شاهدت فيلم "الرجل
ألذي أصبح متحفاً" في إطار مهرجان الأقصر للسينما
الإفريقية لهذا العام (2020) قبل أن يوقفه الحظر الصحي
للأنشطة الجماعية. وهو الفيلم التسجيلي الطويل الأول
للمخرج التونسي مروان طرابلسي، الذي تولى أيضا تصويره
وتوليفه، فهو بذلك فيلم ينتمي لسينما المؤلف. ومروان
طرابلسي فنان متعدد التخصصات والمواهب مثل شخصية
فيلمه، فهو خريج كلية الفنون الجميلة، وفنان تشكيلي
ومصور فوتوغرافي.
الفيلم عن شخصية
الفنان التشكيلي والمخرج السينمائي التونسي على عيسى،
فهو فيلم سيرة غيرية لهذه الشخصية بقدر ما هو فيلم من
أفلام الفن.
محور السيرة الغيرية:
مروان طرابلسي يعطي
شخصية فيلمه صوتا، إذ يتركه يحكي عن نفسه دون أن يتدخل
المخرج بأسئلة أو مقاطعات كما يحدث في بعض أفلام
السيرة الغيرية، ويكتفي بالتعليق البليغ أحيانا يعناصر
مرئية مجازية لا يصحبها كلام. يقول على عيسى عن نفسه:
"أنا شاعر ورسام، انا لا شيء وكل شيء". أما وقد اعتزل
علي عيسى الناس فقد امتزج بفنه. يعبر الفيلم عن هذا
المعنى حين يصور شاشة داخل الشاشة يعرض عليها فيلم
أنتجه علي عيسى مكونا من أفلام صورها من 30 سنة على
شرائط سوبر 8 ونقلها الآن للفيديو يصور أماكن أقام
فيها معارضه في تونس والخارج ويوثقها. وطوال عرض هذه
الأفلام نرى المشاهد التي يعرضها جهاز العرض منعكسة
على وجه علي عيسى كأنه هو الشاشة التي تعرض عليها
ذكرياته، وهو يحكي طوال العرض عن معارضه. ثم يحكي قصة
حبه للوما وزواجه منها من وراء اهله وولادة ابنه علي
في لبنان حيث أهل لوما بينما علي عيسى في تونس لا يجرؤ
على مصارحة أهله بزواجه قبل شقيقه الأكبر وشقيقته.
يحكي عن موت لوما
وابنه في حادث سيارة مع قطع على مقاطع فيديو للوما
وابنه الرضيع. لقد حافظ مروان طرابلسي على أسلوبه في
ترك الحديث لعلي عيسى دون أن يقاطعه او يستفهم منه على
شيء، لكني تمنيت لو كان قد تخلى عن هذا الموقف حين قال
علي عيسى أنه حرق جميع صور زوجته وابنه حتى يقلل من
وقع الدراما ويتذكرهما دون حاجة لصور تذكره بهما، فهما
في قلبه دائما. تمنيت وقتها أن يسأله المخرج: لماذا؟
لكنه آثر أن يترك له حرية تفسير ما يقوله بنفسه، وعبر
عن شجنه بقطع على سيلويت لشجرة أرز وفيروز تغني لبيروت
على شريط الصوت. وفي وقت لاحق من الفيلم يحكي علي
عيسى عن والديه وأجداده وكيف أن جدته لأمه من إسبانيا
وجدته لأبيه من تركيا وقد التقت هذه الثقافات على أرض
تونس وأثرت فيها، وبعد أن يحكي عن حب جدته التركية
لكمال اتاتورك بقطع المخرج على مصباح مغطى بنسيج
عنكبوت، كناية عن أن هذا التاريخ قد عفا عليه الزمن.
وينهي المخرج الفيلم
بتصوير وصية الفنان على شريط الصورة ثم قطع عليه وهو
يقرأ فحواها أثناء كتابته لها على الكمبيوتر، إذ يوصي
بأعضائه لمن بحتاجها وبأعماله الفنية وبيته للشعب
التونسي ممثلا في وزارة الثقافة، وأن تدفن بقايا
جثمانه عند مدخل بيته. يلي ذلك كتابة على الشاشة عن
أعماله التي جمعها من 1945 حتى 2019 وتزيد عن 3000 عمل
عرضت في كثير من البلدان، وأنه وجد ميتا في 19 ديسمبر
2019 وهو بمفرده في بيته/ متحفه.
