
وكوالسكي الرجل القاسي (على خلفية سينمائية فيها غمزات واستدراجات)، الذي
ينتقل من
معسكر كان يشتم فيه جيرانه الغرباء، الى موقع الدفاع عنهم والتضحية في
سبيلهم. لكن
الأروع من هذا كله، الكيفية الفكاهية التي يتعامل بها إيستوود مع الدور
الذي يضطلع
به، اذ ان كل تحرك له هو مصدر للتفكه علماً انه يجهل ذلك. ويصل تهكم
ايستوود من
صورة فاعل الخير الذي كان يجسده سابقاً الى أوجه في المشهد حيث يسحب
كوالسكي مسدساً
وهمياً مصوّباً في اتجاه اعضاء العصابة التي تتحرش بشقيقة تاو. هذه البلاغة
في
صناعة التهكم الارادي تكتسي وجهاً سوسيولوجياً حين يدخل كوالسكي مكرهاً،
وعلى اثر
دعوة عشاء، منزل الجيران الهمونغ، حيث سيحظى باستقبال الباشوات. هنا، في
المنزل
الآسيوي، الغريب على حضارة كوالسكي وثقافته، ستكون الصدمة الكبرى. يكفي أن
يدخل مرة
وحيدة، كي يتحول من كائن الى آخر، وكي يعترف وهو ينظر الى المرآة، أثناء
زيارته
الحمّام، وكمن يكتشف سراً خطيراً: "تباً! هناك قواسم مشتركة مع هؤلاء أكثر
منها مع
عائلتي". من هنا فصاعداً، يأخذ الفيلم منحى آخر، وندرك فجأة مضمون الرسالة:
كوالسكي
رجل شوّهته التجارب الأليمة، وستزيده طيبة عملية انتقاله الى المعسكر الذي
كان ينظر
اليه ببغض حتى الامس القريب.
لا يكتفي ايستوود بجعل "غران تورينو"
مناسبة لتصفية حساب مع
ماضيه السينمائي والشخصي، وإن بدت المسألة
شغله الشاغل. قطع
الوصل مع شخصيته القاسية ضروري في هذه
المرحلة من مساره، لكن هناك أيضاً التوبة
التي لا بد أن يوليها الاهتمام الاكبر، لأنها جوهر العمل، ولأنها تأخذ هنا
شكلاً
راديكالياً، اذ يرى ايستوود ان على كوالسكي أن يضحي بحياته من أجل أن يغسل
خطاياه.
على غرار جون كارادين الذي كان ينبغي له أن يموت في فيلم جون فورد الأشهر ("ستايجكوتش"
- 1939)، لتلد من تضحيته الكبرى أميركا الجديدة، سيُكتب لكوالسكي قدر
مشابه لقدر كارادين، وهذا القدر يتيح لأميركا باراك أوباما (هو الآخر ابن
الهجرة)،
أن يطل برأسه، من تحت ركام المآسي الكثيرة. في فيلم يعوم بالاشارات
الدينية، يُفتتح
ويُختتم في كنيسة، لا ينساق كلٌّ من كوالسكي وايستوود الى السهولة:
الاعتراف الذي
يريد الكاهن الشاب انتزاعه من كوالسكي، تلبية لوصية زوجته، لن يأتي أبداً.
بالأحرى
سيأتي متأخراً، لكن لن يتضمن أي شي مهم، لأن كوالسكي يضع اعترافاته
"الخطيرة"
جانباً.
هذه "الممانعة" في الاعتراف على رغم اصرار الكاهن المتكرر، ستشكل
مناسبة لإيستوود ليخلط الأدوار، مانحاً تاو دور من يجب أن يمر
عبره السماح والتوبة
(جماعة الهمونغ تعرضت لتنكيل الفيتناميين خلال حرب فيتنام بعد
رحيل الأميركيين
منها)، فيما سيُسند الى الكاهن المتدرب على
تدارك اسرار الحياة والموت خارج ما جاء
في العهدين الجديد والقديم، دور الشاهد على تضحية كوالسكي الأخيرة. في كل
حال، لم
يكن ليروق لكوالسكي، وهو عاش الحرب العالمية الثانية ووترغيت وفيتنام وعاصر
بوش
الاب والابن، أن يأتيه كاهن مخنث ليمنحه دروساً اخلاقية في السلوك
الانساني. فهذا
لا يشبه كوالسكي اطلاقاً.
