* لازال أغلبنا يذكر ليلة مباراة الفريق القومي المصري ضد الكاميرون
علي كأس بطولة إفريقيا والتي أقيمت باستاد القاهرة. وأقامت مصر. ولم تقعدها
إلا بصفارة نهاية المباراة معلنة فوز الفريق المصري "1 صفر". وفوز ملايين
المصريين بساعات من الفرحة والبهجة والاحتفالات الممتدة التي كشفت عن
ابتكارات جديدة في الإعلان عن الانتماء للوطن كإرتداء القمصان والقبعات
ورفع الأعلام ورسم الوجوه بألوان العلم المصري. لا فرق بين غني وفقير.. هذه
الساعات الاستثنائية يستعيدها هذا الفيلم السينمائي الجديد الذي يستعير
نتيجة المباراة "واحد صفر" كعنوان له ليقدم رؤية صناعة. أو علي الورق.
صانعاته. لمصر المتأزمة وهي تبحث عن البهجة.. وتحاول النسيان.
المفارقة الأولي في الفيلم أن مؤلفته مريم نعوم. ومخرجته كاملة أبو
ذكري. صغيرتان في العمر لم تصلا إلي سن الحكمة الدافع لتأمل الحياة علي هذا
النحو الشامل والعميق. والمفارقة الثانية أن الفيلم. بكل عمقه وقوته.
بمثابة رد علي نقاش دار وتكرر في الأيام الماضية من البعض الذي رأي تحية
المرأة في عيدها العالمي بدعوتها للعودة للمنزل من خلال برامج عديدة بعضها
عبر القنوات المصرية. والرد هنا أن هذا الفيلم أبلغ تعبير عن حرية المرأة
في العمل والإبداع فبجانب الكاتبة والمخرجة توجد مديرة التصوير الرائعة
نانسي عبدالفتاح والمونتيرة القديرة مني ربيع وعلي دعاة الوصاية علي النساء
الانسحاب والصمت. والفيلم بعد هذا هو دراما مستعرضة لشريحة من الحياة تجتمع
فيها شخصيات تتفاوت كثيراً اقتصادياً واجتماعياً ودينيا. وكل واحد أو واحدة
منها يحاول أن ينحت حياته في مناخ صعب. أو يتحايل عليها. بطريقته. كي تسير
به بدون توقف. صحيح أن أغلب الشخصيات هنا متأزمة اقتصادياً واجتماعياً.
ولكن ما يجمعها مع الشخصيات "المرتاحة" اقتصادياً "نيفين شريف سليم" أزمات
أخري معبرة عن صراعات قوي أكبر. أو عن طبقات استفادت من الأزمات التي خفقت
الأغلبية.. وحيث اختارت المؤلفة نماذجها بعين واعية ليطرح كل منها شريحة
منتشرة. بداية من منادي السيارات العجوز رجب "لطفي لبيب" وحفيده "علي" الذي
ترك المدرسة ويعمل أحياناً علي ميكروباص. كلاهما ليس له إلا الآخر. لكن هذا
لا يمنع علي من الاستيلاء علي مدخرات جده وبعض من "حشيشه" الذي يبيعه
للزبائن المخصوصين. وحين يسقط الصغير أمام سيارة ملاكي يقودها المذيع شريف.
يجيد تمثيل دور الجريح حتي يحصل علي مال وهو ما يسعد جده حين يجري ليلحقه
في المستشفي. فالاثنان من "صنف واحد" وليس عائلة واحدة فقط. تعلما من حياة
القاع ما يكفي ويزيد!
