التغييب كمكون سياسي في المسلسل
البنية الايديولوجية التي يدفع "القاهرة: كابول" باتجاه
التفاعل معها، تجد أساسا ومركز انطلاق لها في اطار ما هو أيضا
غائب عن مضمون وشكل الدراما نفسه. فما يتعامل معه المتلقي
كتجسيد "تاريخي متخيل" لقصة عن ارهابي أصولي، لا يتفاعل
ايديولوجيا فقط من خلال ما يختار المسلسل أن يقدمه من معلومات
تاريخية وسياسية محددة عن الارهاب وتطوره في مصر والعالم.
فالتفاعل السياسي المباشر وغير المباشر للمسلسل، وبالتالي تكون
الهوية الايديولوجية لتعاطيه مع موضوع بأهمية موضوع تطور
الارهاب المعاصر في المنطقة، يرتبط كذلك بما هو غائب جزئيا أو
بشكل مطلق عن ما نشاهده أمامنا في المسلسل.
في هذا القسم سأستعرض بعض المرجعيات المفصلية في تاريخ تطور
الفكر الأصولي الديني ورديفه الارهابي والتي غابت عن مسلسل
"القاهرة: كابول"، وكيف أن هذه المرجعيات، حتى في غيابها، تمثل
جزءا عضويا من البنية الايديولوجية للمسلسل. فالتشديد هنا اذا
هو على أن أحد الأولويات المنهجية في عملية رصد التفاعل
الايديولوجي لأي عمل الفني، لا بد له أن يتناول العلاقة
العضوية في ما بين ما هو حاضر في العمل وما هو مغيب عنه.
ومن الضروري التأكيد في هذا السياق أن المقصود في هذا العرض
ليس أن على الأعمال الفنية التي تتعاطى مع التاريخ أن ترتب
"قائمة تدقيق" لما يتوجب عليها ضمه، وان يكن هكذا تدقيق يبقى
مرحبا به في ظل حالة تشتت الذاكرة التاريخية الجماعية التي
تعاني منها شعوبنا كنتاج لتهميش التمعن العلمي الممنهج في
قراءة التاريخ. اذ ليس مطلوبا من العمل الدرامي أن يكون
تفصيليا وشاملا في تعاطيه مع تاريخ كل الرموز والمرجعيات
المعروفة والمحددة التي يقدمها. بالمقابل، فنحن في "القاهرة:
كابول" أمام عمل قدم نفسه منذ البداية (من خلال شكل البوستر
الدعائي وابراز المرجعية الرمزية التاريخية لشخصية المسلسل
الرئيسية، "الخليفة" المقيم في أفغانستان)، كما جرى تدويره
اعلاميا من قبل الكثير من الاعلام المحلي والعربي، كنوع من
المقاربة "الخيالية" التي تستوحي أيضا شخصيات تاريخية معينة في
محاولة للتعاطي مع موضوع تطور وأسباب ازدياد نفوذ الارهاب
الأصولي في مصر والمنطقة.
ان الحجم الضخم لمكونات المراجع التاريخية المغيبة عن
"القاهرة: كابول" من ناحية، ولجوء المسلسل بالمقابل الى
التركيز على مرجعيات محدودة جدا لا تزيد عن الخمسة، ثم الباس
الأخيرة معان ذات دلالات سياسية محددة، أضفى على "القاهرة:
كابول" طابع اعادة الصياغة لحيثيات شديدة الأهمية. وهذا النوع
من اعادة الصياغة يؤدي الى الكثير من التشويش على قدرة المشاهد
على فهم تاريخ الموضوع المطروح. بالتالي، فالتغييبات في هذه
الحالة تسهم عمليا في اعادة كتابة للتاريخ، وباتجاه الدفع الى
تبني استنتاجات سياسية محددة.
