قصّة حبّ،
أم مرآة
شفّافة لمأزق العيش في اللحظة التائهة بين الحلم والواقع؟ علاقة رومانسية
تذهب
بالثنائي العاشق إلى ارتباك الحياة اليومية، أم صُوَر فنية جميلة وقاسية
تعكس
الاصطدام الخطر بانكشاف الأوهام والعجز عن التحرّر من قيود
الحياة التقليدية
والرتيبة؟ تصوير حسّاس للانفعال الإنساني بأنواعه المتفرّقة، أم التقاط
حيوي وجميل
لنبض اجتماعي ولتحوّلاته المختلفة، في الخمسينيات الأميركية الفائتة؟
لا تنتهي
الأسئلة.
فالفيلم الجديد للمخرج البريطاني سام مانديس (مواليد ريدينغ، إنكلترا، في
الأول من آب ١٩٦٥)، »الطريق الثورية« (تمثيل ليوناردو دي كابريو وكايت
وينسلت، في
لقائهما الأول بعد أحد عشر عاماً على تقديمهما معاً قصّة الحبّ
الشهيرة على متن
الباخرة الأشهر »تايتانيك«، التي صوّرها جيمس كاميرون في العام ١٩٩٧). مليء
بالمعاني والتفاصيل والقراءات، ومشغول بحرفية لافتة للانتباه، لقدرتها على
تحليل
الواقع الاجتماعي/ الإنساني في تلك الفترة الأميركية،
ولتسليطها ضوءاً قاسياً على
تقاليد العيش في أوهام الحياة الأميركية الطالعة من احتدام النقاش حول
»الحياة
العصرية« و»التطوّر المجتمعي« و»الثورة الثقافية« (إذا جاز التعبير)،
خصوصاً بعد
مأساة الحرب العالمية الثانية، وخروج الولايات المتحدّة إلى
العالم، والحملات
الماكارثية، وأسئلة العصر والحداثة والتقنيات المتطوّرة. والفيلم، إذ يحمل
في طياته
الدرامية عناوين عدّة، يسمح لهواة التحليل الاجتماعي/ السياسي/ الثقافي أن
يذهبوا
بعيداً في مقاربة الحياة الأميركية من خلال قصّة الحبّ
والعلاقة الزوجية بين
الثنائي الأجمل على الشاشة الكبيرة. والعناوين تلك، إذ ترسم خارطة شبه
متكاملة
للمجتمع الأميركي، تتيح لهواة السينما فرصة التمتّع بأداء تمثيلي مهمّ لا
ينحصر في
براعة الثنائي دي كابريو/ وينسلت فقط، بل ينسحب على الممثلين
الآخرين أيضاً (مايكل
شانون وكاترين هان وديفيد هاربور وغيرهم، وأبرزهم كاتي بايتس، في دور
المرأة
الأميركية النموذجية، المليئة كذباً وافتراء وحيلةً، والبارعة في إقامة
العلاقات من
دون أن تتعمّق فيها، إنسانياً على الأقلّ، لتحقيق مصالحها)،
وتجعلهم منجذبين إلى
فيلم مرتكز على نصّ سينمائي متين، وسيناريو محبوك، وتوليف بديع، ولقطات
تصويرية
جميلة (خصوصاً تلك المتعلّقة بكايت وينسلت، في لحظات وحدتها القاسية)، ونسق
درامي
وقع، أحياناً قليلة، في العاديّ، وانتهى في لقطات عدّة، كان
يُمكن لكل واحدة منها
أن
تُشكّل خاتمة ما لمسار إنساني عنيف وسجالي.