بقدر ما يسعى ايستوود في هذا الفيلم الى هدم "ميثولوجيا"
بصرية ساهمت نظرته الزرقاء القاسية ومسدسه وجسده النحيف في ابتكارها،
يدنو "غران تورينو" من صاحبه، الذي يبدي تسامحاً وانصهاراً لا مثيل لهما في
فيلموغرافيته. الفيلم محاكمة لنفسه بقدر ما هو محاكمة لهاري القذر الذي
يجيء بجثته
الهامدة من سبعينات القرن الماضي ليرميها على باب "المطهر". يعمل ايستوود
هنا بعكس
المقولة التي اشتهرت في فيلم "الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس"
لجون فورد: "اذا كانت
الاسطورة أجمل من الحقيقة، فاطبع الاسطورة".
في مرحلة ما خلال
التصوير، قرأنا هنا وهناك أن الفيلم سيتيح
للمفتش هاري القذر أن يعود الى اساليبه
الخاصة جداً في معالجة الجريمة المنظمة،
وهي اساليب كثيراً ما اتهمت بنزوعها الى
الفاشية السياسية. لكن يبدو أن ايستوود خدع الجميع بحكمته ومكوثه متحفظاً
على عتبة
الأفكار والايديولوجيات، مثلما خدعنا ايضاً بهذا الانزلاق المذهل للسيناريو
من
الكوميديا الى الدراما المؤثرة. ربما لأن الفيلم ينتصر أيضاً لفكرة نهاية
الافكار
الكبيرة التي كانت خلف اندلاع الثورات في العالم. "غران تورينو" فيلم قاتم
جداً
يجلب معه بعض الفكاهة، لكن يأخذ معه من الاسى الكثير، وهو اسى من صنيع
عالمنا
المعاصر، لأنه يتمتم بعض الآراء، لكن لا يؤمن بشيء. وهو، على رغم انه يفتح
صدره
لخطاب ينطوي على قدر هائل من التسامح، الا أن الضياع يبقى من سماته
الكبيرة. اما
تضحية كوالسكي، علاوة على انها نابعة من دوافع نبيلة، فهي ايضاً نتيجة
الخيبة التي
اصابت أولئك الذين آمنوا، في مرحلة من المراحل، بأن الحرية تؤخذ بالعنف،
وبقوا على
ايمانهم، حتى الأزمنة الحديثة التي أثبتت العكس. وما ذهاب كوالسكي اعزل
أمام أعدائه
الا اعتراف ولو متأخر، بهزيمة العنف وبعدم جدواه، وإن تمكن الرصاص من جسده.
اليوم،
بعد خروجه الى الصالات، يتردد أن "غران تورينو" قد يكون الفيلم الأخير
لإيستوود
ممثلاً ومخرجاً في آن واحد، بعدما بلغ "نقطة اللاعودة"
التيماتيكية، وأقفل قوساً
كان قد فتحها قبل 40 عاماً، وبعدما وضع تفاصيل الـmise en scène
الخاصة بجنازة
رحيله، وأهتم بكل التفاصيل المتعلقة بها حتى اختيار الملابس. اذا صدق
الخبر، فسيكون
هذا الشاهد الذي أرّخ لأكثر من 40 عاماً من التاريخ الأميركي، قد ترك ما
تركه
للأجيال القادمة وما من ندم في عينيه، لأن الموت، بالطريقة التي يقدمها
الينا في
الفيلم، ليس الا بداية!
() Gran Torino
ـــ يُعرض في "غراند -
كونكورد، أ ب ث، لاس ساليناس" و"أمبير - صوفيل، اسباس".