فما هي المكامن والمرجعيات الأساسية التي تغيب كليا عن خلفيات
الحبكة القصصية للمسلسل ونصه؟
ان الواقع التاريخي والعلمي لنشأة الارهاب الأصولي في المنطقة
العربية والعالم الاسلامي هو بالتأكيد موضوع معقد ومتعدد
الجوانب والتفاصيل. بيد أنه ليس أحجية بلا مصادر تساعد في
توثيق أو القاء الضوء على مسارات تطور هذا الارهاب... هذا على
الأقل اذا ما ركزنا على فترة العقود الخمس الماضية التي تشكل
الخلفية العامة لأحداث قصة المسلسل.
ما يغيب كليا عن المسلسل هو الأخذ في الاعتبار النقلة السياسية
النوعية التي حدثت في مصر والمنطقة في تلك الفترة. فمع انتهاء
"الحقبة الناصرية" ومع استلام الرئيس السادات للسلطة في مصر
عام 1970 بدأت تتراكم آثار تحولات مفصلية في العالم العربي.
هذه التحولات طالت معظم الواقع السياسي في هذه المنطقة، ورسمت
معالم تطوره الأساسية في الحقبات التالية، وهي ما زالت تتحكم
بالكثير من دينامياته السياسية حتى يومنا هذا. في صلب هذه
التحولات كان استعادة دول الغرب لزمام المبادرة والهيمنة في
معظم أنحاء المنطقة العربية. وتبلور هذا بشكل خاص في اطار ما
عبر عنه آنذاك الرئيس السادات، من أن "99 بالمئة من أوراق
اللعبة السياسية في المنطقة تكمن في يد الولايات المتحدة
الأمريكية". ومن المظاهر التي جسدت هذه النقلة المفصلية على
الصعيد الاقليمي، كان التنامي غير المسبوق في أوائل السبعينات
للدور الاقتصادي والسياسي والثقافي لدول الخليج العربي بشكل
عام وللملكة العربية السعودية بشكل خاص كحليف تقليدي لدول
الغرب في المنطقة العربية. وحصل هذا كنقيض واضح لما جسدته
التوجهات الاقتصادية والسياسية والفكرية خلال "الحقبة
الناصرية" السابقة والتي كانت قائمة على أسس تشجيع مبدأ عدم
الانحياز والذي كانت تقوده مصر عالميا في عقدي الحمسينات
والستينات من القرن الماضي.
والتوجه المصري نحو الانفتاح الشامل باتجاه الرياض كان من
مظاهره أيضا التنامي الضخم في نسب الهجرة المؤقتة للعاملين
المصريين الى المملكة ودول الخليج الأخرى. وتمخض هذا الواقع
الجديد وعلى مدى عقود عن تأثر الكثير من هؤلاء وعائلاتهم
بالخطاب والتوجهات الدينية والسياسية السائدة هناك، وانفتاح
بعضهم على المناحي الفكرية المتنوعة للفكر الديني بتوجهاته
الأصولية، بما فيه تلك المرتبطة بالحركات الوهابية والاخوانية
على اختلاف تنوعاتها ومرجعياتها. هذا التأثر سرعان ما تحول الى
تراكم للمكونات التي بدأت تطبع الواقع الثقافي والسياسي في مصر
والمنطقة.
ومما لاشك فيه، ان النقلة السياسية النوعية التي بدأت منذ
أوائل السبعينات، أدت بشكل شبه مباشر الى تمكين الخطاب
"الديني" من توسيع نفوذه بشكل غير مسبوق في مصر. واقترنت هذه
التحولات في الواقع مع حملات منظمة ومباشرة لتصفية القوى التي
كانت في الواقع مهيمنة في الخمسينات والستينات خلال فترة حكم
الرئيس جمال عبد الناصر، والتي كانت على تناقض وجودي مع القوى
والتيارات الدينية والأصولية.
ففترة السبعينات شهدت تمكينا ممنهجا لنفوذ ونشاط التيارات
الأصولية الدينية على أنواعها وذلك بدءا من الجامعات، الى
النقابات، الى وسائل الاعلام، ووصولا الى البنى الاقتصادية
واتجاهات السياسة الخارجية للبلاد. وخلال هذه الفترة كان هناك
أيضا ضربا ممنهجا للقوى المنظمة لليسار المصري بكل تياراته،
بما فيها الناصرية والقومية والماركسية والتي تمتعت بالنفوذ
السياسي الأقوى في مصر خلال عقدي الخمسينات والستينات وحتى
فترة السبعينات من القرن الماضي.
