بمناسبة النجاح الذي حققه فيلم «المليونير المتشرد» نشرت مجلة «نيوزويك»
(24 شباط 2009) مقالة للصحافي الهندي سوديب مازومدار، الذي عاش أيضاً في
أحياء البؤس الهندية.
وهنا نصه:
في طريقي لمشاهدة فيلم
SLUMDOG MILLIONAIRE (المليونير المتشرد) في كالكتا، طلبت إلى سائق
التاكسي أن يمر بحي الفقراء في تانغرا. عشت هناك قبل 35 عاما عندما كنت في
نهاية سني مراهقتي، لكن المكان لم يكد يتغير عما كان عليه. مضت السيارة عبر
متاهة من الممرات الضيقة بين الأكواخ المبنية من البلاستيك الأسود والمعدن
المعوج. كان رجال هزيلون يجلسون في الخارج وهم يمضغون التبغ ويبصقون في
التراب. وكان هناك أطفال عراة يتبرزون في الخلاء ونساء اصطففن عند صنبور
المياه لجلب الماء في أوعية بلاستيكية بالية. كان المكان يعج برائحة
القاذورات والفضلات البشرية. وقد لاحظت فرقا واحدا عما كانت عليه الحال في
ستينات القرن الماضي، وهو أنه كان في بعض الأكواخ تلفزيونات ملونة.
ومازلت أسال نفسي كيف استطعت أخيرا أن أتحرر من هذا الواقع. بالنسبة إلى
جمال، المتشرد في الفيلم الذي حصد 8 من جوائز الأوسكار الأسبوع الماضي من
إخراج داني بويل، فقد فعلها بالطريقة السينمائية التقليدية، أي عبر الحب
الحقيقي والجرأة والحظ الجيد. ولايزال الناس يمتدحون ما يقوم به الفيلم من
تصوير «واقعي» لحال أحياء الفقراء في الهند. لكن ليس هنالك من شيء من هذا
القبيل، فالحياة في هذه الأحياء سجن، وهي تجردك من الثقة في النفس أمام
الأغنياء والمحظوظين وتسلبك عزة نفسك وتقتل طموحك وتحد من خيالك وتصيبك
بشلل نفسي كلما خطوت خارج نطاق حيك وطمأنينته. إن معظم الناس في الأحياء
الفقيرة لا يحصلون أبدا على نهاية كخواتيم قصص الجنيات.
وقد كنت أكثر حظا من جمال من هذه الناحية، إذ لم أكن يتيما. كان والداي من
عائلات شبه غنية من البنغال الشرقية (بنغلادش الآن)، لكن الزوجين حديثي
الزواج فقدا فعليا كل ما كانا يملكانه في الاضطرابات الطائفية التي سبقت
استقلال الهند. وقد فرا إلى باتنا، عاصمة ولاية بهار في شمال شرق الهند،
حيث ولدت بعد بضع سنوات. وقد ولدت كبرى أخواتي الخمس في كوخ تقطنه الجرذان
ذات ليلة ماطرة عندما كان عمري ثلاث سنوات. كان والدي خارج البلدة يخدم
كعامل بناء على بعد 100 ميل. أرسلتني أمي مع أخي البالغ من العمر ست سنوات
لإحضار القابلة، وهي امرأة أمية تدخن الأفيون. ولد الجنين قبل أن نصل،
وقامت القابلة فقط بقطع الحبل السري بشفرة حلاقة وغادرت. وقضت أمي بقية
الليلة وهي تحاول أن تجد بقعة تحت السقف لا يتسرب منها الماء على الوليدة.
أخرجنا والدانا من الأحياء الفقيرة بعد ثلاث سنوات، حيث وجد والدي عملا
ككاتب بسيط في شركة إنشاءات كانت تبني سدا، ووجدنا بيتا أيضا. كان عبارة عن
غرفة واحدة مستأجرة، ولكنه كان أفضل من أي شيء حصلنا عليه في باتنا. انتظمت
في المدرسة القريبة، وعندما كان المعلم يغفو في غرفة الصف، كنا نتسلل من
النافذة لنسرق الجوافة الناضجة من بستان قريب. ولو أمسك بنا أحدهم، لعوقبنا
ضربا بالعصا أمام الصف. كان الضرب أحيانا يسلخ جلد ظهورنا. ولكن في مرحلة
المراهقة المبكرة، كنت أتجول مع عصابة محلية كانت العضوية فيها مصدر ثقة
وأمان وإثارة. كنا نسرق من أصحاب المحال والمزارعين ونبتز المال من سائقي
الشاحنات ونقاتل لحماية منطقة نفوذنا. كان كثير من الرفاق من عائلات مشتتة
الشمل أو أبناء آباء سكارى أو يعيشون مع زوجات أب ظالمات. وكان حلم الجميع
أن يحصل على عمل ـ مهما كانت طبيعته ـ مع الشركة التي تبني السد.
