"أطفال صعيدنا بيتعلموا من مصغرهم شيل الحمول وشيل الهموم"
عبد الرحمن الأبنودي- من فيلم التقدم إلى العمق
من بين أكثر من عشرين فيلما تسجيليا على مدار أكثر من ثلاثين عاما تبدو المخرجة
عطيات الأبنودي يمكن بسهولة أن نرصد عدة خصال أسلوبية أساسية في سينما عطيات
الأبنودي تصلح كل منها ليس فقط مدخلا لقراءة عالمها الفيلمي ولكن محور لدراسة
كاملة يمكن أن تمتد على استقامتها لتصبح منهجا تعليميا في كيفية صياغة الموقف
التسجيلي من المجتمع والمكان والبشر الذي يسكنون الزمن.
أبزر هذه الخصال الأسلوبية هو ذلك الحضور الجيني الواضح للأطفال ولفكرة الطفولة
كمرادف للحلم/ للزمن الحاضر/ للغد والمستقبل/ لإدخال البهجة على اللون المعتم –
على حد تعبير عبد الرحمن الأبنودي في تعليقه الصوتي على فيلم التقدم إلى العمق-
ولا تبدو الأبنودي مولعة بإقامة علاقات داخل عوالم أفلامها عبر بوابة الأطفال،
فصاحبة (الأحلام الممكنة) كانت على ما يبدو ترى في الطفولة مرادفا مجسدا للحلم
الممكن أو الحلم الذي تخشى عليه من حاضر شائك وغير مطمئن وخبيث، وعبر ذلك
الممكن وعبر الخوف على الممكن من عدم التحقق صاغت الأبنودي لقطات أفلامها حتى
أصبحت نسيجا أسلوبيا خاصا يحتوي بصمتها السينمائية.
ولا نقصد بحضور الأطفال أو الموتيفات الشكلية والموضوعية المرتبطة بالطفولة هو
ذلك الحضور بتلك الأفلام التي تشبه "التقدم إلى العمق" أو"بحار العطش" – والتي
يلعب فيها الأطفال دور الموضوع الأساسي أو جزء مؤسس لأزمة العمل ككل- ولكن حتى
في تلك الأفلام التي لا تحتوي ظاهريا على أي علاقة بصرية مع الأطفال أو ليست
بها حاجة لوجود أطفال من الأساس مثل "حديث الغرفة 8" وهو مرثية تسجيلية عن
الشاعر أمل دنقل أو "اللي باع واللي اشترى" وهو مانفستو سياسي واجتماعي ضد
بداية ظاهرة بيع الأرض والبحر والهواء إلى من يملك المال أو السلطة أو النفوذ.
أغنية البدايات
كعاداتها تبدأ عطيات الأبنودي أفلامها دوما بأغنية، أغنية البدايات هي واحدة من
بصماتها التي تمررها بهدوء إلى وجدان المتلقي قبل الولوج إلى الفيلم، هي عتبة
الفيلم الصوتية التي تهيئ بها المشاهد لحالات التلقي على اختلاف الموضوعات، حتى
في "حديث الغرفة 8" لا يكاد ينتهي المشهد الأول لشهادة الأم الثكلي عن وليدها
الشاعر الراحل حتى يبدأ المشهد الثاني بعدودة حزينة يصاحبها صوت بكاء الأم على
قبر طفلها/الشاعر الغائب.
في أولى أفلامها "أغنية توحة الحزينة" 1971 والذي صاغته ضمن مشروعات التخرج من
قسم الإخراج بالمعهد العال للسينما ما هي الافتتاحية البصرية والصوتية التي كما
يقال تحمل في الأفلام الجيدة جينات الفيلم ككل على مستوى الموضوع والحكاية؟
لقطة واسعة مأخوذة من صناديق مراجيح المولد الصاعدة لمجموعة كبيرة من الأطفال
التي تنظر إلى الكاميرا – من زاوية رؤية الجالس في المراجيح- وخلفهم بيوت الحي
أو القرية أو المدينة المقام بها المولد – الذي نصبت المراجيح من أجله- بينما
شريط الصون يحتشد بأصوات الأطفال المزدحمين على المراجيح- والمحدقين إلى
الكاميرا- مختلط بصوت أعلى لواحدة من أغنيات الأراجوز الشهيرة التي تصبغ شريط
الصوت كله بحالة احتفالية ترفيهية ساخرة وتراثية أصيلة.
