- ما الذي يفعله الفقراء في هذه الحالة؟
- ينتظرون الموت …
- .. المساكين
هذا الحوار الذي يدور بين أب
(اندريه ديسولييه) وابنته (صوفي مارسو) في شريط "كل شيء تم على
ما يرام" للفرنسي فرانسوا اوزون، المشارك في المسابقة الرسمية
لمهرجان كان السينمائي ال ٧٤، يقود المشاهد الى قلب دراما
اجتماعية عائلية لا تخلو من الكوميديا الساخرة. بل إن الفيلم
يستخدم هذه السخرية ليخفف من وقع موضوعه الصعب: "لا أريد
باكيات من حولي"، يقول الأب لابنتيه بعد أن يعلمهما برغبته
بالمغادرة الطوعية للحياة.
الفيلم مقتبس عن كتاب سيرة ذاتية لايمانويل برنهايم، صديقة
المخرج وابنة العائلة اليهودية الثرية، والتي كانت رفيقته في
كتابة سيناريوهات أفلامه قبل ان ترحل. وقد وجه المخرج قبيل عرض
فيلمه تحية لذكراها. الحبكة تتناول سيرة الأيام الأخيرة لرجل
في الخامسة والثمانين، يرغب في وضع حد لحياته بعد اصابته بمرض
يعيقه عن المشي والحركة وبالتالي عن القيام على شأنه. يطلب
الاب من ابنتيه مساعدته على الانتهاء الاختياري من الحياة.
ينبني الفيلم على مستويات عدة من الصراع، الصراع لدى الأبناء
بين تلبية رغبة الوالد وبين التوصية الدينية والإنسانية
بالحفاظ على الحياة. هذا الصراع يعتمل أيضا في شخصية الوالد
رغم كونه حسم أمره نهائيا، وتحديدا لأنه كان يحب الحياة
ومنغمسا فيها الى اقصى درجة، لم يعد يريد أن يحياها بهذا
الشكل، عاجزا. رغبته في الحفاظ على كرامته الشخصية في مواجهة
عجزه هي ما يدفعه ليمضي في خياره الى منتهاه.
الحبكة في الفيلم بسيطة، لكن القصة إنسانية شاملة، أما أسلوب
المعالجة فكلاسيكي جدا وواقعي جدا لكنه دقيق جدا وصادق.
فالدخول الى حميمية الأسرة هنا، هو دخول الى حميمية العالم،
الى سينما ميكروسكوبية مؤثرة. عبقرية فرانسوا اوزون كمخرج تجعل
هذه القصة العادية أخاذة للغاية، فالشخصيات وطبائعها تمسك
بتلابيب المشاهد من اللحظة الأولى وحتى النهاية. المخرج ذكر
مداعبا قبيل عرض شريطه: "هذه اول مرة آتي فيها الى مهرجان كان
بفيلم ليس فيه أي مشهد ايروتيكي".
تعتمد الحبكة أسلوب التشويق البوليسي ويقترب السيناريو من نوع
الفودفيل ففي كل مرة تنتصب عثرة لا تكون في الحسبان في درب
تحقيق المسن لرغبته بالانتهاء، آخرها أن يكون سائق سيارة
الإسعاف التي تقله الى سويسرا حيث تتسامح القوانين مع الراغبين
بالخلاص، فالسائق يرفض قيادته الى سويسرا باعتباره مسلما
والإسلام لا يبيح التخلص من الحياة. كلما اقترب الاب من تنفيذ
رغبته كلما ظهر له عائق نابع من مفاهيم الاسرة أو المجتمع او
القوانين يحول بينه وبين المسألة.
ولا تعتبر الرغبة في التخلص اراديا من الحياة محورا للفيلم وهو
موضوع توقفت عنه العديد من الاعمال السينمائية في السنوات
الأخيرة ولكن كيفية تصرف الاسرة والمقربين والمجتمع حيال قرار
كهذا إضافة الى موضوع العلاقات الاسرية ودقائقها من خلال تلك
العلاقة القوية التي تربط بين أب وابنته.
أما لناحية إدارة الممثل فقد أبدع فرانسوا أوزون مرة جديدة.