محور الفن:
وعلى أهمية محور
السيرة الغيرية، إلا أني أرى أن محور الفن هو الأهم في
هذا الفيلم، وهو الذي يفسر العبارة المكتوبة على
الشاشة في اسنهلال الفيلم: "هذا الفيلم يشبهني"، إذ
كيف يشبه فيلم إنسانا؟ لقد وظف مروان طرابلسي جميع
أدواته السينمائية للإجابة عن هذا السؤال، وهو مسئول
تماما عن اختياراته لتكوين الكادر وحركة الكاميرا
المتمهلة التأملية وزواياها وأحجام اللقطات لأنه هو
نفسه مدير تصوير الفيلم، كما أنه مسئول عن النقلات
والقطعات وأماكنها (وكلها قطعات ناعمة) لأنه هو نفسه
المونتير.
حين بدأ الفيلم
وشاهدت لقطات لأغراض مهملة مكومة ومتناثرة، تذكرت قولا
لأستاذي صلاح مرعي: "الزبالة على الشاشة جميلة جدا"،
وهذا الجمال واضح، لكن التمعن فيما يلي ذلك من مشاهد
يوضح مغزى تصوير هذه المهملات بتفصيل شديد، كما يجيب
على سؤال كيفية تشابه الفيلم مع مخرجه.
الفن هو مفتاح حل هذه
الألغاز. فعلى حد قول أرسطو، يختلف الفن عن الواقع في
أن الواقع مشوش لكن الفن منظم. وحين يتعلق الأمر بفن
التصوير (الفوتوغرافي أو السينمائي أو الزيتي أو بغير
ذلك من مواد تشكل لوحة ذات إطار) نجد أن الإطار هو
الذي يعزل جزءا من الواقع بشكل قصدي بحيث تنتظم
العناصر المعزولة في بنية قد تكون جمالية محضة أو قد
يجد المتمعن فيها علامات دالة على معان تتجاوز شكلها
الخارجي. الأطر حاضرة في الفيلم منذ بدايته، بدءا
بالطبع بكادرات الفيلم وتنظيم العناصر داخلها، مثل
تتابع المشاهد التي تبدأ بلقطة قريبة لورقة شجر ذابلة
معلقة بخيط عنكبوت (وهي واحدة من مجموعة أوراق أشجار
ذابلة مرت عليها الكاميرا عرضا وهي تستعرض المكان)،
يليها قطع على بيت عنكبوت في سقف المكان، ثم قطعات على
لقطات قريبة إلى متوسطة لمحتويات المكان من الأغراض
المهملة مع حضور قوي للعنكبوت سواء بشخصه أو بخيوطه أو
بهما معا. هذا التتابع استعارة سينمائية لحالة شخصية
الفيلم، علي عيسى. فهو في سنه المتقدم ومعيشته
المتواضعة ضعيف، لكنه قوي في الوقت نفسه، كخيط
العنكبوت الذي يضرب به المثل في الضعف لكنه قادر على
حمل ورقة شجر تفوقه وزنا بمراحل، مثل علي عيسى بكل
تاريخه الذي يحمله ويقدمه لنا الفيلم بصوته في شهاداته
وبالصور الفوتوغرافية والمتحركة التي التقطها عبر
مشوار حياته.
ويبرز المخرج أطرا
مختلفة تلتقطها الكاميرا مع حركتها وهي تستعرض المكان،
إذ يحرص على أن تمر الكاميرا من خلف شبكة من السلك ذات
عيون واسعة تشكل عيونها أطرا تحتوي الموجودات (ويتكرر
التصوير أكثر من مرة من خلال عيون هذه الشبكة طوال
الفيلم)، حتى تلتقط الكاميرا إطارا خشبيا فارغا. لكن
هل هو فارغ حقا؟ لقد ملأت كاميرا مروان طرابلسي فراغه
بما ظهر فيه من الأغراض التي بدت كما لو كانت عملا
تركيبيا
installation ويتأكد حضور
الإطار داخل الكادر بالتقاطه لإطار خشبي فارغ آخر ملأه
بالطريقة نفسها بما يظهر خلفه من أغراض جعلته يبدو
كإطار لوحة فنية.