هذا هو المشهد الأول أو اللقطة الأولى التي قررت أن تفتتح بها عطيات الأبنودي
حالتها الفيلمية والذي سوف يصبح كما أشرنا جين أسلوبي أساسي ضمن جيناتها
الأسلوبية العديدة التي سوف تصنع اسمها كواحدة من أصحاب المواقف التسجيلية
الهامة في تاريخ السينما التسجيلية العربية والمصرية على حد سواء.
في أغنية توحة الحزينة بينما يمرح الأطفال وسط مراجيح المولد نلاحظ أن أغنية
البدايات الخاصة بالأراجوز أقرب للمرثية الحزينة منها للأغنية المبهجة:
أه ياليل طويل يا ليل/ اه يا ليل طول ياليل
سجنوني وخدوا المفاتيح/ وقالوا لي اللي سجنك غايب
ولا طاقة يجي منها الريح / ولا سلام م الحابيب
هذا التناقض بين مشاهد الأطفال فرحين بطقوس وألعاب المولد وبين الشجن الذي تبثه
الأغنية حتى مع وجود صوت الأراجوز الطريف ككورس خلفي يؤهل المتلقي للحالة
الشعورية الأساسية بالفيلم وهي حالة توحة الفتاة الصغيرة التي تعمل كواحدة من
فناني الترفية الشعبيين في الموالد ولكنها لا تستطيع أن تستمتع بالمولد
والألعاب سواء التي تمارسها أو التي تقام حولها لأنها باختصار على وشك أن تتحول
في هذا السن المبكر إلى امرأة أو على حد ما يبثه التعليق الصوتي للفيلم من
معلومات شعرية:
وانا ماشية.. ماشية بفكر
ما انا خلاص على وش جواز
ولا انتم برضك كنتم ناس
قاعدة بتتفرج عل الناس
اللي بتتفرج عل الناس
يضم توحة الحزينة تلك اللقطات التي سوف تتكرر كثيرا في العديد من أفلام
الأبنودي، ليس فقط للأطفال وحشودهم المتموجة أو حضورهم الزاهي أو المقلق أو
المبهج أو الحساس، ولكن ثمة لقطات اجتماع الأسرة أو المجموعات الإنسانية
(الأباء والأمهات والأبناء) على موائد الطعام سواء في الشارع أو في أحد أركان
البيت أو على ظهر مركب أو في طرف حقل اخضر بعيد.
هذه الأيقونة البصرية سوف توازيها وتجاورها وتتكرر معها إيقونة أخرى عرفناها في
أكثر من فيلم لعطيات الأبنودي ولكثير من مجايليها أبرزهم بالطبع المخرج هاشم
النحاس في تجاربه عن البيئات المصرية المختلفة، ونعني بها أيقونة الأم والابن.
في فيلم السندويتش 1975 – ثالث أفلام عطيات بعد أغنية وتوحة الحزينة وحصان
الطين- نسمع على التيترات تلك العدودة التراثية الشهيرة (يا غصن عالي لما وقع
شت الحمام وراح) بصوت رجالي أشبه بصوت الحادي، ثم يبدأ تتابع اللقطات للمشهد
الأول بلقطة قريبة للأم الصعيدية بينما يجلس الابن في مقابلها وبيدها تدور
الرحايا بينما تلملم يد الابن الطحين المقذوف ناعما من أسفل الحجر.
تتخذ أيقونية الأم هنا دلالات كثيرة منها الأرض ومنها الوطن ومنها رحم الحلم
ومنها الحاضر بينما يتخذ الطفل مسارات دلالية تخص المستقبل والغد بالإضافة إلى
واقع المعاش وصولا إلى عمق الحالة التراثية المتمثلة في اختصار تاريخ كامل
لفئات بشرية وإنسانية عديدة من أهل مصر والذي تكثفه عطيات عبر مشهد هام جدا وهو
مشهد الطفل الذي يصنع سندويتش من لبن الماعز على رغيف الفيش الجامد بعد أن
أعياه طويلا محاولات كسر الرغيف الصلب (في ارهاصة ذات دلالة على صعوبة يومه
وعسر مستقبله) قبل أن يفلح أخيرا في كسره وانتزاع قلبه شبه اللدن وملئه باللبن
– وهي بالطبع واحدة من الذكريات الكثيرة التي طالما تحدث عنها عبد الرحمن
الأبنودي عن طفولته ومن هنا ربما حملت التيترات اسمه كصاحب لفكرة الفيلم-.
