يختار
المخرج الجزائري
لياس سالم ذي الخمسة والثلاثين عامًا البحث عن سينما جزائرية فقدت أو كادت،
كموضوع
مركزي غير معلن لفيلمه الروائي الأول »مسخرة«، الذي كتبه (مع
الفرنسية نتالي سوجون)
وأخرجه
ومّثل فيه، والذي لم ينقصه الاحتفاء والتتويج في غير مكان، آخرها عندما حمل
ذهبية المهر العربي في مهرجان دبي
السينمائي ٢٠٠٨ . يأتي »مسخرة« بعد أشرطة قصيرة
تبعت تخرج لياس سالم في المعهد الوطني للفنون الدرامية بباريس، احتفى بها
وتلّقت
بدورها من الثناء الكثير (سيزار أفضل فيلم قصير لـ»بنات العم« مثلاً عام
٢٠٠٥).
يؤسس لياس
سالم، السيناريست والمخرج، صورة الجزائر العائدة بسينماها على
موضوعات الفراغ والحلم والناس، جامعًا هذه الموضوعات في نسق
لعبي ونفس حكاياتي.
ولعلّ
أكثر ما يلفت النظر في عمل سالم الطويل الأول هو جزائره المختلفة عن تلك
التي حملتها سينما جيله، الخارجة مترددًة
مترنحًة من حواجز القتل وسنوات
الترويع. ففي »مسخرة« لا قتل ولا ذبح. لا رصاص ولا سكاكين. لا اغتصاب ولا
نساء
مهانات ولا بطلات. لا ثورة نظيفة ولا فساد ثوري. لا استعمار
ولا استقلال. لا جوازات
سفر ولا تأشيرات، مشتراة، ولا مسروقة. »مسخرة« هو جزائر التفاصيل والنعاس
والأحلام
السعيدة. جزائر إشاعات الحي وعنتريات الرجال وثرثرة النسوان.
جزائر
مواعيد الحب
المسروقة ليلاً تحت الشباك. جزائر الناس. جزائر ربما لم يختر المخرج عبثًا
أن
يصورها في قرية صفراء من قضاء بِسكرة، المعروفة بـ»بوابة الصحراء«، تلك
الجغرافيا
الرمزية التي تتاخم فيها أرضان في بلد واحد: أرض ضيقة للبشر
والزحام والسعي، وأخرى
للفراغ والرمل والصمت، تستطيل على القسم الأكبر من مساحة هذا البلد.
يبدو سالم
بخياره
ذاك ومن تعامله مع الفضاء، كأنه يثبت الفراغ كتيمة محورية في فيلمه،
مراهنًا
أولاً وأخيرًا على الناس، وعلى الناس وحدهم، بقصصهم ومشاكلهم وأشيائهم
البسيطة
المتهالكة، بحبهم وبترددهم وبأحلامهم، لإعطاء هذا الفراغ
معناه، تمامًا كما لا تبرح
شخصيات الفيلم تحاول ملأه في المشاهد الخارجية الكثيرة المصورة في محيط
القرية،
والتي يشكل الخواء الأصفر خلفيتها ويتحول، في التنويع على هذا البناء في
مشاهد
مختلفة، إلى خلفية للفيلم بامتياز.
هكذا،
وكما تأتي تلك اللقطات عارية إلا من
الوجوه والحكي، يطرح »مسخرة« الرغبة بالاستمرار، الحلم بحياة أفضل والقدرة
على
الحب، كغاية وسبب للحياة، وكقيم عليا قائمة بذاتها.
في هذا
الفراغ تبزغ قرية
يعيش فيها منير (لياس سالم) مع زوجته (ريم تعكوشت) وابنه وشقيقته الصغرى
ريم (سارة
رقيق). هذه الأخيرة تعاني من مرض يفقدها السيطرة على يقظتها، فتغفو على حين
غرة، ما
إن يباغتها النعاس، وتشرع تحلم. مرض ريم ينذرها للعنوسة. أخوها
منير، الذي يعمل
جنائنيًا لدى كولونيل لا نرى منه في الفيلم سوى سياراته النظيفة، يقوده
قهره أمام
مصير أخته الاجتماعي إلى إطلاق كذبة: ريم ستتزوج من رجل ثري... الأخت لكي
تغيظ
حبيبها خليفة (محمد بوشايب) الذي لا يتجرأ طوال أربع سنوات على
طلبها للزواج لفقره،
تدخل اللعبة فورًا وتنطلق تصف وليم »فوكوتين«، عريس الغفلة،
الأسترالي، الغني
والشجاع، والذي»يْهبِّل«!