وتتعدد أصناف الأطر
التي يحرص المخرج على التقاطها، فمن نظارات قديمة
متعددة، إلى مرآة بيضاوية تصادف وجودها تنعكس فيها
صورة علي عيسى كأنها بورتريه له، إلى مرآة سيارة قديمة
تظهر فيها صورة على عيسى للمرة الأولى على شاشة مروان
طرابلسي وهو يقول إنه جامع للزمن، يجمع ما تخلى عنه
الناس أو نسوه. يقول على عيسى إنه وحيد لكنه يحظى
بصحبة هذه الأغراض المنسية، يعطيها حياة، يكلمها
وتكلمه. تستعرض الكاميرا هذه "الصحبة" التي تضم كما
كبيرا من الدمي المحطمة التي ترتسم على وجوهها تعبيرات
مختلفة. ومن ضمن الصحبة قطط ودجاج يعتني بهم على عيسى
ويتواصل معهم بعد ان صار وحيدا حين فقد زوجته وابنه في
حادث سيارة.
وإلى جانب الأطر تحضر
السينما والفن التشكيلي بقوة في الفيلم. فعلي عيسى
يعيش مع أدوات التصوير والعرض سواء كانت أدوات تصوير
وعرض سينمائي أو فوتوغرافي تتحول الصور التي تلتقطها
إلى شرائح تعرض بالفانوس السحري. وحين ينتقي علي عيسى
بعض الشرائح ويعرضها بالفانوس السحري لا نرى ما
بالشرائح لكن نرى انعكاس ضوء الفانوس السحري أثناء
العرض على وجه علي عيسى في معظم الأحيان، مع قطعات
قليلة على بعض الصور المعروضة، ثم ينقلنا قطع إلى
شريط سليلويد ثم قطع آخر إلى لقطة قريبة. لشريط
السليلويد وهو يتدلى من أعلى. والأشياء التي تتدلى من
أعلى كثيرة في المكان، منها أجراس معلقة أو لوحات
معلقة في الفراغ وليس على جدار، مثل اللوحة التي رسمها
الفنان على منخل والأخرى التي رسمها على إطار دراجة،
وتحرص كاميرا مروان طرابلسي على التقاط هذه العناصر
المتدلية بكثرة بأحجام لقطات مختلفة منها اللقطة
القريبة في كثير من الأحيان. وهذه الكتل التي يحيطها
الفراغ دون أن نرى لها نقطة ارتكاز علامات دالة على
التقلقل وعدم الاستقرار، وهي من سمات هذا الفنان متعدد
الأساليب ومتعدد الوسائط التي يستخدمها في إنتاج فنه،
ومن سمات عيشه وحيدا في سنه المتقدم، وخدمته لنفسه
التي يصورها مروان طرابلسي بتفصيل شديد في لقطات قريبة
ليديه وهو يجهز الخضراوات ويطهو أو في لقطات عامة وهو
يكنس الأرض ويطعم القطط والدجاج، وهي تفاصيل تؤكد
وحدته، وقد توفى وحيدا بالفعل في مكانه واكتشف الجيران
وفاته في وقت لاحق.
ومروان طرابلسي يلتقط
من تفاصيل المكان ما يمكن أن يكون لوحة تشكيلية كلما
أتيح له ذلك، مثل لقطة قريبة لصينية عليها فاكهة وبيضة
ومخبوزات (تبدو مثل لوحة طبيعة صامتة) يليها قطع على
لقطة عامة لعلي عيسى يرقد على كنبة خلف الصينية تأكيدا
لأن حياته هي نفسها تكاد تكون عملا فنيا.
ويختتم الفيلم بأغنية
بيروت لفيروز يصاحبها على شريط الصورة بوبينة فيلم
تدورمع نزول العناوين. ثم ينطفئ البروجكتور وتظلم
الشاشة، معلنة انتهاء فيلم جميل. |