الرسوم
المتحركة هي الحيلة التقنية والمنهجية التي يلجأ إليها في هذه الآونة
المخرجون الذي يريدون طرح قضايا بالغة الحساسية وهكذا لم تجد المخرجة
الإيرانية مرجان سترابي في فيلمها برسيبوليس والمخرج الإسرائيلي إري فولمان
في فيلمه فالس مع بشير الذي قدم مؤخرا في عرض خاص في هنغار أمم بداً من
استخدام هذه التقنية لما تتيحه من إمكانيات تعبيرية ونظام رمزي لا تستطيعه
السينما العادية التي تصور فيها شخصيات بشرية الوقائع والحوادث والمواقف
التي يراد التعبير عنها.
يعود سبب
ذلك إلى جملة أسباب لعل من أهمها أن الممثل البشري الحقيقي هو كائن خاضع
للتغير والتبدل ولا يلازم حالة واحدة كما هو حال الشخصية المجسدة كرتونياً
في قالب الرسوم المتحركة مما يعني أن المنحى الدلالي يختلف اختلافاً
بيِّناً في كل من الحالتين ففي حين أن تبدل الشخصية البشرية وتقلبها من حال
إلى حال يفتح المجال أمام رمزية التطور وتغير الأحوال فإن منهج الرسوم
المتحركة يحيل مباشرة إلى رؤية نقدية تمثل الثبات والرسوخ فالقاتل المجسد
كرتونياً لا يبرح حال القتل وكذلك الضحية فكل الشخصيات تنحبس داخل حدودها
المباشرة حيث يكون ما تقوله وما تمثله هو المصير النهائي لها والقيمة
النهائية التي تلازمها دوماً في حين أن الشخص الطيب المجسد بشرياً ممكن أن
يكون قاتلاً في فيلم آخر.
الرقص مع
بشير هو فيلم لمخرج إسرائيلي يحاول مخرجه من خلال لجوئه إلى تقنية الرسوم
المتحركة أن يصور عالماً تتكاثف فيه الرموز وتلتصق ببعضها البعض لتصبح كتلة
صلبة لا يمكن اختراقها. يقترب منها هذا المخرج من خلال شبكة بصرية تعتمد
على ذاكرة ترشح منها مشاهد غامضة وسريعة بحيث يصبح من الصعب فصل ما هو من
صنيع الذاكرة فعلاً وما يتسرب إليها من كوابيس واضحة لدرجة أنها تدخل في
نسيجها لتصبح جزءاً من عمارتها في دوامة دائمة التتابع والسيلان.
يبدأ
الفيلم بمشهد طويل لكلاب شرسة تركض دون أي هدف ليتضح فيما بعد أنها ليست
سوى كابوس يردد مشهداً حقيقياً وهو قتل 26كلباً من الكلاب التي كانت القوات
الفلسطينية تستعملها لرصد المهاجمين.
تلك
المجزرة الفعلية صارت كابوساً رمزياً ومقدمة لجحيم الصور الذي ينفتح على
طول الفيلم ليقول أشياء كثيرة عن كل الظروف التي أدت إلى صناعة مجزرة صبرا
وشاتيلا. ذاكرة الجندي الراوي كانت تبني عنصر عقلانيتها الذي يسمح لها
بالبقاء في مرحلة ما قبل هذيانية بإحالة المشهد الدموي بكل تفاصيله إلى عين
باردة ومحايدة هي عين الكاميرا التي كانت لا تؤرشف فقط للمشاهد العنيفة بل
كانت أيضا تمنع التماس المباشر معها فتخرج هذه المشاهد المسجونة في عينها
وكانها ليست وقائع بل وكأنها ترجيع لأصداء مشاهد سينمائية مستلة من أفلام
الأكشن المعروفة.
الصدمة
بدأت مع تلف الكاميرا عندها تم الإنسلاخ عن شبكة الأمان الرمزية تلك وأصبح
المشهد العنيف عارياً ومباشراً وصار التماس معه يتم عبر وسيط محدود القدرات
وهو الجهاز العصبي حينها صارت الذاكرة تحتاج إلى تأليف أوهامها التي تستبدل
المشهد الحقيقي بظلاله الهذيانية لكي تبقي الكائن الذي لم يستطع أن ينسى
أنه بشري متوازناً إلى حد ما.
هناك دائم
عنصر مزدوج الإحالات يسري في الفيلم فيكهربه بذلك الشحن الذي يبدو فيه
الواقعي وكأنه شهادة على الخيالي والخيالي كشهادة عن الواقعي وذلك عبر
تسريع كل شيء وجعل الحدث أسرع بكثير من قدرة الاعصاب والذاكرة والعين
والعقل على تبيانه وأخذ موقف منه فكما يسرد الفيلم قصة ذلك الضابط الذي
احتل إحدى الفيلات الفخمة في إحدى المناطق اللبنانية وراح يشاهد الأفلام
الخلاعية مسرعاً الصورة إلى أقصى حد فهكذا جرت المجزرة أيضا فهي قد حدثت
بسرعة فائقة.