المسألة
الأميركية
لم تكن
المرّة
الأولى التي يُقدّم فيها سام مانديس، القادم إلى السينما من تجربة مسرحية
طويلة، عملاً سينمائياً متميّزاً بجمالياته الدرامية والفنية والتقنية،
وبقوّة
صُوَره المنسحبة على أسئلة الوجود والهوية وثنائية الخير
والشرّ، والسعي إلى الحرية
الفردية، والبحث عن خلاص من حصار الأوهام الخانقة. فعلى الرغم من أفلامه
القليلة
العدد، التي بدأ إنجازها في نهاية القرن العشرين، بتحقيقه »جمال أميركي«
(١٩٩٩)،
عاين مانديس تلك الأسئلة، مبتعداً كلّياً عن تقديم أجوبة معلّبة أو جاهزة،
ومغيّباً
الأحكام المسبقة. وهي أسئلة لا تزال تثير شهية كثيرين، لأنها
مرتبطة بالواقع
والذاكرة وأنماط العيش والسلوك الفردي/ الجماعي، وبالمسارات المختلفة التي
تنتهجها
المجتمعات البشرية، وثقافاتها وفضاءاتها الإنسانية. أسئلة مشحونة بكَمّ
هائل من
البراعة السينمائية، التي يستطيع المرء استعادتها من أفلامه
السابقة أيضاً، بدءاً
من
»جمال أميركي« (تمثيل: كيفن سبايسي وآنيت بيننغ وثورا بيرش): »الطريق إلى
التطهّر« (،٢٠٠١ تمثيل: توم هانكس وبول نيومان) و»جارهيد« (،٢٠٠٥ تمثيل:
جاك
غيلينهال وجيمي فوكس وبيتر سارسغارد)؛ ووصولاً إلى »الطريق
الثورية«. ولعلّ
الملاحظة المنبثقة من السيرة الذاتية والمهنية لمانديس، تكمن في مفارقتين
اثنتين
مترابطتين فيما بينهما: الأولى، جنسيته البريطانية؛ والثانية، اهتمامه
بالمجتمع
الأميركي. ذلك أن المحاور الدرامية والعناوين الثقافية الخاصّة
بأفلامه الأربعة
هذه، نابعة من أعماق البيئة الأميركية، وإن طالت الأسئلة المتنوّعة البُعد
الإنساني
العام. فـ»جمال أميركي« منصبٌ على قراءة العلاقة المتناقضة بين
الشكل والمضمون في
الحياة الأميركية اليومية، ومرتكز على تحليل البنية الاجتماعية واكتشاف
حقيقة أن
»الحلم الأميركي« وَهْمٌ يؤدّي
بأصحابه إلى التمزّق والانكسار والخيبات (لم
يشذّ »الطريق الثورية« عن هذا الإطار كثيراً، وإن اختلف عن »جمال أميركي«
في أمور
درامية وفنية وثقافية عدّة). و»الطريق إلى التطهّر« (يوحي العنوان بسؤال
ديني،
لكنه، في الوقت نفسه، اسم شارع تتمّ فيه »عملية« التطهّر
الأخير قبل الموت؛ تماماً
كما يتلاعب مانديس بعنوان فيلمه الأخير، إذ إنه اسم شارع تدور فيه أحداث
الفيلم،
ودلالة رمزية للدرب التي يُفترض بها أن تؤدّي إلى الانقلاب والثورة
والتمرّد، أي
إلى الخروج من شرنقة الحلم/ الوهم الأميركي)، متوغّل في
تداعيات الانهيار الاقتصادي
الكبير الذي أصاب الولايات المتحدّة في العام ،١٩٢٩ من خلال عالم المافيا
الإيرلندية في شيكاغو، والنزاعات المريرة التي تخوضها، على خلفية أسئلة
الانتماء
والبحث عن خلاص وسط بحر الدم والعنف والجثث. أما »جارهيد«،
فمختلف تماماً عن
الفيلمين السابقين، وإن حافظ على اللغة النقدية والسجالية التي أتقنها
البريطاني
مانديس في تعاطيه مع »المسألة الأميركية«: إنها حرب الخليج الأولى، في مطلع
التسعينيات المنصرمة، مقتبساً إياه عن رواية بالعنوان نفسه
لأنتوني سوفورد، ذهب سام
مانديس إلى المملكة العربية السعودية، برفقة جنود أميركيين شباب، وجدوا
أنفسهم فجأة
وسط الصحراء الشاسعة، لمحاربة »عدو شبح«. ومن خلال يومياتهم،
يرسم لوحة قاسية عن
بشاعة الحياة والانهيار النفسي والبحث في مفردات العلاقة بالآخر ومعنى
الحرب
والموت.