على المستوى الاقليمي، جاءت الحرب "الجهادية" في أفغانستان ضد
الحكومة التي كان يساندها الاتحاد السوفياتي في أواخر
السبعينات لترسم معالم جديدة في ازدياد نفوذ التنظيمات
الأصولية في المنطقة. في هذا السياق، فان جزءا هاما من الدعم
الذي كان يتلقاه "المجاهدون الأفغان"، كان مصدره بعض دول
الخليج، خصوصا لجهة الدعم المالي والتوجيهي الضخم لبعض هذه
الدول لكافة نشاطات هذه المجموعات. وبالطبع لا يمكن هنا تجاهل
الدور اللوجيستي والمخابراتي والتنظيمي الكبيرالذي تبوأ به
نظام حكم محمد ضياء الحق في باكستان من 1977 الى 1988
والذي كان مدعوما من المخابرات الأميركية، ومدعوم ماليا من
العربية السعودية.
كما كان هناك تأييد متعدد الجوانب ومنه الرسمي لهذه الحرب في
مصر في حينه، بما في ذلك تجنيد، وتدريب، وتسليح، ودعم لوجيستي،
وسياسي على المستوى الرسمي "للمجاهدين" في أفغانستان.
وبالتأكيد، فقد أضاف هذا الدعم عنصرا جديدا في توسع وتنظيم
القدرات العسكرية للمجموعات الاصولية في المنطقة وأجزاء عديدة
من العالم الاسلامي، خصوصا بعد بدء رجوع العديد من المشاركين
في هذه الحرب الى العالم العربي في أواسط ونهايات العقد الثامن
من القرن الماضي. بالنهاية، اقترنت فترة الثمانينات والتسعينات
بازدياد غير مسبوق في تاريخ مصر والمنطقة لنفوذ المجموعات
الأصولية، وكذلك لنفوذهم ضمن الجاليات العربية والاسلامية في
العالم بشكل عام. كل هذا ساهم بتجذير ما أشرنا اليه من متغيرات
سياسية وفكرية أساسية في المنطقة.
عالميا، لعبت الولايات المتحدة وحلف الناتو دورا أساسيا في
تجهيز وتدريب وتوفير السلاح لهذه المجموعات، وذلك بدءا من دعم
"المجاهدين الأفغان" في أواخر السبعينات الى فتح الطريق أمام
الحرب الأهلية في الجزائر بين 1992 و2000. واستمر هذا وصولا
الى مرحلة تكوين داعش وجبهة النصرة في أعقاب ما أطلق عليه في
الغرب توصيف "الربيع العربي" واطلاقهما خصوصا عبر الحدود
التركية والأردنية والعراقية باتجاه سورية، وفيما بعد باتجاه
أنحاء متعددة من العالم العربي، ومنها أيضا من ليبيا باتجاه
مصر.
نحن هنا اذن أمام تحولات سياسية ساهمت بشكل مباشر في فرز بيئة
حاضنة للفكر والتنظيمات الأصولية على اختلافها وعلى مدى العقود
الخمسة الأخيرة من تاريخ المنطقة. بمعنى أن المتغيرات السياسية
لعبت الدور الأكثر حسما في رسم خطوط تشكيل الوعي الشعبي الجمعي
في المنطقة خلال هذه الفترة. فالطاقات والامكانيات المادية
الهائلة التي جرى توفيرها لهذه المجموعات لعبت الدور المركزي
في نشر نفوذ الفكر الأصولي بين قطاعات شعبية واسعة في العالم
العربي والاسلامي. ومما لاشك فيه التهميش القسري والذاتي على
السواء لدور التيارات اليسارية المنظمة وخصوصا بعد انهيار
الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات، كان له دور حاسم في
تفريغ الساحة الفكرية والسياسة من القوى ذات التوجهات
العلمانية. حيث ساهم هذا بالمقابل بفتح الساحة على مصراعيها
أمام القوى الأصولية الدينية والوهابية والتي كانت منذ عقدين
فقط تفتقد أي مقومات جدية لبناء نفوذها في مصر والعالم العربي.
