الكوميديا:
طاقـة تدميرية
أدرك
السورياليون والدادائيون، وإلى حد ما التعبيريون، الطاقة التدميرية الكامنة
في الكوميديا السينمائية، لذلك أولوها اهتماما خاصاً وتابعوا فعالياتها
بجدية تامة.
لقد شكّل
كل من: ماك سينيت، فيلدز، الأخوة ماركس، لانجدون، بستر كيتون، شابلن.. جبهة
أمامية، مسلحة بجنون وافر، تشنّ هجوماً مباشراً وضارياً ـ بأساليب مختلفة ـ
ضد المفاهيم البورجوازية عن الكون المنظم والمتجانس والمستقر: حيث المظهر
البورجوازي الخارجي يكون بديلاً للواقع، النظام والقانون عنصران سائدان،
الرجال الخنوعون منسجمون بشكل مذلّ ، والسيدات يحرصن على التشبث بالحياة
الزوجية التي تحقق لهن الاستقرار والأمان.
هؤلاء
الكوميديون العظام، شاهرين حيلهم البصرية في اجتياحهم المزلزل، يلوّثون
أسطورة العالم البورجوازي وينتهكون قيمه وعاداته بأكثر الأساليب صخباً
وعدوانية. كل رموز الطبقة الحاكمة عرضة لهجوم مباشر وفوري. كل شخص ثري أو
في مركز قوة أو يرتدي بزّة رسمية (القضاة، القساوسة، الشرطة، الأباطرة،
الرؤساء، سيدات المجتمع الراقي) يصبح مجرّداً من رموز وشعارات القوة
والنفوذ والطموح، ويكون معرّضاً لأي اعتداء منظم واسع النطاق، أو انقضاض
غواري مباغت.
التدمير
يشمل تابو الدولة ومؤسساتها، تابو الدين والمظاهر البورجوازية.. وذلك من
خلال الخدع البصرية، التراشق بالفطائر، الوقوع على المؤخرة، الإخفاق المذل،
الهجاء الفظ لكل شيء وبدون استثناء: حتى مراكز الإطفاء والأنوثة.
مرة أخرى
تثبت السينما أنها مؤهلة وقادرة على تحقيق هذا الخراب الرؤيوي والتحريضي،
فبالإمكان مضاعفة سرعة مجرى الأحداث، مزج الزمان والمكان، خلق المصادفات
المستحيلة على نحو واقعي جداً، وتوفير درجة سرعة متواصلة ـ بواسطة المونتاج
ـ من حيل المشهد.
الأحداث
الصامتة التي تشتمل على رموز الواقع الأساسية، تنتحل خصائص الكوابيس
الصاخبة. كما أن الانتقالات المفاجئة (
Jump - cuts )
أو
تقطيع الحركة يعمل على توحيد ما لا يمكن توحيده أبداً في المجتمع الفاضل.
هنا تجد فوضوية السينما (وهي الخاصية الأثيرة عند السورياليين) حقيقتها
ووضعها الصحيح، وربما صياغتها النهائية.
الهجوم
المسعور على التكنولوجيا، السخرية من الدوافع الإنسانية، تمزيق الحجاب،
إباحة الانتقام من السلطة ومن النفاق الاجتماعي.. هذه الخصائص هي التي
تميـّز هذه السلسلة من الآثار الفنية الرائعة التي تندرج ضمن الإسهامات
الهامة للسينما الأمريكية في السينما التدميرية العالمية.
روبير
ديسنوس (شاعر ومنظّر سوريالي بارز، قـُتل على أيدي النازيين ) في كتاب له
يحمل عنواناً دالاً، وذا مغزى "ماك سينيت، محرر السينما"* ، يؤكد نقطة
جوهرية حين يقول: "نحن ندرك جيداً الجنون الذي يوجـّه أعماله، إنه جنون
الحكاية الخرافية وجنون أولئك الحالمين الذين يقيـّد العالم أحلامهم
بازدراء، رغم أنه يدين لهم بكل ما هو مبهج في الحياة". (1)
إن ثورة
هؤلاء الفوضويين تمتد إلى جميع رموز الحياة البورجوازية، وإلى كل ما هو"
مقدس".