يمكن أن نتوقف هنا أمام لك العلاقة الحميمية بين الإنسان والحيوان في أفلام
عطيات الأبنودي والتي يمكن أن تصبح هي الأخرى واحدة من جياناتها الأسلوبية
الأكيدة، فمنذ أغنية توحة الحزينة حيث نرى كلبا صغيرا يقف فوق أحد أسطح البيوت
يشاهد لاعبوا المولد ومن بينهم توحة مرورا بحصان الطين الشهير الذي صنعت منه
عطيات رمزا رائعا لفكرة السخرة والصيرورة والذي كان هروبه منطلقا إلى بعيد صيحة
تحرر مبكرة ضد النظام الاجتماعي القاهر في مجتمع مضغوط وضاغط، وصولا إلى المعزة
الجميلة التي كانت جزءا من عملية صناعة السندويتش الشهي بدلالاته التي سبق
وأشرنا إليها، ومن بعدها عشرات البقر والجاموس التي تتوزع في لقطات كثيرة هنا
وهناك داخل العوالم الفيلمية لعطيات بل وحتى السمك الذي نراه في أكثر من فيلم
مثل بحار العطش واللي باع واللي اشترى.
تقدم إلى العمق
في السبعينيات عندما بدأت عطيات أولى تجاربها التسجيلية ضمن مجموعة من أبرز
مخرجي ومجربي السينما التسجيلية المصريين (هاشم النحاس وعلى الغزولي وأحمد
راشد) ومصل كل أصحاب المواقف السينمائية التنويرية – والتسجيلية موقف وليست نوع
على حد قول المخرج الفرنسي إيال سيفان- ارتبطت مواقف/ تجارب المخرجة الكبيرة
بعدد من حركات المجتمع المدني المصري آنذاك وذلك قبل المد الأصولي المتطرف
للسلفية الدينية القادمة من الصحراء البعيدة.
في فيلمها الرائع التقدم إلى العمق 1979 تبدو التجربة ظاهريا مجرد فيلم توعوي
أو تنموي منتج لصالح أحد جميعات المجتمع المدني المسيحية والذي يلعب فيه
الأطفال والمدارس التي تنشأها لهم الجمعية في أقاصي الصعيد الدور الاساسي على
مستوى الموضوع لكن الفيلم في حقيقة الأمر ومع توظيف متقن جدا لحضور الأطفال عبر
قضية التعليم وأهميتها ولدور المجتمع المدني في رأب الصدع ما بين الدولة
والمواطن – قبل أربعين عاما- إلا أن الفيلم يمكن اعتباره متحفا حيا متحركا
ومزرعة خلايا اجتماعية وانسانسة محفوظة بصريا يمكن من خلال إعادة مشاهدته إقامة
نسيج مقارن بين (الآن وما كان) ورصد حجم التدهور الحضاري والإنساني الذي أصاب
المصريين في مقابل التطور التكنولوجي الذي لم يساهم في دفع هذا المجتمع
العلماني سوى لدائرة العطب والخفوت. إننا نسمع صوت الشاعر عبد الرحمن الأبنودي
في التعليق الصوتي بالفيلم:
الأطفال هما الأطفال
بطول الصعيد
نفس الوشوش
نفس الأسامي
نفس الأحوال
ونكتشف أن تقرير لجنة التعبئة والإحصاء عن القرى الأكثر فقرا في مصر يحتوي على
أسماء قرى يرصدها فيلم عطيات الأبنودي قبل أربعين عاما كانت الجمعية المسيحية
المصرية تحاول أن تطبق عليها المشهد الإنجيلي القائل:
قال بطرس: لقد سهرت الليل كله ولم أصطد شيئا
فرد عليه المسيح قائلا: تقدم إلى العمق
استغلت عطيات أطفال العمق لكي تسجل رؤيتها لفكرة التقدم عبر نشاط واحدة من
منظمات المجتمع المدني – المفتقد- بداية من أغنية (الله ما أحلى الزحام) لتي
بدأت بها الفيلم كما سبق وأشرنا إلى العتبة الصوتية التي تضها على باب كل فيلم،
وصولا إلى نفس الأغنية في النهاية – في بناء صوتي دائري يفيد تقوية المعنى
وتزكية الصورة لحساب الطاقة الإيجابية المنبعثة من حشود الأطفال في المدارس
بينما يغنون في الخلفية بلادي بلادي وكأن السبيل الوحيد لتغيير واقعهم الفقير
والمر والمليئ (بالهموم والأحمال) هو وجودهم في المدارس.