عناء.. وفقر.. وحرمان
* في إطار اختيارات المخرجة للتمثيل تفاجئك قدرتها في اكتشاف الممثل
من جديد مثل أحمد الفيشاوي في دور "عادل" الحلاق في محل محترم. والذي يدخر
ماله وبقشيشه لفتح محل خاص به طبع من أجله كروتاً يوزعها علي الزبائن خلسة
فتصل لصاحب المحل الذي يطرده فيتحول بإحباطه إلي الخناق مع أمه هدي
"انتصار" الكوافيرة والمدلكاتية البيتي التي توزع وقتها من الصباح للمساء
بين بيوت الزبونات. تبيع لهن أحياناً كريمات صناعة يدوية وتطرد حين تصاب
واحدة منهن بحساسية فيقطع عيشها وهي التي تعول نفسها وابنها وتقاوم عيون
الآخرين ممن يرونها أرملة وحيدة ومرغوبة.. في حين يختلف الأمر مع "ريهام"
التي تعيش بنفس الحارة. المحجبة التي تعمل ممرضة تعطي الحقن للناس في
بيوتها "نيللي كريم" والتي تعيش أزمتين. أزمة الاحساس بأن أحداً لا يهتم
بها من الجنس الآخر ولا يدرك أنوثتها. وأزمة الصراع مع اختها نادية "زينة"
التي تمردت علي فقر الأسرة وسلمت نفسها لمنتج ومخرج الكليبات سليم صالح
"حسين الإمام" ليطلقها كمغنية ويدير شئونها. ويعلو الصراع حين تحضر نادية
التي أصبحت زنينة لتري الأم وتعطيها نقوداً تدرك "ريهام" أنها أكثر بكثير
مما تكسبه هي مهما كان سخاء بعض زبوناتها مثل "نينة" الثرية تقوم بدورها
إلهام شاهين. التي تعيش أزمة خاصة بها. فقد تزوجت من حول حياتها لجحيم
لسنوات ثم هجرها وتركها كالبيت الوقف لثلاث سنوات. وحين طلبت الانفصال عنه
حصلت علي الطلاق بعد خمس سنوات أخري من الكنيسة. ولكنها لا تستطيع الحصول
علي إذن بالزواج الثاني بعد أن أحبت "شريف ناجي" المذيع الشهير. وطلبت هذا
الإذن. وزادت المشكلة تأزماً حين حملت منه ورفضت رغبته في الاجهاض لتكتشف
أنه جبان.. وغير مسئول.. لا يحب إلا ذاته ويخفي مشاعره بقناع التعالي وشرب
الخمر ليتوازن. لكن العكس هو ما يحدث. حين تحل "نيفين" ضيفة علي برنامجه
فيحاول إدانتها وإهانتها بدعوي الصراحة فتفاجئه بعدوانية وصفاقة تكشفه..
وحين يهرب بسيارته مسرعاً ويصدم الطفل "علي" يهرع لنقله للمستشفي والاتفاق
معه علي تعويض مالي حتي يوقف المحضر ويمنع الفضيحة عنه. وفي الجزء الأخير
من الفيلم. حيث وقت المباراة. يجتمع نصف الأبطال في قسم البوليس في حالة
صمت. فلا صوت يعلو علي صوت المباراة التي تجمع كل الضباط والجنود والأمناء
يتابعونها. وهو نفس ما يحدث في الحارة. والقهوة حيث يقف ويجلس الجميع
يشاهدون المباراة. وكأنها مباراة حياة أو موت.. بل أن الفيلم يمر سريعاً
علي المستشفي مع علي وشريف لنري "الأطباء" غير مستعدين لإغاثة الطفل لأن
المباراة دائرة تعبيراً عن مفارقة مصرية خالصة. فمن "أجل مصر" يهمل الجميع
أداء واجباتهم بدلاً من أن يحدث العكس. وكأن المصريين قد صنعوا قاموساً
جديداً لمعاني جملة "حب الوطن".. ومع هذا. أو برغمه. فإن توقيف العمل لأجل
المباراة ينفرج عن تسهيل واضح في الإجراءات بعدها "وسماحة" شرطية تجاه كل
الموجودين بالقسم.. بعد إعلان النتيجة.. ولتجد "نيفين" نفسها أمام "شريف"
وهي التي حضرت مسرعة لنجدة "ريهام" التي استغاثت بها بعد أن أخذها أمين
شرطة غير أمين إلي القسم بتهمة خدش الحياء العام لوقوفها علي الكورنيش مع
بائع السندويتشات الذي أحبها في أول لقاء لهما.. تترك المؤلفة والمخرجة
الأبطال لمصائرهم يقررونها بعيداً عن الحل السينمائي.. وتتركنا نتأمل هذه
التراجيديا المصرية العصرية الخالصة بكل ما فيها من درجات الألوان وظلالها.
سواء في بناء الشخصيات والحفاظ علي سويتها بكل درجات التلون الإنساني
ودرجات الإضاءة واستخدامات "الأماكن" الخاصة والعامة. من البيوت الفقيرة
إلي الغنية بمفرداتها وديكوراتها. ومن القسم إلي الاستديو إلي صالون
الحلاقة والدكان. من اجتهاد في التصوير والمونتاج ووضع الجمل الموسيقية
"خالد شكري" إلي اجتهاد في الأداء يوازي قدرة المخرجة في اكتشاف ممثل لدور
بعينه. من لطفي لبيب والطفل أشرف إلي إلهام شاهين وخالد أبو النجا وانتصار
وأحمد الفيشاوي ونيللي كريم وزينة وحسين الإمام إلي أصحاب كل الأدوار
الصغيرة المتميزين أيضا في أدوار أمين الشرطة. والضابط والطبيب. وحتي ذلك
الرجل الذي تحرش بانتصار أو "هدي".. في الأتوبيس.
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في
12/03/2009 |