لقد هاجموا الأمهات دون رحمة، قلبوا عربات الأطفال واحتقروهم، هجوا الحب
الوجداني، تهكموا على النهايات السعيدة وعمليات الإنقاذ في اللحظة الأخيرة،
لوّثوا قدسية الوطن والعائلة، سخروا من العالم كله ولم يستثنوا أحداً أو
شيئاً.
المؤرخان
الألمانيان إينو بتالاس وأولريخ جريجور أشارا إلى الانقلاب الذي قام به "ماك
سينيت" ضد معلمه "جريفيث"* في ما يتعلق بالموضوعات والأساليب، فعلى الرغم
من أنه استخدم مناهج جريفيث في المونتاج ورسم الحبكات العاطفية، إلا أنه لم
يفعل ذلك من أجل تكريس الواقعية والسرد الملحمي، إنما لتفجير وهم الواقع
وترابط السرد، كما أنه هجا ـ بصورة خاصة ـ أسلوب وحبكات المعلم في العديد
من أفلامه.
شارلي
شابلن، الأكثر وعياً سياسياً في المجموعة الكوميدية، يدمج الرثاء والرؤية
التراجيدية للحياة مع الخيال البصري والبراعة الجسمانية.
الرثاء
يتخلل أعمال بستر كيتون وهاري لانجدون أيضاً، حيث التشاؤمية القاسية ـ رغم
المقاومة العنيدة ضد الأشياء والمؤسسات ـ ترغمنا على أن نضحك ونبكي في آن
واحد، في محاولة موجعة لتحقيق الذات.
لقد أدرك
يوجين يونيسكو، على نحو جيد، المغزى العميق لهذه الحركة. يقول: "لم أكن
قادراً قط على فهم الاختلاف بين الهزلي والتراجيدي. بما أن الملهاة هي حدس
اللامعقول، لذا يبدو لي أنها تفضي إلى القنوط أكثر من التراجيديا.. إنها لا
تقدم حلولاً. أقول تفضي إلى القنوط، إلا أنها في الواقع توجد خارج نطاق
القنوط أو الأمل (..) الفكاهة تجعلنا واعين، في استبصار حر، لوضع الإنسان
المأساوي أو المفكك.(..) الضحك لا يحترم أي تابو. والملهاة قادرة على منحنا
القوة لتحمّل مأساة الوجود"(2)
للنسبية
والغموض ـ وهما من السمات المميزة للحساسية الجديدة ـ دور كبير في هذه
الأفلام: لا شيء يبدو على حقيقته الأصلية، الصديق يصبح عدواً، المباني
تنهار، الأحداث العابرة البريئة تتحول إلى كوارث تتضمن تخريباً على نطاق
واسع، ولا شيء راسخ أو أزلي. الكون يبدو كمكان غريب وعدائي حيث أقاليم الحب
القليلة والنائية توجد أحياناً لتوفير راحة مؤقتة تخفف من الوحدة والانسلاب.
الأحداث
الإنسانية النادرة يمكن اكتشافها فقط عند شابلن أو في تورطات لانجدون أو
كيتون الرومانسية. الحب لم يصادف أبداً الأخوة ماركس ولوريل وهاردي وفيلدز..
إنه لا يعني الكثير بالنسبة لهم. هاربو (أحد الأخوة ماركس) المجنون..
شهواني صاخب. أما ستان لوريل السلبي فيكتفي فقط بتخيّل النشاط الجنسي
الفوضوي.
إن النجاح
الواسع الانتشار والقبول العالمي لهذه الآثار الفنية لا يدل على التقدير
والاعتزاز بفنهم وقوة صورهم فحسب، بل أيضاً على شمولية الظلم والرياء
اللذين يحاربونهما بضحك شيطاني.. وهذا بالضبط ما جعلهم محبوبين عند
الثوريين الجماليين في النصف الأول من قرننا.