ولا ننسى أيضا، أن المؤسسات الدينية "الرسمية" المحلية، وبشكل
خاص الأزهر، لعبت كذلك دورا هاما، سواء بشكل مباشر أو غير
مباشر، في توفير غطاء معنوي، وأحيانا فكري، للاتجاهات الأصولية
المتنامية مما ساهم في توسيع نفوذها وتأطير الفهم الشعبي
لقراءة وممارسة الدين.
"القاهرة: كابول"، من ناحيته، يختزل مرجعياته التاريخية
بالنسبة لموضوع دعم الارهاب على مدار العقود الخمس الماضية
بتدخل سياسي ولوجستي خارجي أول ترفده الاشارات المباشرة الى
استخبارات غربية وغير المباشرة للاستخبارات الأميركية، وكذلك
تلميح ثان بامكانية وجود دور أو تدخل ايراني في تشجيع الحركات
الأصولية والارهابية وترفده الاشارات بهذا الاتجاه والتي
تكلمنا عنها سابقا. ويغيب بشكل مطلق أي مرجع آخر. في خضم غياب
عناصر أساسية عن تكون وتطور الفكر الارهابي في المنطقة في
المسلسل، خصوصا في اطار التغييب التام لأي مرجعية تطال دور
الحركة الوهابية التاريخي والمساهمات المفصلية لتلك الحركة
وللمملكة السعودية على مر العقود الماضية في نشر هذا الفكر.
ويركز المسلسل على "تمصير" الارهاب بشكل يعيد التفكير الفطري
الجمعي الذي جرت اعادة تدويره في الاعلام المهيمن على الصعيد
المحلي والذي يقلل من شأن العوامل الأخرى، داخلية كانت أو
خارجية. وأخذا بالاعتبار أن المسلسل يقوم من وقت لوقت باعطاء
اشارات عابرة وغير واضحة عن أشخاص يذهبون الى سورية أو تركيا
(بالرغم من أن المسلسل من المفترض أن يتناول مرحلة ما قبل
أحداث 2011)، فان التغييبات الكبيرة التي أشرنا اليها وما
تحدثه من تشويش على فهم المشاهد لطبيعة النشاط الارهابي وحروبه
في المنطقة، تفقده بالتالي قدرته على استيعاب جدية وخطورة ما
يحدث حوله.
اذا، ضمن تغييب مرجعيات أساسية في تاريخ نمو نفوذ الفكر
الأصولي والفكر الارهابي في المنطقة، يتحول هذا النمو عمليا
بنظر المشاهد الى ما هو أشبه "بالطاقة" الهلامية المنفصلة عن
الواقع المادي للتاريخ والسياسة. وبالتالي نكون قد أفرغنا هذا
الفكر وممارسات الارهابيين من هويتها كتعبير عن منظومة تكاملت
معالمها، وعلى مدى عقود، ضمن تناغم وتقاطع مصالح لقوى سياسية
طبقية محلية واقليمية وعالمية استفادت وعلى كافة الأصعدة من
نشر الأفكار المتطرفة والتأويلات الضيقة للدين.
ان اعادة كتابة التاريخ (وان كان المسلسل يتملص "رسميا" من هذا
الحمل عبر الاشارة المعتادة الى أن شخصيات العمل وأحداثه ليست
الا "من محض الخيال")، يعيد تدوير اتجاهات فنية أضحت شيئا
عاديا خصوصا خلال العقود القليلة الماضية. تلك الاتجاهات
ارتبطت بأسلوب "التشبيك" الفني ما بعد الحداثي للسرد، وذلك في
اطار تقديم تقاطعات سردية وشكلية تعود لأزمنة وأمكنة ومرجعيات
تاريخية متباينة وقد لا تمت لبعضها بأي صلة. وما هو مشترك بين
الكثير من هذه الممارسات الفنية (وليس بالضرورة جميعها) أنها
تميل الى الخلط والتلاعب العبثي بالمرجعيات الزمانية والمكانية
والاجتماعية وغيرها كتعبير عن عدم اكتراث أو كتهميش متعمد
للتاريخ أو للتفكير بمنهجية تاريخية. وعلى الرغم من أن شكل
السرد في "القاهرة: كابول" هو أبعد ما يكون عن الأسلوب ما بعد
الحداثي، فانه لناحية "تأريخه" المشوش لموضوع الارهاب والتطرف
الديني، فهو يأتي في نفس السياق العبثي الذي يطبع ذلك الأسلوب.