في تتابعات اللقطات التي تبنيها عطيات بحساسية مونتاجية واضحة – وهي التي قامت
بعملية المونتاج لأكثر من نصف أفلامها- يبدو صوت رسالتها واضحا: اصنعوا الأطفال
ولكن لا تتركوهم في الشوارع أو ساحات البيوت أو الأزقة المتربة، اذهبوا بهم إلى
المدارس وعلموهم من أجل أن يصنعوا غدا أفضل من يومكم هذا في بلدكم هذا في
زمانكم هذا.
هذا الرسالة تبدو واضحة من خلال تتابع اللقطات لأطفال في ساحات البيوت والأزقة
قبل لقطات الأطفال في المدارس وفصول التعليم، ولا تنس عطيات أن تنبه إلى أن من
نراهم ليسوا كل أطفال مصر فثمة تلك اللقطة لذلك الطفل الذي يحمل نيرا خشبيا على
رقبته وفي أطرافه تتدلى جرادل الماء بينما ينظر إلى الكاميرا بنصف عين كأنما
ينتظر منها أن تبلغ من هم قادرين على أن يكفوا الحمل عن رقبته ويمنحوه بدلا من
جرادل الماء قلما وكتاب وحرف.
أطفال العطش
يا ريس البحر خلي بالك من البرين
السكة سليمة اعمل حساب دخلتك للبرين
وحاسب من البحر ليجيلك على البرين
هكذا تصنع عطيات العتبة الصوتية لفيلمها "بحار العطش" 1981 عبر موال من مواويل
الصيادين وهي الأغنية التي يمكن بسهولة أن نراها متجسدة عبر سياقات الفيلم الذي
يتحدث عن عطش قرية برج البلس آخر قرية في لسان الأراضي المصرية الممتد باتجاه
البحر شمالا. فأهل القرية يضطرون إلى التعامل مع ماء البحر المالح المر في
حياتهم اليومية الصعبة نظرا لعدم وجود ماء حلو يأتيهم من (النيل السعيد).
بعدما يجتاز المتلقي العتبة الصوتية كأحد مفاتيح قراءة الفيلم نسمع أحد
الصيادين يتحدث عن طفولته وعمله مع أبيه واشتراكه في صنع الفالوكه/القارب الذي
يعمل عليه صيادا.
لقد سبق وأشرنا إلى أن مرحلة الطفولة سواء في تجليها الواقعي أو في ذكرياتها
البعيدة التي هي جزء من تكوين الشخصيات – في الحياة والدراما- هي جين أسلوبي
اساسي بالنسبة للمخرجة، فكل الشخصيات الأساسية أو شبه الأساسية في أفلامها تبدأ
الحديث دوما انطلاقا من مرحلة الطفولة كمكون أساسي مجتمعي وإنساني ونفسي، بل
أننا نشاهد لقطات بالفعل لأطفال يجلسون في أحد المراكب مع أبيهم وكان الصياد
بصوته الذي يحكي عن طفولته يسافر عبر الزمن بصريا أو كأنه نفس الطفل الذي جلس
في الفلوكة صغيرا لا يزال.
إن الأطفال يجلسون في الفلايك كأنهم في المدرسة أو البيت فهم جزء من المشهدية
العامة للفيلم، بل أن شريط الصوت في مشاهد الصيد في البحيرة وهي المشاهد
الافتتاحية في الفيلم يختلط فيه صوت دقات تخويف الأسماك لصيدها بصوت الأطفال
تحديدا – لا ننسى أن عطيات الأبنودي كانت تقوم بمونتاج الصوت والصورة بنفسها في
هذه الأفلام- الأطفال من البداية هم جزء هام من الواقع الحياتي للقرية كما أنهم
رمز مستقبل القرية مجهول المصير في ظل العطش الطويل المستمر.