هكذا
ببراعة وخّفة يبني سالم موضوعته الأخرى، الحلم،
معّلقًا إياها كخيوط شعرية تتلامس وتتلاحق على طول الفيلم: في »مسخرة« الكل
يحلم.
ريم تنام لتحلم بخليفة. وخليفة يحلم بيوم يكسب فيه رزقه من »الفن« ويصبح
فيه أهلا
لا للزواج
بها. منير يغوص في كذبته ويستلذّ بحلم الثروة والسعادة وبموقعه الجديد
المركزي بين الناس كرجل سيصبح ثريًا عما قليل. والقرية، كل القرية، تحلم
بالأسترالي
الذي سيأتي به منير وأخته، والذي سيخرج الناس من بؤسهم ومن
الغبار الذي يغطي
أقدامهم نصف الحافية، ولن تصدق، حتى بعد أن تنكشف الـ»مسخرة«، أن الأسترالي
ما كان
من
أساسه.
على طول
هذه الكذبة تبدو الشخوص كأنها تلعب: تلعب مع بعضها البعض في
سخرية ممتعة لا ينقصها الذكاء، وتلعب، في ما هي تسخر، مع
كلاسيكيات السينما التي
تحاكيها في غير مكان. ويمضي الفيلم هكذا مشاكسًا، عابثًا مع مشاهده، ينتزع
ابتسامه
وضحكه، ويفلت بنعومته وعبثه من تبرم هذا المشاهد أو أحكامه أمام كبوة
درامية هنا أو
هناك!
وفي لقطة
تختزل الفيلم، تلك التي يلتقي فيها خليفة وريم في عناق سينمائي
كلاسيكي مبالغ به عن عمد، خلفيته الفراغ إياه،
يسأل خليفة ريما: ماذا تفعلين؟
وتجيب وهي تتعلق بعنقه إنها تفعل »كما يفعلون في السينما«. خليفة يسكت ثم
يقول لها
إنهم، في السينما، يفعلون أكثر من ذلك. وتقول إن الوقت لم يحن
بعد... »ما زال«. ما
الذي لم يحن وقته؟ هذا ما لا يجيب عنه الفيلم، إلا مجازًا.
كما تتحول
كذبة منير
إلى حلم ثم إلى حقيقة في عيون أهل القرية، لا يجد لياس سالم ضيرًا في أن
يقدم
واقعًا يحب له أن يشبه الأحلام، ويقود فيلمه - دون أن يتوّقف عن اللعب -
نحو نهاية
بالضرورة سعيدة، طالما أن الحلم بالسعادة ممكن. هكذا يصل إلى
القرية شيخ لا ينتظره
أحد. يطرق باب ريم وخليفة ويقول إنه »أُرسل« إلى هنا، ويشير إلى سماء
بعيدة. وهكذا
يعقد قران الحبيبين ويزّفان في سيارة العريس الخردة. ويفشل الجار اللئيم،
والذي يصر
على انتظار الأسترالي، في إفساد العرس، وينفض عنه الناس...
نهاية جديرة بحكايات
الأطفال التي يكسر الخيال فيها الاستحالات المنطقية، ويترك الأولوية للفرح.
الفرح.
وهي كذلك نهاية جديرة بفيلم يتكّلم عن أحلام الناس الأبسط، وينتصر لها،
بفيلم
يتماهى فيه الحالمون بأحلامهم، ويمر على مشاهِده كبوح رقيق.
فيما هو
يحلم ويطرح
الحلم كمشروع، يصير »مسخرة« حلمًا بذاته. يصير حلمًا بفيلم جزائري جديد لا
يختلف
عما »يفعلون في السينما« بشيء. وكقبلته السينمائية المفتعلة البارعة التي
يتركها
معّلقة غير ناجزة، يراهن»مسخرة« على سينما محترِفة وعذبة في
آن، أبطالها شباب نضرون
من
بلد عتيق. سينما ربما لم ينضج وقتها بعد، لكن ينتظرها لياس سالم بشغف كبير،
ويَعِدُ بها بطموح.
السفير اللبنانية في
22
يناير 2009 |