كثيرون ينسبون النجاح الذى حققته الفنانة الراحلة الكبيرة عطيات عوض، إلى زوجها
السابق الشاعر العظيم عبد الرحمن الأبنودى، وهذا التصور كان بلا شك ظالم
بجدارة، لأن الحياة التى عاشها الأبنودى وعطيات معا، كانت حياة مثمرة بقوة
للشاعر وللفنانة، والذى يتأمل كيف التقت عطيات بعبد الرحمن، وتطورت الأمور
ببساطة حتى وصلت إلى وثيقة زواج، سيدرك قوة الشراكة والتعاون بين الاثنين، فبعد
هذا الزواج بعام واحد، تختطف المباحث الشاعر وتودعه المعتقل مع رفاقه المثقفين
والكتاب والمبدعين المتمردين على الأوضاع السياسية، فتهب الفنانة لمناشدة أو
مطاردة السلطات للإفراج عن زوجها ومن معه، وتقرر أن تكتب يوميات حارة لتشرح
وتسرد فيها وقائع شديدة الخصوصية، وشديدة العشق والحب والحيوية والدفء، آي نعم
لم تكن هذه الرسائل تصل إلى المعتقل بأى شكل من الأشكال، إلا أنها تعطى إحاطة
شاملة بكل ما كان يحدث فى غياب الشاعر، وظلّت عطيات محتفظة بتلك اليوميات، حتى
نشرتها بعد كتابتها بثلاثة وثلاثين عاما، أى عام 1999، وكانت فترة الاعتقال من
أكتوبر 1966حتى مارس 1967.
وقد تكون الفترة التى غابها عبد الرحمن الأبنودى فى المعتقل، هى أصعب المراحل
التى مرّت بها الفنانة الشابة، والتى لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، فبعد
الاعتقال مباشرة، تكاثرت الذئاب المفترسة عليها، وكانت عطيات قادرة على
المقاومة بكل أشكالها، وظلّت تدافع عن حقها فى الحياة، وعن حقوق زوجها
المترامية هنا وهناك، حقوق صغيرة، ولكنها كانت تسدّ أبوابا كثيرة من العوز،
مكافآت مستحقة عن أغانى مسلسل هنا، وأجرة أغنية هناك، وراحت عطيات تكتب تلك
المعاناة بدقة متناهية، ولأنها يوميات مكتوبة للحبيب، جاءت مفعمة بحنان غامر،
ورقة مفرطة، تكتب فى يوم 4/12/1966 الأحد:
(فى الثامنة إلا الربع، فى فجر استيقظت فجأة، وقلت: مين.. مين بيخبط.. وتهيأ لى
أنك أنت من كان يخبط على الباب، قمت من النوم مفزوعة، قعدت على السرير، وبقيت
أتسمع وأتسمع، لا يوجد خبط، كان مثل الحلم، لكنى أتذكر وأحس جدا استيقاظى
المفزوع، ومازلت أسمع صوتى وهو يردد: مين .. مين..، هذه هى المرة الثانية التى
يحدث لى هذا الحلم، منذ عدة أيام استيقظت أمى على صوتى يصرخ: مين .. مين، خرجت
وهى تفتح الباب، ثم عادت وقالت: ما فيش حد يابنتى.. انت كنت بتحلمى).
إذن لم تكن الذئاب فقط هى التى تزور عطيات، ولكن الأحلام والكوابيس، والمخبرون
الذين يتظاهرون بأنهم صنايعية أو ما شابه، ويزيدون من حركات التحرش المشبوهة،
هناك كذلك الحاقدون والشامتون والكيادون، ولكن كذلك كانت هناك كوكبة من
المحبين، والأصدقاء، والجيران الجدعان، الأخيرون هؤلاء، هم من كانوا يخففون
وطأة الحدث الذى سقط من علّ على رأس عطيات وزوجها وشقيقه وأبيه وأمه، وكذلك
الحياة الثقافية والفكرية والسياسية، إذ إن هذه الحبسة ضمّت خيرة مثقفى الوطن،
جمال أحمد الغيطانى وابراهيم فتحى وسيد حجاب وصلاح عيسى وسيد خميس وصبرى حافظ
ومحمد عبد الرسول وغالب هلسا وغيرهم، وكان الاتهام كالعادة "إنشاء تنظيم شيوعى،
يهدف لقلب نظام الحكم"، مجموعة من المثقفين والكتّاب والمبدعين، تم القبض عليهم
تحت لافتات خطيرة، من الجدير أن تثير رعبا كاملا فى صدور الأهل والأصدقاء
والجيران والمعارف.