أسئلة
مع
»الطريق الثورية«، عاد مانديس إلى قلب البيئة الاجتماعية
الأميركية. عاد إلى مفاهيم العائلة والعلاقات العاطفية والحبّ، وأسئلة
الخيبة
والغرق في روتين العيش اليومي وضياع الأحلام. عاد إلى التمزّق
الذاتي إزاء العجز عن
تحقيق حلم، وإلى التفكّك العائلي بسبب سلطة أم (عائلة كاتي بايتس)، أو رفض
الزوج
القيام بمغامرة الخروج من نفق الأوهام التي يراها »مثالية«. وذلك كلّه من
خلال
فرانك (دي كابريو) وزوجته آبريل ويلير (وينسلت)، منذ لحظة
لقائهما الأول في إحدى
السهرات. غير أن ما يظهر عادياً وبسيطاً وجميلاً في البداية، يكشف سريعاً
عن
الجوانب المعتمة في العلاقة المرتبكة بينهما: موظّف عادي جداً في شركة
تصنيع أجهزة
تقنية ومكتبية، وممثلة مسرح تُصاب بصدمة الفشل الفني، وتقع
أسيرة صدمات متتالية،
لحيويتها ورغباتها في التغيير والتطوّر والبحث عن الجديد وخوض المغامرة
لاكتشافه،
من
دون أن »يُسمح« لها بعيش المغامرة والتفلّت من الرتابة القاتلة في أحضان
طبيعة
هادئة ومجتمع يتوهّم الهدوء والسكينة والجمال (أليس هو »الجمال
الأميركي« نفسه،
أيضاً؟). إنها نقيض حبيبها/ زوجها. لكن، في لحظة ما (أهي الصدفة، أم لعبة
القدر؟)،
تُقرّر تحريضه على التغيير: في ليلة عيد ميلاده الثلاثين (أمضى فرانك بعد
ظهر اليوم
نفسه برفقة زميلة له في الشركة في أحد المطاعم، قبل مرافقتها
إلى غرفتها
لمضاجعتها)، تخبره أنها ترغب في بيع كل ممتلكاتهما وجمع أموالهما والسفر
إلى باريس
للإقامة هناك معاً، برفقة ولديهما. أخبرته أنها مستعدّة للعمل كسكرتيرة في
مؤسّسة
حكومية (راتب مغر)، وأنه غير مطالب بالعمل، بل بعيش أحلامه
واكتشاف نفسه، خصوصاً
أنه لم يستطع فعل ذلك سابقاً، مع أنه زار باريس أثناء تأديته الخدمة
العسكرية في
الأعوام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية (تدور أحداث الفيلم في منتصف
الخمسينيات). عندها، تبدأ خيوط اللعبة الجهنمية (هل تدخّل
القدر لتحطيم العائلة
وأحلامها وهواجسها واندفاعاتها وطموحاتها؛ أم إن قسوة الواقع أقوى من قدرة
المرء
على الخروج من حطامه اليومي؟) في دفع الزوجين إلى صدامات، لا
تخلو من أسئلة
الانتماء والمستقبل والأمومة والمغامرة، والتفاصيل الحياتية الصغيرة أيضاً.
ن.
ج.
يُعرض،
بدءاً من بعد ظهر اليوم، في صالات »كسليك« و»سينما سيتي« (الدورة)
و»أمبير سوديكو« و»غالاكسي« (بولفار كميل شمعون) و»غراند أ ب ث« (الأشرفية)
و»غراند
كونكورد« (فردان) و»غراند لاس ساليناس« (أنفة)
السفير اللبنانية في
22
يناير 2009 |