كانت الاستجابة لتلك المبادرة التي قام بها مهرجان
اسوان لسينما المرأة تجربة محرضة على الاستعادة
والتفكير والمراجعة وإعادة الاعتبار لعدد كبير من
الاعمال السينمائية العربية، وقد أتت المبادرة بإشراف
أستاذنا الكبير كمال رمزي وزميلينا وصديقينا ناهد صلاح
وأحمد شوقي الذين قاموا بدعوة ٧٠ ناقدا سينمائيا من
كافة البلدان العربية، لاختيار ما يمكن اعتباره أفضل
مائة فيلم في تاريخ هذه السينما العربية وبشكل حصري،
من ضمن الاعمال التي تعاطت مع موضوع المرأة.
كانت اللائحة ممتازة في اختياراتها الاصلية التي اعتبرها شاملة
وهي في الأساس تضمنت كمية هائلة من الأعمال، نحو ثلاثة آلاف
اختصرت الى نحو تسعمائة، عرضت على النقاد كي يختاروا من ضمنها،
كما طلب الى كل مشارك أن يضيف إلى لائحته الخاصة ما يراه
مناسبا ولم يجده في اللائحة الأصلية لاعتبارات عدة منها أن
يكون العمل قد سقط سهوا لكثرة الاعمال التي لم يسبق ان قام أحد
في السابق بحصرها ولامتدادها على حيز جغرافي واسع. هذا البعد
أسبغ على اللائحة صيغة ديمقراطية محببة وهذه كانت حقا لفتة
هامة وذكية من المشرفين.
عمل الزملاء المشرفون على المبادرة ما يزيد على الأربعة أشهر
وكنا نود أن يترك لنا، نحن النقاد، مزيد من الوقت للاختيار
فاللائحة هائلة وتحتاج الكثير من الوقت والاستثمار كي تكون
اختياراتنا أكثر دقة وإنصافا. بعض الأفلام كان ينبغي إعادة
مشاهدتها على ضوء الحاضر فبعضها يسقط حتما بالتقادم وبعضها
يبقى او تزيد قيمته بمرور الزمن، كما انه ولوسع اللائحة، من
الصعب جدا أن يكون الناقد قد شاهد كل هذه الأفلام مائة
بالمائة، وأعترف أن بعضها، خاصة من القديم جدا قد فاتتني
مشاهدته ودفعني الاختيار لاكتشافه متى توافر.
معنى اللائحة
ربما يتمثل الهدف الأول لإنجاز مثل هذه اللائحة، القيام بعملية
انتخاب جماعية تسبغ شرعية الريادة والتصدر على الأعمال التي تم
اختيارها لتقدم لمحبي السينما كخلاصة من أجمل ما أنجز من أعمال
تخص المرأة كي تتم مشاهدته أولا. كما أن فكرة اللائحة تعتبر
نوعا من الاحتفاء والتكريم للأعمال المختارة. وهي في جانب آخر
إعادة تقييم لما نعرف من تاريخنا السينمائي، عبر إعادة النظر
والفحص تحت ضوء جديد مختلف وإذن إعادة ترتيبها في ذاكرتنا
الشخصية والجماعية.
كما كان لمحاولة الاختيار إيقاع خاص، فهي عبارة عن تحد كبير
وقد ارغمتني شخصيا على إعادة مشاهدة بعض الاعمال التي كنت
رأيتها من سنوات طويلة فأضعت تفاصيلها وبات من الصعب علي
تقييمها. دفعني ذلك أيضا لمشاهدة بعض الأفلام القديمة التي لم
أكن شاهدتها البتة والتي لحسن الحظ نجدها موزعة هنا وهناك على
الشبكة. هي أيضا محرضة للجميع على التفكير والنبش في ذاكرته
حول ما شاهد من اعمال، نقادا وغير نقاد. لكن عملية الاختيار
بحد ذاتها وبالتأكيد كان محفزا لنا، نحن قوم النقاد، للاسترجاع
والمقارنة والمقابلة واستخدام أفعال التفضيل كلها في محاولة
لأن نكون منصفين.
هذا فضلا عن أن عملية الاختيار فتحت لي الباب، وأعتقد لزملائي
كذلك، على باب واسع من التساؤلات: عن قيمة هذه الاعمال مجتمعة،
عن صمود أفلام الأسود والأبيض امام الاعمال المنجزة اعتبارا من
الثمانينات والى اليوم، عن مسيرة وإنجازات عدد من المخرجين، عن
طبيعة الرؤيا والطرح، عن الأعمال التقدمية المبكرة… مجددا
استيقظ في سحر وجمال صورة وإضاءة واطارات كل تلك الاعمال
القديمة التي اكتسبت بهاء لا يقاوم والتي ليس بمقدور أحد اليوم
أن يسلبه منها. شخصيا لم أكن من محبذي اختيار الأفلام
الوثائقية في هذه اللائحة رغم ان الاختيارات كانت تشملها أيضا.
ذلك بالنسبة لي غير منصف وبالنظر للكم الهائل، فإن الفيلم
الروائي يفرض نفسه في هذه الحالة اذ لا مجال للمقارنة، رغم
اقتراب النوعين من بعضهما كثيرا اليوم.