(
hauvick.habechian@annahar.com.lb)
في التاسعة والسبعين يذرّ الرماد في عيون الأميركيين ورغم
التجاعيد يظلّ حلمه سليماً
كلّما غصنا في أفلام كلينت ايستوود وجدنا قواسم
مشتركة بينها. انها سينما تهيمن عليها رغبة واحدة في تصوير مدينة تكون
المظاهر
خدّاعة فيها وتخفي عالماً غامضاً وخطيراً. أبسط مثال على ذلك: المدينتان
المصورتان
في كل من "النهر الغامض" (2003) و"منتصف ليل في حديقة الخير والشرّ" (1997)،
تتشابهان على رغم كونهما مختلفتين في
المناخ والرؤية، إلا أننا نجد فيهما الهدوء
نفسه وما يخفي وراءه من أسرار، فضلاً عن ان هنالك دائماً لدى ايستوود في
البدء
سرّاً يتقاسمه الجميع إلا أنهم يتجنبون البوح به خوفاً من إيقاظ أشباح
الماضي.
يفتتح "رعاة بقر الفضاء" (2000) بمشهد يعرض لنا السماء. خلال بضع
دقائق،
نظن انفسنا في الفراغ التام. لكن حركة
خفيفة للكاميرا تجعلنا نكتشف اننا على الارض،
وان النظرة التي اعتمدها الفيلم هي نظرة
شخص يتطلع من الأسفل الى الأعلى. هذا هو
المسار الذي حققه ايستوود في أحد أكثر أفلامه فرادة: فجعل سير الحوادث في
مكان ما
بين الأرض والسماء، في عالم لا يمكن ان يوجد، ويمكن ان يكون ايضا محطة
للترحيل نحو
الأبدية (في هذه الحالة يكون الموت) او مطهراً لعالم حيث الرغبة فيه ليس
لها اي
معنى. بالنسبة الى ابطال الفيلم، فإن الرغبة، التمني، الارادة، الحلم،
الانسياق
للفانتازم، هي افعال ليست موجودة في قاموسهم. واذا حدث ان توافرت لهم
الفرصة لعبور
خطوة نحو تحقيق احلامهم، فذلك يحصل من دون ان يتطلب بذل اي جهد من ناحيتهم،
بل
بالمصادفة. هذا كله يتيح لنا رؤية ميل الى السخرية الذاتية، وهو موضوع أحد
اعماله
السابقة "جريمة حقيقية" (1999).
خيار الفكاهة الذي تتصف به مشاهد عديدة،
والهيئات الساخرة التي يعطيها عن انفسهم هؤلاء الممثلون القدماء، الذين
قلما
يصوَّرون في الافلام اليوم، وقلما نراهم، وقلما يثيرون الاعجاب، نجد مبرراً
لها في
لعبة ساخرة ازاء الشخصيات التي يؤدونها كما ازاء شخصياتهم الخاصة. اذ ان
ايستوود،
الذي كان ربما يشق عليه الرضا آنذاك ببلوغه السبعين من العمر لكنه يواجه
الأمر
بسخرية مؤكدة، يتمتع في الفيلم بتجريد شخصياته من عقدة العمر. لهذا السبب،
الفيلم
ساحر وفاتن ولا يقاوَم. بالاضافة الى ذلك، لانه يبرهن ان القيمة لا تُحسب
بعدد
سنوات العمر، كذلك لأنه يتصدى بحنان وحنين لمعالجة موضوعات مثل الصداقة،
والفكاهة،
والحلم. بعد مرور 40 عاما والمزيد من التجاعيد على وجوههم (آثار الزمن الذي
يمر،
لكنه يُتلف)، رعاة بقر الفضاء يفعلون المستحيل كي لا يخيبوا امل نظرائهم
بهم، عندما
تتاح لهم الفرصة للبرهان على مقدرتهم.
عبر مقابلة بين اجيال وميول مختلفة،
الحديث في مقابل القديم، الشيخوخة في مقابل الشباب، الاسود في مقابل
الابيض، خلق
ايستوود اختلالا بالنسبة الى مقاربة الامور الاساسية في الحياة، من دون
اللجوء الى "الصراع بين الاجيال" الكلاسيكي. فإيستوود لا يهتم بغزو المجهول. قبل
ان يهتم بأمور
تتجاوز عمره، تأمل صاحب "لا يسامَح" مستقبل
الكائنات ورغبتها في الانتهاء، صفاءها
في مقاربة الموت، ومجد بعض القيم التقليدية.
الحديث عن عمل ايستوود مخرجاً ليس
بالأمر السهل، فتاريخه حافل بالأفلام ذات الروح الصوفية كـ"النهر الغامض"
(2001).