فما هي المظاهر الايديولوجية للتوجه السياسي المعادي للتاريخ
وللقراءة العلمية لازدياد نفوذ الفكر الأصولي على اختلاف
تجسداته، بما فيها أشكاله المتطرفة والارهابية، والتي يعاد
تدويرها من خلال المنتجات الفنية التي تحتل الصدارة اليوم في
المشاهدات على المستوى الشعبي في بلادنا، مثل مسلسل "القاهرة:
كابول" هذا العام؟
الارهاب والتطرف الديني و صراع الخير والشر:
رمزي كشخصية "أسطورية"
تمثل شخصية رمزي الخلفية الأساسية التي يرسم المسلسل من خلالها
خطوط رصده لتاريخ ولطبيعة الفكر الديني المتطرف ودوره في تشجيع
الممارسات الارهابية. فغياب عناصر ومرجعيات تاريخية عديدة عن
البنية السردية للمسلسل كما رأينا سابقا، وبالذات تلك التي
يسهم غيابها في ابقاء شخصية رمزي مبهمة تاريخيا، يمهد أيضا
لابراز دلالات هامة لتلك الشخصية. فالتصوير المبهم لشخصية رمزي
يعيد تأسيس أو تدوير بعض التوجهات الثيمية ذات الأبعاد
الايديولوجية للمسلسل.
فالارهابي هنا هو أيضا بطل المسلسل ومحركه الدرامي. وهو
بالتالي الشخص الذي يمثل الركن الأهم في تركيب القصة ودفع
أحداثها الى الأمام. طبعا هذا بغض النظر عن بعض الضعف بكتابة
السيناريو لجهة ربط يوميات وأحداث الشخصيات المتفرقة مع تفاصيل
مجريات الدراما الأساسية التي تطبع بعض تفصيلات حياة رمزي في
مصر أو في أفغانستان. فرمزي يبقى المحور المهيمن افتراضياعلى
القصة. أما الأحداث الأخرى والشخصيات التي نتابع حياتها في
القاهرة، فتبدو جانبية ولو أنها تمثل في مجموعها الاستقطاب
العام الجامع (حتى في اطار التفصيلات والتناقضات الجانبية فيما
بينها) لقطب "الخير" الذي يقابل قطب "الشر" الذي يمثله رمزي
المتواجد غالبا في أفغانستان. في هذا السياق، تعمل الأحداث
الموازية في القاهرة كعنصر "مكمل" لرسم المسلسل لمعالمه
الدرامية والثيمية، وخصوصا تلك التي توفر البعد الملحمي
لتجسيده لثيمة الصراع بين الخير والشر.
والتقديم البصري لشخصية رمزي في أفغانستان مركب بشكل يوحي بأن
بعض جذورها مرتبطة في بعض ما توحي به المنطقة انطباعيا كساحة
صراعات لا تحصى اتخذت أبعادا شبه أسطورية منذ أواخر القرن
الماضي. وهذا يمثل عاملا هاما في اضفاء بعض الهالة الأسطورية
على تركيب ودور تلك الشخصية. لكن هذا التركيب يحتوي أيضا على
عدة تناقضات. على سبيل المثال، فان جزءا أساسيا من رسم شخصية
"الخليفة" يعبر عنه الرجوع المتكرر لمرجعية سنوات طفولته
وشبابه مع شخصيات أخرى.
