طبيعة المشاهدة السينمائية
يبدأ الهدم أو التدمير في السينما عندما تغمر العتمة صالة السينما
وينبجس الضوء من سطح الشاشة. إنها نقطة الانطلاق في مسيرة التدمير
الطويلة والشاقة، حيث تصبح السينما هنا ميدان سحر تتحد فيه العوامل
السيكولوجية والبيئية لخلق أفق مفتوح أمام الدهشة والإيحاء، ولتحرير
العقل الباطن. إنها الموضع المقدس حيث الطقوس العصرية المتأصلة داخل
ذاكرة تمتد جذورها إلى ماضٍ سحيق ورغبات كامنة تحت نطاق الوعي، تُمارَس
في الظلام وبمعزل عن العالم الخارجي.
إن قوة الصورة، وخوفنا منها، وتلك الرعشة التي تنتابنا وتشدنا نحوها،
هي أشياء حقيقية وفعلية لا يمكن إنكارها. والوسيلة الوحيدة التي يمكن
أن يدافع بها المرء عن نفسه إزاءها، هي أن يغمض عينيه.. ولأن هذا فعل
صعب في السينما، فإنه إذن يظل بدون حماية أو دفاع.
إلى جانب الظلام الذي يطوق المتفرج في الصالة، نجد أن هناك حضوراً
طاغياً آخر للظلام في عمق الشاشة. إذ أن "وهج السينما ليس هو الضوء، بل
الاتفاق السري بين الضوء والظلام، وذلك لأن هناك فترة إظلام بين كل
صورتين متتاليتين على الشاشة، وهي تستغرق ما يقل عن عشر الثانية ولذلك
لا تدركها العين بسبب قدرتها ـ أي العين ـ على الاحتفاظ بصورة الإطار
السابق لفترة تتراوح بين واحد إلى عشرة وواحد على عشرين من الثانية
ومتقطعة والعين هي التي تتخيل أن ما تراه استمرار فعلي للحركة بسبب
تلاحقها السريع، فإننا نصل إلى نتيجة هامة وهي أنه بدون مساهمة المتفرج
الفسيولوجية والسيكولوجية فإن السينما لا يمكن أن توجد.
ضمن هذا المحيط الغريب والمعاير يبيح المتفرج نفسه ـ طوعياً وعن طيب
خاطر ـ لانتهاكات الصور القوية التي تغزو حواسه وذهنه بعنف، والتي
أبدعها وعالجها ببراعة مخرج ـ ساحر يعرف جيداً كيف يتحكم في رؤيته
ويوجهها التوجيه السليم.
صحيح أن كل الرؤى، حتى تلك غير الموجهة، هي ديناميكية وتعكس ـ كما يذكر
أرنهيم ـ غزو الكائن الحي من قبل قوى خارجية تفسد توازن الجهاز العصبي،
ولكننا نلاحظ، من جهة أخرى، بأن المتفرج قادر في الحياة اليومية على
تحويل بؤرة اهتمامه كيفما يرغب وحسبما يشاء دون أن يفقد حس الاستمرارية
والتواصل مع بيئته، بمعنى أن له الخيار في أن ينظر أو لا ينظر.. بينما
الأمر يختلف في السينما، فهو يلبث في مكانه مأسوراً، مسحوراً، مركزاً
انتباهه على التتابع السريع والمتعذر اجتنابه للصور، ولا يستطيع أن
يحيد ببصره جانباً أو أن يمنع تدفق الصور الغازية.. خاصة عندما تكون
هذه الصور ـ بقوتها وهيمنتها ودرجة سرعتها وسياقها وتسلسلها
واستمراريتها ـ مُركَبة ومرسومة بعناية ودقة، في سبيل إحداث أقصى حد من
التأثير، بواسطة طرف ثالث: هو صانع الفيلم.
وهكذا، في عتمة الصالة التي تشبه الرحم، مغموراً بالصور، نائياً عن
العالم الواقعي، معزولاً حتى عن بقية المشاهدين المجاورين له.. يبدأ
المتفرج في ولوج الحلم والانتشاء بذلك الخدر اللذيذ الذي يدغدغه ويسمو
به فوق الواقع وفوق العالم. عندئذ يتحرر "اللاشعور" من الكوابح
العُرفية بينما تُكبت ملكاته العقلية المنطقية.
مهما تعددت التحليلات فإن الصورة تظل قوية وفعالة، وليس بمقدور المرء
أن يصدها أو أن يصرف الانتباه عنها، نظراً لأن المرء (ربما كاستجابة
لذاكرة سلفية ذات جذور عميقة ترسخ فيها الخوف أو البهجة الطفولية) لا
يستطيع أن يقاوم جاذبية الحركة (عندما يدخل غرفة ما أو دار سينما، فإن
عينيه تنجذبان بشكل مباشر وتلقائي نحو الأشكال المتحركة أولاً) أيضاً
هو لا يستطيع أن "يقاوم" التغييرات المروعة التي سببها المونتاج:
الاقتحام المفاجئ للأشكال "داخل الكادر، تفجر الصور وتوهجها في درجة
أسرع مما يحدث في الواقع، القدرة الحسية للقطة القريبة التي تبدو
الأشياء بداخلها مضخمة ومحسوسة أكثر.
الصورة تسبق زمنياً اللغة والفكر، وبالتالي تملك القدرة على الوصول إلى
أعمق وأقدم طبقات النفس.. أكثر من الكلمة أو الفكرة. لقد كانت الصورة
مقدسة في العصور البدائية مثلما هي اليوم، وبالنتيجة كانت مقبولة ومسلم
بها كما لو كانت في الحياة والواقع والحقيقة، وهذا القبول لم يتم
بواسطة العقل بل على المستوى الشعوري. إن الإنسان يبدأ بما يراه أمامه
ثم ينطلق كخطوة تالية ليمثل الواقع ويصوره، إنه يريد أن يحتوي كل ما
يجري أمامه ضمن نطاق بصره، إن يتمثله بصرياً، ومن هنا كان الفن ضرورة
ملحة.
وبالرغم من ذلك فإن الصورة، مهما كانت جديرة بالتصديق و"موثوق بها"، هي
أساساً تحريف للواقع، ليس فقط لأنها تفتقر إلى العمق أو الكثافة، تواصل
الزمان ـ المكان، أو اللاانتقائية في تناول الواقع.. وإنما لكونها تؤكد
مظاهر معينة وتبرزها بوضوح وتركيز مقابل إقصاء المظاهر الأخرى، وذلك
يعزلها داخل إطار مركز في تسلسل متنامي باستمرار.
وأخيراً، إن قوة الصورة وفعاليتها، وعلاقتها المباشرة بالجزء الكامن
تحت عتبة الوعي عند الإنسان، وقدرتها المذهلة على تخطي التخوم وممارسة
تأثيراتها في الجماهير، وانتهاكاتها للأعراف والقوانين والقيم.ز كل هذا
جعل السينما هدفاً مكشوفاً للقوى القمعية في المجتمع: الدولة،
المحافظون، أجهزة الرقابة.
ولكن يبدو واضحاً أنه لا القمع ولا الخوف قادران على كبح الانطلاقة
العنيفة نحو سينما أكثر تحرراً، تستكشف فيها كل الموضوعات المحظورة
وتُدرس بجسارة ودون مواربة.