يقول الناقد انطوني سيتروك إن الغموض وفكرة وجود شبح يتكرران دوماً في
أعمال
المخرج. وتأكيداً لذلك يمكن العودة إلى كثير من أفلامه، إلا أن "النهر
الغامض" هو
الذي يظهر جلياً هذا الشأن. لقد قدِّر للمراهقين الثلاثة في
هذا الفيلم أن تعود
إليهم أشباح الماضي بعدما تعرض أحدهم
لاعتداءات جنسية. ويأتي عنوان الفيلم، محذراً
ممّا في المضمون، كما لو كانت البحيرة تنبئ بحدوث أمر غير طبيعي، أو كما لو
كانت
ملجأً للأجساد المعذبة. يذكّرنا هذا بالسلسلة التلفزيونية "توين بيكس"
لديفيد لينش
التي تتقاسم والفيلم بعض الأفكار. إن ذكر جون كاربنتر في هذا
الصدد مهم جدا لأن
الرجلين يتقاسمان الخلفية نفسها، إذ يظهران
الشغف نفسه بالسينما الأميركية
الكلاسيكية القريبة من هوكس وفورد.
بيد أنه يجب ألا ننسى أن إيستوود خاض قبل "النهر
الغامض" تجارب كثيرة من هذا النوع ونجح فيها بامتياز، مثلاً في "بال رايدر"
و"منتصف ليل في حديقة الخير والشرّ"، الذي يفتتح
بلقطة هي عبارة عن مدفن كُتب عليه "والملاك
يفكر". أما المشهد الأخير فيصور ضحك كاهن فودو، ثمّ نرى رجلاً يتنزه مع
كلب غير مرئي، ومحامياً يرافع في المحكمة وفي جيبه حجاب، من دون أن ننسى
مشهد
المحادثة بين الأموات في المقبرة. أما الجملة الأهم في الفيلم فهي التي
تلفظت بها
مينيرفا: "لكي نفهم الحياة يجب أن نتعاون مع الموتى". على هذا الأساس، ينضم
كل جديد
لإيستوود إلى سابقه ليطوّر فكرة تأثير الموتى على الأحياء، حتى
في "غران تورينو"
الذي يبدأ بمشهد دفن ويختم بمشهد مماثل، وكأن
الثاني هو نتيجة للأول.
لقد تمّ
تطوير طريقة إظهار الغموض في عمل ايستوود
على مرّ الزمن. إلا أن هذا التطور، لا
نجده فقط في توسيع إطاره من صورة الممثل
الواحد إلى الصورة الجماعية، بل نجده في
طريقة إيحائه للمشاهد انطلاقا من الجنريك إلى آخر مشهد في الفيلم. في حين
كان
الخيال موجوداً في أعماله السابقة، إنما بشكل باطني، فهو يظهر تدريجاً
كلّما
اقتربنا من النهاية. ففي فيلم
High Plains Drafter
مثلاً، نجد أن المدينة والمجتمع
متورّطان ويمكن اعتبارهما العنصر الأساسي في الفيلم. فهما حوّلا الغريب إلى
شبح. ثم
أن طلاء المدينة باللون الأحمر وكتابة كلمة "جحيم" على مدخلها، يوحيان
بالغموض
والغرابة. فالأخطاء التي ارتكبت قبل عام قد شوّهت روحها،
وأصبحت مسكونة بروح المفتش
دانكن الذي لا نراه بتاتا، على رغم ذكره
المتكرر. علاوة على ذلك، من المهم أن نتوقف
عند موقع المدينة على ضفة البحيرة كما في "النهر الغامض"، لأن المياه لدى
ايستوود
عبارة عن مدفن للأسرار.