بالطبع يجدر أن نشير في بحار العطش إلى مشهد تناول الأسرة للطعام، والذي يتحول
إلى مشهد إجباري في أفلام عطيات يوازي العيش/ الحياة/ الرزق/ لم الشمل/ لحظات
الفرحة بإسكات الجوع/ الأمل/ الحميمية/ الإنسانية في أبسط وأجل صورها.
إن أطفال العطش في الفيلم حاضرون في لقطات الطعام وشرب الجوزة كمن يستعدون
لممارسة دورهم القادم، يتلقون تعاليم الكبار ويدرسون هيئتهم ليحاكونهم فيما
بعد.
إن في بحار العطش تبدأ فكرة عمالة الأطفال في التشكل داخل سياقات أفلام
الأبنودي، فالأطفال على كثرتهم مع ضعف الموارد المادية وغياب البنية الأساسية
للمجتمع – المتمثلة في الماء الحلو- يبدو ظهورهم أقرب للشكوى والنقد الاجتماعي
منه لتصوير فكرة توارث الأبناء لمهن الأباء، هنا يختلف أطفال البرلس عن أطفال
العمق في الفيلم السابق خاصة في لقطات ورشة الشباك التي يديرها طفلان يبدوان
كرمز لطبقة الأطفال بالقرية كمن تعثر بداخل هذه الشباك بينما صوت الطفل
(البرلسي) المصاحب لمشاهد ورشة الشباك يأتي حزين، غير هانئ، مهزوم، يتحدث عن
ازدحام البيت وقلة المال وغياب شكل واضح للمستقبل.
تجدر الإشارة إلى أنه ثمة حركة جغرافية واضحة في تتابع فيلمي (العمق والعطش) من
أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، كما يختلف بحار العطش عما قدمه مجايلها هاشم
النحاس عندما ذهب إلى المنزلة في (الناس والبحيرة) ففي بحار العطش ثمة اشتباك
سياسي اجتماعي يحتوي على قدر كبير من النقد على خلفية ملامح انثروبولوجية غائمة
ليست هي محط اهتمام الصورة التسجيلية.
تصل عطيات إلى واحدة من ذرى تكريس الأطفال كأداة سرد بصرية ودرامية في استخدام
أصوات المظاهرة الطفولية التي نسمعها على شريط الصوت تردد (عايزين ميه) بصوت
الأطفال محتشدين في ساحة القرية بينما لا نراهم في هيئة المتظاهرين ولكننا نلمح
جدية النداء الطفولي على وجوه الأمهات العابرين حاملين أدوات الطبخ نحو بيوت
يسكنها العطش.
في النهاية تتابع الكاميرا طفلة صغيرة تغسل أدوات المطبخ برمال البحيرة ثم تصعد
منها حاملة الأدوات وكأنها إرهاصة بأن المستقبل لن يتغير بسهولة وأنه طالما
تمارس هذه الطفلة هذا الطقس البدائي غير الحضاري في التنظيف فإن كل كلام
الموظفين الذي سمعناه قبلا في شريط الصوت عن التطوير لن يغير شيئا، تسبق لقطة
الطفلة لقطة لسيدات يقمن بنفس الفعل ثم يتبع لقطة الطفلة مباشرة لقطة لسيدة
تعود للبحيرة مرة أخرى من أجل أن تغسل مزيد من الأدوات وذلك في قطع سريع كأنما
ذهبت طفلة وعادت امراة لأن شيئا لم ولن يتغير.
إن قوة الأسلوبية الحقيقية لعطيات الأبنودي لم تكن في قدرتها على الرصد وإنما
في قوة طرحها للأسئلة بشكل متواصل وغير مشروط برقابة أو خوف اجتماعي أو خجل
إنساني، كأنها كانت تصنع الأفلام لتعلن علامات الاستفهام ثم تتركها تنمو داخل
المتلقي بحثا عن إجابات لا تأتي وإنما تتوالد عبر مرور الزمن على أفلامها. |