بيد أن جزئية تقديم طفولة "البطل" تمهد أيضا لما سيصبح عليه
رمزي فيما بعد. فالمسلسل يقدم عدة شخصيات منها خاله وابنة خاله
وأمه واصدقاؤه الثلاثة كعوامل تكاملت مع القدر المحتم للطفل
والمراهق رمزي. فقدر هذا "البطل" الارهابي الأسطوري بالمفهوم
الايديولوجي لمحاكاة ملحمة صراع الخير والشر والذي يحاكي ما
يعتبر "طبيعيا" في الايديولوجيا المهيمنة، هو معروف سلفا، وهو
غير خاضع لعوامل سياسية أو شخصية أو أحداث غير متوقعة من
الممكن أن تعيقه أو توقفه. فحتى علاقته مع ابنة خاله منال التي
تبقى في مخيلته بعد انتقاله الى أفغانستان وبعد "استعادته" الى
مصر من قبل المخابرات المصرية، فهي مرسومة في سياق توقعنا
المسبق "لاستحالة" تحققها. زد على ذلك أن علاقة منال المستجدة
مع ابن الزوجة العتيدة لوالدها تجعل من امكانية عودتها الى
رمزي محكومة دراميا بالفشل شبه المؤكد. شخصية رمزي اذا مبنية
ضمن المنطق "القدري" للايديولوجية السائدة والذي يربط ملحمة
الصراع بين الخير والشر بالنهاية بحتميات ميتافيزيقية تتجاوز
قدرات البشر على تغييرها أو تطويعها.
ومن اللافت ان اكتمال بناء الشخصية "الأسطورية" لرمزي يتم ايضا
في خضم ابراز مكامن ضعفه الداخلية والتناقضات التي تشحذ شخصيته
ومشاعره. فاهتمام رمزي بعلاقته مع ابنيه خصوصا بعد اغتيال خال
احدهما وواحدة من أميهما، ثم تسببه بموت أحد الاخوين؛ واستمرار
حب رمزي لابنة خاله منال على الرغم من "زيجاته" المتعددة
كخليفة؛ وحبه الواضح لوالدته وتألمه العميق لوفاتها؛ وحتى
علاقات الصداقة الملتبسة بينه وبين رفاق طفولته، كل هذه
المحطات الدرامية تسهم في ابراز جوانب تضفي تعقيدا لم نعتاد
على رؤيته في الكثير من الدراما العربية لدى تجسيدها لشخصيات
من المفترض أن ترمز للشر. ويتكرر هذا ضمن لحظات فارقة داخل
الدراما تساهم بمجموعها في تعميق تلمسنا للبعد الانساني في
شخصية رمزي. ففي أحد المشاهد يعبر رمزي عن حنينه للقاهرة حيث
يكمن "السر الأكبر" لحياته. ويبوح في مشهد آخر عن الألام التي
تعتصر قلبه في بعده عن من يحبهم. يجري المشهد على وقع
"التمشية" الأخيرة لوالدته قبل موتها، ويجمعه بعازف موسيقى
بالوشستاني يصر أن يكون أنيسا له في سهراته الخاصة على الرغم
من اعتراض مساعده الأكبر على ذلك. في المشهد يغني الموسيقي
بيتا شعريا يقول فيه: "اذا لم تعرف كيف تحب، فلماذا أيقظت قلبي
النائم"، في اشارة الى صعوبة تعامل رمزي مع التناقضات الداخلية
التي يعاني منها كارهابي.