ولذلك فالحدث كان مريبا ومثيرا ومخيفا، لأن معظم المعتقلين الشباب، لم تكن لهم
أى خبرة بمثل هذه الإجراءات المشددة، حيث تعرضوا للفزع من جراء القبض عليهم، ثم
اقتيدوا إلى محابس كريهة، وهناك تم التنكيل بهم، وإجبارهم على الاعتراف بما ليس
حقيقيا، إنهم مجرد مبدعين، لا يعرفون إلا إنتاج الأفكار والكلمات والفنون،
وأخشى ما تخشاه السلطات كانت ومازالت الأفكار، خاصة لو كانت تلك الأفكار مقرونة
بالجمال والابتكارات، وكان عبد الرحمن الأبنودى أحد هؤلاء الذين سقط عليهم
الحدث.
لذلك كانت عطيات لا تتخيل أن زوجها ذهب، فكانت تتخيله دوما معها، فى الرسالة
ذاتها تقول: "ذهبت بالأمس أنا وكمال عند عبدالله المسعود.. وقابلتك هناك، سمعت
صوتك على الشرائط المسجلة لديه، كنت أتصور أننى سأصاب بالانهيار، أو أنخرط فى
البكاء، لكن كان لدى شعور غريب، كنت فرحة، وكأنك موجود معى، تكلمنى، نسيت أنك
هناك، وكنت تنظر لى بعينيك كما تفعل دائما عند إلقائك الشعر. سمعت قصيدة
(صيادين النجم).. ولما صيّاد الكلاب مرّ ع الدرب الحزين بالبندقية الضيّقة..
صاد الكلاب على كل باب .. شفتيش بلد زى البلد دى عمركيش".
كان الاستدعاء والخيال والاستشراف عناصر تحيا معها عطيات الأبنودى طوال فترة
الاعتقال، وما بعدها وما قبلها، وهذه العناصر هى مكونات الفنان ورأسماله، وكانت
عطيات منذ أن جاءت من بلدتها "السنبلاوين"، لتلتحق بكلية الحقوق، وهى تقفز
بخيالها إلى حياة أفضل، رغم أنها رسبت فى السنة الأولى من الكلية، ولكنها
واصلت، وارتبطت بزواج فاشل قبل زواجها من عبد الرحمن عام 1965، والتحقت بعدد من
الوظائف الفنية، بداية من قاطعة تذاكر فى مصلحة السكك الحديدية، إلى مسرح
العرائس إلى المسرح القومى إلى مسرح التلفزيون، والتحقت بمعهد السينما، والذى
لم تنجح فيه للمرة الأولى، ولكنها واصلت، ودرست السينما لتحقق أحلامها وربما
أحلامنا كذلك، ورغم أن اعتقال زوجها كان من المفترض أن يكون عائقا لحياتها،
ولكنها استطاعت أن تقاوم حتى خروج الأبنودى فى مارس 1967، ويبدآن من جديد حياة
عامرة ومثمرة، عبد الرحمن فى الشعر والأغنية، وعطيات فى السينما التسجيلية التى
أبدعت فيها أجمل الأفلام.
عشقت عطيات السفر للمعرفة ولحب الناس جميعا، لا تفرّق بين مصرى وغير مصرى، ورغم
أنها تأخرت فى ركوب الطائرة، ولم تكن ركبت الطائرة إلا مرة واحدة من القاهرة
إلى الأقصر، فقد تمرست على رحلات السفر بجدارة، وكانت تونس أول محطة سفر لها فى
حياتها، إذ كان هناك مهرجان السينما فى مدينة "قليبية" فى أغسطس 1971، هناك لم
تشعر بالغربة إلا من خلال اللغة التى يستخدمها التوانسة، وهى اللغة الفرنسية،
وكتبت عطيات أجمل "أدب رحلات"، فهى ليست مخرجة سينمائية فقط، ولكنها كاتبة من
طراز خاص، وكانت الحياة الحميمة بينها وبين عبد الرحمن تدفع الحيوية لكل منهما،
وها هو يرسل لها خطابا فى يوم 5 أغسطس يقول فيه:
(عطيات..
أكتب إليك من القناطر.. فى نفس اليوم .. الساعة الآن الخامسة والنصف.. ومازالت
عيونى موجوعة من بكاء الصباح.. بكاء الوداع، لا أحس الوحدة.. فأنت ملأت كل
مكان.. القلب والساعات والدنيا.. أنت مبذورة فى كل شئ.. نابتة فى كل شئ.. صوت
أقدامك.. صدقك.. رغبتك فى أن يصبح كل شئ فى هذه الحياة .. على ما يرام.. وصوتك
هو خطوات السنين والذكرى.
عبد الرحمن
سردت عطيات كل ما كان يحدث فى كل البلاد التى سافرت إليها فى كتابها البديع
"أيام السفر"، ولم تكن عطيات تتحدث عن سويسرا أو إيطاليا أو باريس كأماكن
جغرافية، ولكنها كانت تسرد وتشرح وتناقش طبائع هذه البلاد وفنونها وثقافتها
ووجودنا العربى هناك، وكل هذا ناتج عن حبها الذى كان عارما بالحياة وبالناس
وبالسفر، وهذا ما جعل عطيات عوض "الأبنودى" فاعلة بجدارة فى كل ما أبدعته من
سينما وكتابة ورحلات وحياة كاملة. |