صوفي مارسو التي تؤدي دور الابنة الأقرب الى والدها والعائدة
في هذا الدور الى السينما بعد عزلة استمرت لسنوات (إثر فشل
فيلمها الثالث من إخراجها) تذكرنا هنا كم هي ممثلة قديرة وكم
هي ممتازة في دور الابنة المحبة والمتفهمة والعطرية مهما كان
لذلك من تبعات على حياتها. وتحمل صوفي مارسو الشريط على
كتفيها، الكاميرا لا تغيب عنها وهي تمر بكافة أنواع المشاعر من
الرفض الى الغضب الى الحزن الى القبول… دورها كله قوة وتواضع
أمام الألم والمعاناة…
منذ فيلمها الأول (لا بوم – الحفلة) الذي ادته وهي مراهقة، لم
تأت صوفي مارسو الى كان بدور كبير مثل هذا ما يجعلها مرشحة
قوية لجائزة أفضل ممثلة هذا العام. وعموما فان صوفي مارسو
شاركت مؤخرا في ثلاثة أفلام فرنسية سوف تخرج تباعا.
فرانسوا ديسويله كان هائلا أيضا، في دور الاب العنيد والعجوز
المغناج الذي اعتاد على الا يرفض له طلب، كان في قمة أدائه في
دور صعب يتطلب ماكياجا خاصا وأداء دقيقا نابعا من قلب الواقع
لشخص تتنازعه رغبات الموت والحياة. حتى الأخت التي تؤدي دورها
جيرالدين بيلاس ويرد في المركز الثالث من حيث أهمية الدور فهي
تؤدي بنفس الاتقان الذي يجعلنا نصدق انهما اختين من أسرة واحدة
لكل منهن طريقتها في مواجهة الازمة.
إدارة التصوير لهشام علوية
أما لناحية التصوير فلا بد من الإشارة الى ان فرانسوا اوزون
عمل مع مدير التصوير اللبناني البلجيكي هشام علوية، أحد أهم
مدراء التصوير اليوم في أوروبا وهو ابن المخرج برهان علوية.
التصوير تم غالبا في أماكن مقفلة كما غرفة المستشفى او البيت،
ركزت الكاميرا على الوجوه والتقطتها بكل حب. علوية سبق وعمل مع
اوزون عدة مرات وقد نال عن فيلم العام الماضي للمخرج "صيف ٨٥"
جائزة سيزار، أفضل تصوير. والسيزار تكافئ السينما الفرنسية.
سينما فرانسوا اوزون
تشكل مواضيع العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية وأيضا
موضوع المثلية الجنسية محاور متكررة في اعمال فرانسوا اوزون
الذي يثير دائما مسألة الغموض حين يتعلق الأمر بالعواطف. كما
تحتل المواضيع المتعلقة بالمرأة مكانة خاصة في أفلامه. وهو
شارك العام الماضي في المسابقة الرسمية لمهرجان كان، بشريط
التي أعلنت اختياراتها ولم تتم فعليا بشريط "صيف ٨٥" الذي يصور
قصة حب عاصفة وتراجيدية بين شابين.
عرفه الجمهور الكبير نهاية التسعينات لكن شهرته الفعلية بدأت
عام ٢٠٠٠ بعد نجاح فيلمه الطويل الثاني "تحت الرمل"، وهو من
أغزر المخرجين الفرنسيين انتاجا ومواظبة وقع بفيلمه الحالي،
"كل شيء تم على ما يرام" عمله التاسع عشر وقد قدمت اعماله
خصوصا في مهرجاني كان وبرلين.
في عمله الجديد قدم اوزون تجربة جديدة تؤكد نضج هذا المخرج
الذي يبدو هنا بكامل عنفوانه مع إدارة مشهودة للممثلين، صورة
ساحرة وحبكة سينمائية ممتازة.
حضور السينما الفرنسية في كان ٧٤
"لولا مهرجان كان لما كانت صناعة السينما الفرنسية لتحتل هذا
الموقع" هذا ما صرحت به روزلين باشلو وزيرة الثقافة الفرنسية
ليلة الافتتاح الثلاثاء، ومهرجان كان هذا العام يكرم السينما
الفرنسية على نحو خاص، مع ستة أفلام في المسابقة الرسمية ونحو
عشرة خارج المسابقة او في التظاهرة الجديدة "بروميور" (اول) او
في تظاهرة نظرة ما. طبعا، هذا عائد أيضا لتراكم الاعمال منذ
العام الماضي ما آثر في ارتفاع تمثيل السينما الفرنسية
النوعية.
وتنتج السينما الفرنسية سنويا ما يزيد على المئتي فيلم كما
تساهم في انتاج العديد من الأفلام من العالم، وفي المسابقة
مثلا اعمال مثل فيلم المغربي نبيل عيوش "أقوى وأعلى" او فيلم
بينيديتا للهولندي بول فرهوفنن، من الاعمال التي شاركت فرنسا
في انتاجها. وتملك فرنسا ٦٠٠٠ الاف صالة عرض سينمائي، ما يعتبر
أكبر عددٍ لدور السينما في أوروبا.