وقد انتهت هذه الفترة بشكل مفاجئ عندما دخلنا في تحد مع عصابة منافسة كان
أعضاؤها يتحرشون بفتيات في منطقة نفوذنا. وقد عانى الطرفان جروحا خطيرة قبل
أن تصل الشرطة لفض المشاجرة. ولم يحاول والداي أن يمنعاني من الهرب من
البلدة. تابعت طريقي حتى وصلت إلى رانتشي، وهي بلدة صغيرة جنوب بهار. اتخذت
هناك اسما جديدا واختبأت في حي قذر حيث اتخذني رجل قوي في الحي صديقا له.
كان وأهله يحبون قطع الطريق مستهدفين المسافرين ليلا. كان دائما يبعدني عن
مخابئه ولكنه كان يطعمني عندما لا أجد طعاما. وكذلك تورطت مع مجموعة من
اليساريين الراديكاليين. لم أكن آبه كثيرا بالإيديولوجيا، لكنهم وفروا لي
إحساسا بالانتماء كالذي حصلت عليه من عصابة الشوارع القديمة. وقضيت السنوات
الخمس التالية أنتقل من حي فقراء إلى آخر، وكنت دائما أسبق الشرطة بخطوة.
ولكسب المال كنت أقوم بأعمال متفرقة مثل بيع الصحف وغسل السيارات.
ولولا الكتب لكنت قضيت بقية حياتي في أحياء الفقراء أو في السجن. فعندما
بلغت السادسة من العمر، كان والداي قد علماني الكتابة والقراءة باللغة
البنغالية. وكانت قراءة الأدب تمنحني ملاذا خاصا. فكنت مغامرا شجاعا مع جاك
لندن (مترجما) وكنت أطوف العالم مع جول فيرن. ومضيت في طريقي حتى تعرفت إلى
أعمال بلزاك وهيمنغواي ودوستوفسكي. وأخيرا بدأت أعلم نفسي اللغة الإنجليزية
بمساعدة كتب كنت أستعيرها من أطفال آخرين وقاموس أكسفورد كنت قد سرقته.
ولتعلم اللفظ كنت أستمع لصوت أميركا وبي بي سي وورلد سيرفس من راديو
ترانزستور مسروق. كنت أشعر بإحباط شديد لدرجة أنني كنت أحيانا أنتحب.
بدأت أحوم حول مكاتب صحيفة أسبوعية تصدر بالإنكليزية في رانتشي. ووظفني
ناشرها ومحررها، وهو محام تحول إلى صحافي من أصحاب الفكر المثالي اسمه أن
أن سينغوبتا، كمدقق صفحات ومدقق لغوي مقابل راتب يكافئ أربعة دولارات
شهريا. وهناك التقيت بديليب غانغولي، وهو صحافي مثابر طموح كان في زيارة
للصحيفة قادما من نيودلهي. علم أنني أعيش في حي للفقراء وأعاني قرحة في
الاثني عشر، وذات ليلة مر على المكتب بعد العمل ووجدني مريضا بما لا يخفى
على من يراني. دعاني إلى نيودلهي وفي اليوم التالي ودعت أصدقائي في الحي
وتوجهت إلى المدينة معه.
وفي نيودلهي مارست لغتي الإنكليزية مع كل من كان مستعدا لسماعي. وحصلت في
النهاية على تدريب غير مدفوع الأجر في يومية صغيرة تصدر بالإنكليزية. كنت
أهذي من الفرح وكنت أقضي كل ساعات يقظتي في الصحيفة، وبعد ستة أشهر حصلت
على وظيفة بأجر. وانتقلت من هناك إلى صحف أكبر ومهام أفضل. وعندما كنت في
جولة في أميركا في منحة زمالة، قمت بزيارة نيوزويك وتوظفت بعد ذلك بفترة
قصيرة. كان ذلك قبل 25 عاما.
منزلي الآن شقة متواضعة مستأجرة في تجمع سكني مغلق في نيودلهي وأحاول
البقاء على تواصل مع أصدقاء الماضي. بعضهم قد توفي وآخرون أصبحوا مدمني
كحول والقليل منهم استطاع أن يبني حياة جيدة لأنفسهم. وقد التقيت بأناس من
سكان الأحياء الفقيرة سابقا استطاعوا الخروج من القفص بالرغم من عوائق كانت
أشد مما واجهت. ومع ذلك فإن معظم سكان هذه الأحياء لم يستطيعوا الفرار
منها، لا هم ولا أولادهم. ولا أحد يريد أن يشاهد فيلما يتحدث عن هذا.
لقد حقق فيلم
SLUMDOG
MILLIONAIRE
نجاحا باهرا لأنه زاخر بالإثارة والأمل والطاقة الإيجابية. لكن تذكروا
حقيقة بشعة: الأحياء الفقيرة قائمة وأحد أهم أسباب ذلك أنه مسموح لها أن
تكون. والمتشردون من أبنائها ليسوا فقط ممن يجب أن تتفتح عقولهم.
المستقبل اللبنانية في
01/03/2009 |