في ليالي الكورونا منحتنا الجائحة فرصة
لاستعادة الجمال في أعمال شاهدناها مع أفلامنا الحلوة،
وفرصة للنهل من أفلام مرت دون أن نوليها الاهتمام التي
كانت تستحقه. صادفتني صورة لملصق فيلم قصير بعنوان
ربيع شتوي، كلمة ربيع على وجه فتاة شابة، وشتوي على
وجه الممثل المعروف أحمد كمال. القراءة الأولى للصورة
كونت عندي معاني عن المقارنة بين ربيع الفتاة وبين
شتاء الرجل، هل هو مريض؟، وما علاقتهما معا؟. شاهدت
المقدمة الإعلانية للفيلم وهي لقطة مشهدية تدخل فيها
الفتاة وخلفها الرجل ثم يتجه كل منهما إلى باب يبدل
ملابسه وتغلق الباب لا حديث، فقط صمت وتباعد. لقطة
مشهدية دافعة لمعرفة الحكاية، كان أستاذي لمادة
المونتاج الخبير الفرنسي بوهريه يشرح لنا أهمية أن
تكون المقدمة الإعلانية للفيلم غير شارحة له، بل عليها
أن تضع المشاهد في شوق لاستجلاء الحقيقة ومعرفة أصل
الحكاية. تشير ولا تفضح، تكشف جزئيا دون أن تفقد
المشاهد حماسه للمتابعة. التريلر متاح على المواقع مع
قدر من المعلومات جذبتني لمحاولة مشاهدة الفيلم، كيف
فاتني عمل جذاب كهذا!، وبطريقة ما تمكنت من مشاهدة
نسخة كاملة من "ربيع شتوي" بعد أن أشارت المقدمة إلى
شبهة خلاف بين الفتاة والرجل عبر عنها المخرج من خلال
الديكور وحواجز الأبواب المغلقة على كل غرفة في البيت.
يبدأ الفيلم مع فصل دراسي لفتيات
والمعلم يعطي كل واحدة منهن علبة بها دودة قز ويطلب
منهن أن يتابعن ما يحدث للدودة على مدى فترة الإجازة،
هناك اقتراب من إحداهن، تفتح العلبة ونلحظ نفورها من
الواجب المدرسي، تخرج مع زميلات لها. هي الوحيدة في
كنزة صوفية حمراء كمن تشعر بالبرودة عن أقرانها.
رجل خمسيني يتحدث في التليفون يوجه
ملاحظات للطرف الآخر، الفتاة تفتح باب السيارة وتجلس
بجواره وهو مستمر في المكالمة، تفحص حافظة بلاستيكية
بها أدوات مدرسية، دي الحاجات اللي انت عاوزاها، تشير
بلا كلام، لو في حاجة ناقصة نعدي على المكتبة قبل ما
نروح. محادثة عادية تشرح علاقة رعاية من طرفه دون
إظهار عواطف على طريقة ما يمكن ملاحظته في فيلم أجنبي
مثلا، فلا قبلة لقاء ولا أهلا يا عسل، خجل التعبير عن
العواطف أمر شرقي حيث يتم التعبير عن الحب بالاهتمام
دون كلمات مباشرة.
دودة القز التي تأكل أوراق شجر التوت
الناضجة في الربيع، ثم تمتنع عن الطعام شتاء وتخرج
سائلا يكون خيوط الحرير تلفها وتكون شرنقة تختفي
داخلها، إذا تركت فترة كافية ستتحول إلى فراشة تخرق
الشرنقة وتطير وتعيد دورة الحياة إذا صادفت فراشة أخرى
تتزاوجان وتبيض وتفقص البويضات دودا آخر، معلومات لدي
من خارج الفيلم لممارستي تربية دود القز في نفس عمر
الفتاة أو أصغر قليلا في الزمن الماضي. للحصول على
الحرير توضع اليرقات في الشمس فتموت الفراشة وتجمع
خيوط الحرير لتكون نسيجا ناعما طبيعيا من الحرير يصبغ
بمختلف الألوان.