مهّد "النهر الغامض"، وهو الفيلم الرابع والعشرون
لإيستوود مخرجاً، مرحلة جديدة في مساره، وقارنه بفيلم "لا يسامَح" في معظم
مؤتمراته
الصحافية. فكان "فتاة المليون دولار" الذي حسم المناقشة حول
مكانته في السينما
الأميركية. ولم يكن انكبابه على حرب ايو
جيما في فصليها (الاول "رايات ابائنا" من
وجهة نظر الاميركيين؛ والثاني "رسائل من ايو جيما" من وجهة نظر اليابانيين)
الا من
قبيل ذرّ الرماد في عيون نمط العيش الاميركي. ذهب ايستوود الى
أبعد ما يمكن الذهاب
داخل مفهوم الرسالة الاخلاقية لتلك البلاد،
واضعاً على المحك سلوكيات مؤسساتها
والقيم التي قامت عليها. في بداية الألفية الثالثة عرفناه رجلاً سبعينياً
متمسكاً
بالحلم، الذي ظل صامداً في وجه الشيخوخة والتجاعيد وتبدد الاوهام، ولكنه
حين أصبح
على مشارف الثمانين، بدأ ينتهج اسلوباً خاصاً في مخاطبة الوعي الجماعي، وفي
إظهار
قفا الصورة المتداولة، وها هو يبلغ اليوم مرحلة جديدة منه في كل من
"التبديل"
و"غران تورينو". وبعدما استرق النظر، مراراً وتكراراً، خلف ستار الاكاذيب
الذي يلقي
بظلاله على التاريخ الاميركي الحديث، فإن العقلية المشاغبة التي يعمل بها
ايستوود
اليوم، تضخ دماً جديداً في عروق سينماه، جاعلة منه حيناً آخر الكلاسيكيين
الكبار،
وحيناً آخر أكبر المتهكمين على هذه العراقة وهذا التاريخ. ويجب عدم الاغفال
أن شبح
فورد يخيّم على الشاشة طولاً وعرضاً.
ينطلق "رايات آبائنا" من الكليشيه الشهير
الذي التقطه مصور اميركي. صورة هي ايقونة فيها ستة جنود من البحرية
الاميركية
يرفعون الراية المرصّعة بالنجوم على قمة جبال سوريباشي في جزيرة ايو جيما.
لكن هل
هم فعلاً ابطال ايو جيما أم منتحلو صفة فحسب؟ وماذا لو كان الابطال
الحقيقيون هم
الذين سقطوا على أرض المعركة، وشاهدوا، تالياً، نهاية الحرب، ولكن ظلوا
خارج الصورة
لأسباب محض تقنية؟ واذا كان جواب ايستوود حاسما في حينه، الا ان الرد
الأعنف على
هذا السؤال جاء مع "غران تورينو": فكوالسكي يقدَّم في البداية باعتباره بطل
حرب
كوريا، لنكتشف بعد حين ان ليس هذا الا رأي السلطة فيه، وليس
رأيه بنفسه.
في
"رايات آبائنا" ولاحقاً في "التبديل" لم يكن هدف
ايستوود ان يختبر اشياء جديدة على
المستوى الجماليّ، فقد طبق ما تلقنه من معلميه خلال حياته. وعلى رغم أن
الشريطين
يعيدان الى الاذهان باقة من تلك الافلام التي انتجت في منتصف القرن الماضي،
اي
النوع السينمائي، الاميركي بامتياز، الذي أسس مفهوماً آخر للانتصار
والبطولة، للعدل
والشهادة، فهما يحرصان في الوقت عينه، على تعطيل الانماط السائدة.
بقدر ما يواصل
فهم ما تعنيه التضحية العسكرية، يحاول
ايستوود بالقوة نفسها أن يتدارك مختلف وظائف
الصورة التي يلجأ اليها لكشف ألاعيب السلطات الاميركية، وتُستخدم في مكان
آخر
لتضليل الرأي العام وتغيير الحقيقة. هناك وظائف متعددة للصورة يحاول
ايستوود ان
يدرسها. أما "التبديل" فهو تراجيديا أميركية أخرى، من تلك التي صار صاحب
"فتاة
المليون دولار" خبيراً في تصويرها، فيلماً بعد فيلم. تيمة
التسامح في قلب العمل،
لكن ايستوود يعرف من يسامح وعلى من يحقد.
في بلاد تتقاسمها السلطتان الدينية
والسياسية، من سحيق العهود، يموضع حوادث
"التبديل" ثم يعود ويموضوع فيهما مجدداً
حوادث "غران تورينو". بعد "فتاة المليون دولار"، مرة أخرى ينجز ايستوود مع
"التبديل" فيلماً مسيّلاً للدموع على عكس جديده
الذي يعمل وفق آلية سيناريستية أقل
انفعالاً، ويخلو كلياً من النيات الحسنة.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
12/03/2009 |