يمكن في النهاية لكل واحد من النقاد ان يضع لائحته، التي
ستتضمن أعتقد، في العموم، نفس هذه الأفلام باختلاف في الترتيب،
إذ أن الاستفتاء هذا هو أول منطلق لإعادة النظر والتقييم.
ولقد فاجأني بعض الترتيبات، مثلا الا يكون فيلم الجزائري فاروق
بلوفة من بين العشر الأوائل. في هذا الاستفتاء فنهلا، الشخصية
التي يحمل الفيلم اسمها، شخصية سينمائية لا تنسى مثلت بيروت في
بدايات الحرب.
وقد أثار طرح هذه الأفلام من جديد في المساحة العامة، نقاشا
لافتا وتفاعلا هاما هو في النهاية ما يرتجى من كل عمل فني.
وباعتباري كنت احدى المشاركات في اختيارات هذا اللائحة أحببت
نتيجتها رغم أنها لا تتوافق تماما، في ترتيبها وليس في
مضمونها، مع اختياراتي وأعتقد أن هذا هو حال معظم المشاركين.
فحال اللوائح مثل حال لجان التحكيم، لا بد فيها من تقديم
التنازلات.
هنري بركات نصير المرأة المطلق
كنت أتمنى طبعا أن تكون مفيدة التلاتلي التي غادرتنا قبل أشهر
حاضرة بيننا لتشهد فرحة حصول فيلم حياتها "صمت القصور" على
مرتبة الشرف الأولى في لائحة مهرجان أسوان لأفضل مائة فيلم خاص
بالمرأة. سعدت بأن أثر هذا الفيلم الفريد هو نفسه في قلوب
واعتبار ٧٠ من النقاد السيمائيين العرب وسعدت باجتماعنا على
هذا العمل الفريد الذي لا زال له وقعه هو ذاته في وجداننا وأن
لا زال يحمل معه شاعريته الواقعية ومعالجته الخفرة لحكاية
طالعة من قلب الوجع الانثوي.
كان بديهيا أيضا أن يحل هنري بركات أولا، من حيث عدد الأفلام
التي اختيرت له في هذه اللائحة وهي ستة من مائة. ستة اعمال هي
أيضا من بين أجود الأعمال العربية في اعتقادي وليس فقط في هذه
اللائحة الخاصة بأعمال تتناول المرأة. مع إعادة مشاهدتي لأعمال
رافقتنا منذ الطفولة مثل الحرام ودعاء الكروان، اعدت اكتشاف كم
التزام هنري بركات، جانب المرأة في معالجات استثنائية وكادرات
هي بحد ذاتها مدرسة فنية. لقد كان بركات يتعامل مع شخصياته بكل
الحب، تماما كما كان يتعامل مع الأمكنة، خصوصا الريف المصري
الذي أبدعه كابن ريف رسمي. لقد حملت اعمال بركات المختارة
وغيرها من مجموع اعماله الكثيرة، شياكة روح المخرج وشغفه
لتبثها في سينماه وتنبت شعرا في صميم واقعيتها. أتذكر فجأة
بمناسبة الحديث عن بركات، أن الغرب لم يكتشف قيمة هذا المخرج
ولم يقدره بحق قدره، وأقول انه علينا ربما فعل شيء في هذا
الاتجاه.
استوقفني أيضا أن المخرج محمد خان حل ثانيا في هذه اللائحة حيث
اختار له النقاد المشاركين فيها خمسة أعمال، بدءا بالفيلم
الأسطوري "موعد على العشاء"، مرورا بالفيلم العلامة "أحلام هند
وكاميليا" وصولا إلى "فتاة المصنع". لقد جسدت هذه الأعمال
الروح السينمائية لمحمد خان الذي قدم صيغا حديثة بواقعية جديدة
لحكايا وحواديت المرأة في مجتمع المدينة المصري.
استغرب أيضا أن يحل شريط "شلاط تونس" للمخرجة كوثر بن هنية في
المرتبة ١٠٠، وأن يحل شريط لنفس المخرجة، أقل إتقانا ووقعا
لنفس المخرجة في المرتبة ٦٨. وعموما فقد حلت تونس بعد مصر
بنسبة مخرجيها الحاضرين في اللائحة، وهذه علامة تسجل للسينما
التونسية.
لفتني أخيرا وليس آخرا، فهناك الكثير مما يمكن أن يقال بعد،
أنه وخلال ندوة الإعلان عن أفضل مائة فيلم في مهرجان أسوان
لسينما المرأة قبل أيام، سأل البعض عن الأفلام التي شاركت بها
نادية الجندي، وقد ووجهت شخصيا بنفس السؤال: أين فيلم علي
بدرخان "الرغبة" من هذه اللائحة؟ الفيلم مقتبس عن مسرحية وفيلم
تينيسي وليامز "عربة اسمها اللذة" وقد كتب السيناريو والحوار
للفيلم الراحل رفيق الصبان، لم تكن الشخصية بصيغتها العربية
عميقة بالقدر المطلوب ولا مقنعة بالقدر الذي نتعاطف معه، كما
أن أداء نادية الجندي بصورة مبالغ بها للشخصية المظلومة وطريقة
إدارتها من قبل المخرج، لم تساعد في الارتقاء بالفيلم.
ما يبقى ويستمر هو في النهاية تلك الأعمال السينمائية التي
ينجح صانعوها بإدخال نبض حقيقي الى تفاصيلها، نبض يشبه نبض
الحياة، لكنه السينما.