في الفيلم نور وهو اسم الفتاة لا تقدر
على امساك الدودة بيدها فتحملها بالمسطرة، تنقلها إلى
علبة كارتونية مع أوراق التوت وتراقبها، مزيج من
الاهتمام وقدر من الخوف، مراقبة تجربة حياة تنمو تحت
رعايتها.
قدم المخرج شخصية الأب في مشهدين
متتاليين، مكالمة عمله وجلبه طلبات الفتاة، ثم إعداد
الطعام لها، كما نصف في عاميتنا هو أب وأم في آن واحد،
فهل سيتمكن حقا من القيام بالدورين معا؟
ستفاجأ الفتاة بالدورة الشهرية وستخجل
من إخبار الأب، تخفي ملابسها الملوثة بالدماء، تحتاج
نقودا إضافية لشراء الفوط الصحية، حين يسألها عن سبب
احتياج الفلوس تخجل ويتركها، واضح أنه دقيق معها ولا
يترك لها حرية التصرف كاملة، رعاية تكاد تكون خانقة،
خوف معتاد من أب شرقي على ابنته الوحيدة. يشاهدها
تختلس نقودا ولا يعلق، يسألها هل تريد شيئا، ترفض،
يعلو صوته كمرة وحيدة، أنا شفتك. هي ترتبك، ما الذي
رآه، ملابسها التي تخفيها أم اختلاس النقود، يخرج،
تسهر وحيدة على برامج التلفزيون، تنام من التعب على
الكنبة يحضر ويحملها إلى سريرها، يلاحظ دماء تغرق
ملابس النوم. يفهم. يخرج نقودا يضعها بجوارها وفوقها
زجاجة طلاء أظافر حمراء. زال سوء التفاهم، الفتاة
أصبحت أنثى ولها أن تتزين. مرة أخرى اللون الأحمر
يختاره المخرج علامة ربيع الفتاة والحياة التي
تنتظرها. كما يظهر في صورة الفيلم واضحا وجميلا، بارزا
بين باقي التفاصيل.
يستخدم المخرج ثمرة جوافة علامة دالة
على نضج الفتاة واكتمال أنوثتها، لقطة أولى تتناول
ثمرة ناضجة وتقضمها، وفي مشهد يبدو فيه حضور الأم مع
الفتاة وبينهما طبق ممتلئ بثمرات الجوافة تناول ابنتها
ثمرة تقضمها وتتناول واحدة أخرى وتقضمها. الأب في مشهد
لاحق يقطع الثمرة ويزيل البذور ويقدمها للفتاة.
لا يقدم المخرج تعبيرا مباشرا ولا فجا
عن موضوعه، بل لقطات موحية محملة بمعاني يلتقطها كل
مشاهد حسب ثقافته دون عناء، قد يختلف تلقيها من النساء
عن الرجال ولكنها في النهاية بديلا محليا عن ثمرة
التفاحة التي تنمطت دلالتها وارتبطت بالقصص الديني أو
بالتعبير الشائع عن الجنس.
تعامل المخرج محمد كامل مع فكرة بلوغ
فتاة في غياب والدتها وكيف تعامل والدها الأرمل مع
الأمر بقدر كبير من الرقة ودون حوار. لم يناقش الأمر
من وجهة نظر اجتماعية سياسية كما في فيلم هالة خليل
طيري يا طيارة، لا نسوية ولا ذكورية بل من وجهة نظر
إنسانية عامة وصلت للمشاهدين في كل الدنيا وحصل بسبب
تناوله الفني الرقيق على جوائز أهمها أفضل فيلم في
الدورة 48 من مهرجان فوتوجراما بإيطاليا كما حصل
الممثل أحمد كمال على جائزة التمثيل من نفس المهرجان
عن دور أداه بفهم لعلاقة أب مع ابنته الوحيدة بعد
فقدها لأمها. تعبيرات وجه الممثل عن القلق، أو محاولة
الفهم، الحيرة والاهتمام، دون مبالغة. تجربة العمل
كمدرب للتمثيل تضاف إلى دوره داعما للعديد من صانعي
الأفلام الشباب من خلال المشاركة في أفلامهم القصيرة
وخاصة عندما يعجبه السيناريو كما حدث مع "ربيع شتوي". |