كنت في السنة الجامعية الأولى، وتوفرت لي فرصة للتدريب بأحد البرامج
التلفزيونية خلال الإجازة الصيفية، في ذلك اليوم كانت المُخرجة عطيات الأبنودي
ضيفة الحلقة التي تنوعت فقراتها ما بين الحديث عن مشوارها في السينما التسجيلية
وعرض فيلم لها بعنوان (حصان الطين).
كانت عطيات الأبنودي ترتدي ملابس صعيدية تَمزج ما بين البساطة والأناقة من تلك
الجلابيب المَنسوجة من قماش التُلّي التقليدي، بعد مشاهدة الفيلم شعرت أن
ملابسها تُشبه فيلمها، الحقيقة أن ملامح وجهها بلونه القمحي كانت كذلك تُشبه
الى حدٍ كبير ملامح وجوه البشر الذين ظهروا في الفيلم، عندما تحدَثَت مع مُقدِم
البرنامج جاءت تعبيراتها الشعبية الذكية وكأنها جزء من شريط صوت الفيلم، كانت
تخرج منها تلقائية بلا تكلّف أو اصطناع.
انتابتني مشاعر مُتضاربة ومُختلطة بعد مشاهدة فيلم (حصان الطين) ما بين الرثاء
لحالة الشقاء والقهر التي يعانيها هؤلاء البشر في خلط الطين لصناعة طوب يبني
بيوتاً لن يسكنوها بينما حصان الطين مُغمّى العينين يوجعه صاحبه بالسياط فيدور
ويدور بلا توقف، وبين مشاعر الحماس التي اشتعلت بداخلي عندما انطلق الحصان
مُبتعداً عن صاحبه بعد أن أزاحوا الغمامة من على عينيه و كأنه يصنع ثورته.
كانت المرة الأولى التي أشاهد فيها فيلماً بهذا الشكل، عَلِقت مشاهد الفيلم في
ذهني ولم تُفارقني لفترة طويلة كما لم يُغادِر شريط الصوت المُصاحِب للصورة
أذني.
بعد نهاية حَلقة البرنامج سألتنا عطيات إذا كان منا من يحتاج الى توصيلة الى
الطريق الرئيسي الذي كان بعيداً عن مكان الاستوديو ويحتاج الوصول إليه المشي
لمدة تزيد عن النصف ساعة، وكنت قد تعودت على ذلك المشوار لأنه لم يكن مُتاح لي
كمُتدرب ركوب السيارة التي تنقل طاقم العمل، قلت لنفسي أنها ربما تكون فرصة
للحديث معها.
في الطريق اكتشفت أننا جيران من نفس الحي السكني فاستمر بنا الطريق طويلاً.
سألتها سؤالاً بدا لي سطحياً وساذجاً ولكنها لم تتعامل معه على هذا النحو..
أعرف ناس كتير مَطحونين وشقيانين زي اللي كانوا في فيلمك، بس هما مش بيرضوا
يطلعوا في برامج التلفزيون يتكلموا عن مشاكلهم عشان نِفسهم عزيزة ومش عايزين
يحسّوا انهم بيشحتوا من حد؟؟
أجابتني بأن البرامج التلفزيونية لا تُتيح الاقتراب كثيراً من الناس، البرنامج
التلفزيوني قد يُعطي فكرة أو نبذة عن حال الناس ولكنه لن يمنحك فرصة مُعايشتهم
والدخول في تفاصيلهم والتعامل معهم كبشر من لحم ودم وليسوا مجرد موضوع أو قضية
تناقشها حلقة في برنامج.
لكي تتحدث عن الناس يجب أن تعيش معهم.. تشعر بما يشعرون، تشاركهم الطعام
والشراب، تتورط في مشاكلهم وهمومهم اليومية، تَحتَضنك أفراحهم ومآتمهم، عندها
لن يشعروا بأنك مجرد شخص دخيل جاء ليتحدث عنهم ليُقدم حلقة في برنامج أو فيلماً
يُعرَض في القاعات.
استأذنتها في مشاهدة أفلام أخرى لها، فتحول بنا الطريق من بيتي الى بيتها، لم
أشعر بحرج الزيارة الأولى الذي كان دائماً ما يُصيبني، شاهدت في ذلك اليوم
ثلاثة أفلام لها دفعة واحدة.. (الأحلام المُمكنة)، (راوية) و(ساندوتش)، تكلمنا
بعدها كثيرا فعرفت أن هذه المُخرجة الكبيرة بنت بلد بسيطة وجَدَعَة تفهم في
الأصول وتعرف معنى أن (الناس للناس والناس بالناس)..
مرت سنوات منذ ذلك اليوم أصبحت فيها عطيات الأبنودي بمثابة الجارة والصديقة
والأستاذة والأم..
تعلمت منها أن صناعة الأفلام ليست مُجرد مِهنة ولكنها حياة تختار أن تعيشها بكل
تفاصيلها..
أستطيع الآن وصف هذه السيدة بكلمة واحدة هي (الصدق).. قليلون جداً في هذا
العالم من يَحملون بداخلهم قوة الصدق وكانت عطيات الأبنودي واحدة منهم. |