هذه التناقضات هي بالنهاية تعبير طبيعي عن "عدم الحصانة"
الفكرية والعاطفية لرمزي، لكنها لا تلغي جوهر شخصيته كقطب
أساسي محرك ضمن دائرة الصراع الدرامي للمسلسل. وبالتالي،
فالمشاهد يدرك مسبقا أنه لا يمكن للحيثيات الانسانية "الخيرة"
في شخصية رمزي أن تهزم جوهر "الشر" الذي يهيمن عليها. وحتى
تردده في اتخاذ بعض القرارات السياسية والعسكرية والشخصية،
يجري تقديمه في المسلسل كاثبات للسياق القدري التي يتحكم بشكل
قرارات رمزي. اذ أن التردد في اتخاذه لبعض القرارات لا يجعلنا
نتوقع أن يؤدي الى تغيير ما هو حتمي ومقدر مسبقا. في هذا
السياق يأتي قتل رمزي لصهره، وقتله لزوجته، وحتى تسببه غير
المباشر في مقتل أحد أبنائه، وخيبة الأمل الكبيرة التي تؤدي
الى اعتقاله كنتاج مباشر لفشل محاولته ترميم علاقته العاطفية
مع منال. فقدر هذا البطل "محسوم" في اطار "العقد الايديولوجي"
القائم مع المشاهد سواء ضمن البنية السردية للقصة أو خارجها.
بالنهاية فان رمزي هو ارهابي أصولي "كامل الأوصاف"، وبالتالي
غير قادر، ولا مجال له لأن يحيد عن ما هو مرسوم لمصيره في اطار
صراع الخير مع الشر.
على مستوى آخر، وكما أن الاطار العام للخطاب الفلسفي "المثالي"
يبقي موضوع الأولوية في الحسم متأرجحة في مابين ما هو مقدر وما
هو رهن بالارادة الفردية، فالسياق الدرامي للمسلسل يبقي نفسه
وبقوة منفتحا تجاه تقدير الاهمية الكبيرة لارادة الفرد في رسم
مسار حياته. فمسلسل "القاهرة: كابول" يعيد تدوير "الحكمة"
الشعبية السائدة ايديولوجيا، بأن ما يحدث في حياتنا هو أيضا
نتاج لخيارات فردية. هذه الخيارات تبقى محركا أساسيا لمسارات
التاريخ، بما فيها تلك التي تجعلنا نختار في ما بين الوقوف الى
جانب الخير أو الى جانب الشر.
في احدى الحلقات الأخيرة للمسلسل يعيد الاعلامي طارق كساب
تأكيد المقولة اياها عبر تركيزه في مقدمة لبرنامجه التلفزيوني
بأن الحقيقة هي دائما حقيقة نسبية يتم تحديدها ضمن قرارات يجري
تحديدها من قبلنا نحن. وبالتالي، فهكذا قرارات ليس من الضروري
"عقلنتها" أو تبريرها بأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية
محددة. وفيما يشبه الخلاصة "للحكمة العامة" العامة للمسلسل
يقول طارق: "احنا اللي حنبقى الحقيقة، مش التلفزيون والجرايد.
انتوا عندكو الحقيقة. وطنك هو انت" مستوحيا قول فيلسوف
الاتصالات الكندي مارشال ماكلوان "الوسيلة هي الرسالة". ضمن
هذه الدينامية يحسم المسلسل عمليا انحيازه لتوجه ايديولوجي
يرسم شكلا محددا ليس فقط للمنهجية "الأكثر واقعية" للتعاطي مع
قضايا اشكالية مثل التطرف الأصولي والارهاب، بل أيضا للتعامل
مع كل ما له علاقة بفهم وايجاد حلول للقضايا السياسية
والاجتماعية والأخلاقية، وكل قضايا الحياة بشكل عام. فما نتخذه
من قرارات أو ننتقيه من خيارات حيال كل هذه المسائل محكوم،
أولا بمشيئة القدر التي تحسم نتائج الصراع السرمدي بين الخير
والشر، وثانيا عبر ما نقوم باختياره اراديا كتعبير ذاتي عن
موقعنا ضمن هذا الصراع.
لكن المسلسل لا يكتفي بهذا التحديد الفلسفي العام لمروحته
الفكرية. "فالقاهرة: كابول" يرسم خطوطا أخرى أكثر تحديدا في
تعامله مع "ملحمة الصراع بين الخير والشر"، وخاصة بالنسبة
لخياراتنا الفردية في هذا المجال. ففي سياق "المعركة" ضد الفكر
والارهاب الديني المتطرف، فان الصراع لا يمكن له أن يخرج
بالنهاية عن السياق العام للخطاب "الديني". هذا ما نبحثه في
القسم التالي. |