كل هذا
يعني أن لا أحد قد شاهد ما حدث أو رآه حقا وأنه ماثل فقط في الظنون وفي
ذاكرة الآخر الذي يحيل دوماً ما قد حدث فعلاً إلى ذاكرة أخرى كي ينجو من
ثقلها الذي لا يحتمل وهكذا تكون السرعة هي الحليف الأساسي للجلاد فهي التي
تسمح له بالعبور من قلب المجزرة إلى بر الامان المنسوج من ذاكرات مثقوبة.
يرحل
ويترك المجزرة ورائه تتخبط ساعية للوصول إلى مجال الرؤية المتسارع دوماً
وعندما تسقط من شدة الإعياء تكون قد تمت فعلاً بشكل نهائي فالمجزرة لا بد
أن تخرج إلى المجال العام والفضاء العلني لكي يستطيع ما يسمى بالضمير ان
يقول شيئاً ما بشأنها. حين تغيّب تتمسك بسلاحها الأخير وهو الدخول في
الذاكرة على هيئة كابوس. تذوب المجزرة في جسم الكابوس وتتقمصه فتحيا.
بشير ليس
عنصر السرد في الفيلم بل إنه مجرد وسيلة لدعم تلك البنية المتأرجحة دوماً
بين قطبي الذاكرة والهذيان ولذلك فهو لم يكن رئيساً قتل ثم تم الإنتقام له
بل إنه لم يكن رئيساً أصلياً منتمياً إلى جماعة محددة بل كان رئيساً للوهم
الذي صنعه الإحتلال الإسرائيلي ولذلك لا يكون قتله وتلك المجزرة التي صممها
الإسرائيليون ونفذتها عناصر لبنانية أفعالا وردود أفعال تنتمي إلى سياق
حقيقي يمكن قراءته بشكل محكم وواضح وتبريره تالياً ووضعه في المشهد
التقليدي للحروب الذي تتكرر فيها لعبة الثأر والإنتقام بل كانت حدثاً ينتمي
إلى لحظة الوهم ويدافع عنها. هكذا تتعمق المجزرة في أنها حدثت بلا سبب فمن
غير الممكن ردها إلى اغتيال بشير الذي لم يكن كما يقول الفيلم رئيساً وصل
إلى الحكم من خلال الإرادة اللبنانية.
قتل
الإسرائيليون بشير وحموا مرتكبي المجزرة فكانت صور بشير تقوم برقصة فالس مع
كل الموت وكأنها قادرة على تغطية كل شيء وكأن لا هول مهما كان واسعاً
يستطيع أن يغطيها فهي تبقى دوماً مكشوفة ومتكاثرة وتطالب بالمزيد .ليست
صورة بل هي حجة تنتمي إلى عالم مصنوع من الوهم وتالياً فهي تقيم في حدود
المطلق الذي يسمح بأن تكون المجزرة مفتوحة وواسعة ومشرعة على كل أنواع
الخيال فهل كان هذا كله نتيجة اغتيال بشير الجميل فقط؟هل كان هؤلاء الذين
مارسوا كل هذا الهول الذي لا يمكن رده إلى عالم البشر بشراً قبل الإغتيال
ثم تحولوا مباشرة إثره إلى تلك الكائنات التي لا يمكن وصفها؟هل كانت لحظة
الإغتيال قادرة على صناعة ما يفوق حدود الإنتقام؟ من غير الممكن تصور أن ما
حدث كان نتيجة للإغتيال بل إنه كان مخزوناً وجاهزاً ولم يفعل الإغتيال سوى
أنه سمح له بالظهور؟
لا موضوع
إذاً للمجزرة سوى ذاتها فهي قد تأسست على الوهم ومورست على أساسه لذا فإنها
قد رميت في أقبيته المظلمة التي لا تسمح بمرور أي بارقة نور.
يلجأ
المخرج في نهاية فيلمه إلى استعمال صورحقيقية من أرشيف المجزرة ليقول إنها
قد حدثت فعلاً وإن الوهم لم يطاولها بل هو عنوان مرتكبيها وهو ما انفك
يتكرر دوماً بلا هوادة لأن استحالة أن يكون للمجزرة سبب يجعل الإدانة
تتجاوز حاجز السرعة الكبيرة للحدث لتصبح مطلقة ومتجاوزة للمكان والزمان
فتصبح صبرا وشاتيلا دوماً الإسم الأصلي للمجزرة.
المستقبل اللبنانية في
22
يناير 2009 |